العلاقات التركية الروسية: لغز يهز الشرق الأوسط

ريمي دانييل / مركز موشي ديان

15 حزيران/يونيو 2021

بينما تحتفل كل من روسيا وتركيا بمرور 100 عام على توقيع معاهدة موسكو (1921) التي أسست علاقاتهما الحديثة، تستمر صراعات القوى في السياق الإقليمي والعالمي الأوسع في مواجهة هذه الروابط بين الدولتين.

بعد قرون من التنافس والعداء – بدايةً مع احتدام المنافسة بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية وبعدها عندما اختارت تركيا الوقوف إلى جانب الغرب في فترة الحرب الباردة – شهدت تسعينيات القرن الماضي الخطوات الأولى نحو التقارب الخجول بين موسكو وأنقرة. ومع ذلك، بدأت ظاهرة جديدة متشددة وديناميكية غير مسبوقة في عام 2016 بين روسيا وتركيا، أو بشكل أكثر دقة، بين رئيسي البلدين، فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان.

هناك تفاعل متزايد بين تركيا وروسيا منذ عام 2016، لدرجة احتل أهميةً في مختلف ساحات الحرب نظراً لأهميته في توازنات القوى الإقليمية والعالمية. وحاول الباحثون تقييم هذا التفاعل في مناسبات عديدة، ولكن تبقى العلاقات التركية الروسية لغزاً للكثيرين. ولم يؤدي ذلك إلى إعادة ترتيب كاملة للبلدين كما توقع بعض من أكثر مؤيديهم حماسةً ونقادهم الأكثر قلقاً، لكن ومن ناحية أخرى، تغلبوا على أزمات حيث توقع العديد من المراقبين في ذلك الوقت أنها ستقطع العلاقة بين البلدين تماماً. واستخدم المتفرجون مجموعة متنوعة من التعابير لتوصيف هذه العلاقات وإظهار صعوبة تعريفها وغموضها العميق مثل: “تحالف غير مستقر” و”صداقة هشة” و”شراكة مصلحة” و”منافسة تعاونية” و”وفاق غاشم.”

علاوة على ذلك، فقد وقعت سلسلة من الأحداث في الأشهر القليلة الماضية التي أثرت بشكل مباشر أو غير مباشر على العلاقات التركية الروسية، ومنها: وقف إطلاق النار في إقليم كاراباخ والتطورات الجديدة في ليبيا والتوترات المحيطة بإدلب ووصول جو بايدن إلى السلطة والتغيرات في الصراع الأوكراني وبيلاروسيا. كان لكل حدث من هذه الأحداث أثر على بعض العوامل المحددة التي تنطوي عليها علاقات موسكو وأنقرة. هذا المقال هو محاولة لتقييم العلاقات التركية الروسية بناءً على ما ظهر خلال هذه الأحداث الأخيرة.

تقارب المصالح

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، قامت كل من تركيا وروسيا بتطوير العلاقات بينهما في مختلف المجالات، وكانت التجارة واحدة من أهم جوانب تطوير العلاقات، كما وتعتبر روسيا واحدة من أكبر الموردين لتركيا، وتحتل الطاقة مكانة أساسية في التبادلات بين البلدين، وتعتمد تركيا بشكل كبير على روسيا في مسألة الغاز الطبيعي، وفي الوقت نفسه تود أن تكون بمثابة مركز للطاقة بين الغرب المستهلك والشرق المنتج. إلى جانب محاولات روسيا لإنشاء تيارات جديدة لإنتاجها، كان هذا بمثابة حجر الأساس لمشاريع مشتركة بين البلدين، آخرها خط أنابيب تركستريم الذي يمتد من روسيا إلى تركيا عبر البحر الأسود. كما نجحت موسكو في أن تكون شريكاً في جهود تركيا لتنويع مصادر طاقتها من خلال بناء محطة للطاقة النووية في أكويو. هذا وللسياحة دور هام بين تركيا وروسيا، حيث يتدفق عدد كبير من السواح الروس للاستمتاع بالمنتجعات التركية.

إلى جانب هذه العوامل الاقتصادية طويلة المدى، شهدت السنوات القليلة الماضية ظهور سلسلة جديدة من المصالح السياسية المشتركة بين البلدين، أو بشكل أكثر دقة، بين رئيسي البلدين، حيث انعكست نزعات أردوغان الاستبدادية المتنامية على نظام بوتين السياسي. كما لعب الرئيس الروسي أوراقه بذكاء شديد عندما شعرت تركيا بالدعم غير الكافي من الغرب أثناء مواجهتها التهديدات الدولية والمحلية إثر إسقاط الطائرة الروسية من قبل الجيش التركي في عام 2015 وكذلك بعد الانقلاب الفاشل في تركيا عام 2016. ففي الوقت الذي تردد قادة الغرب في التعبير عن دعمهم لأردوغان بعد كلتا الحادثتين، رأى بوتين فرصة في محاولة الانقلاب وكان أول من اتصل بالرئيس التركي. كان شكوك الزعيمين تجاه الولايات المتحدة والدول الأوروبية سبباً في تقريبهما من بعضهما البعض وخلقت هذه التطورات أساساً أوسع وأكثر شخصية للتعاون التركي الروسي.

النجاحات المشتركة

بينما استمرت العلاقات الاقتصادية بين روسيا وتركيا في النمو ببطء، قام كل من بوتين وأردوغان بتطوير علاقة شخصية قوية بينهما، وابتداء من عام 2016، بات الزعيمان يلتقيان بشكل دوري مما أدى إلى شراكة جديدة بين البلدين، وكان ثمار هذه الشراكة في سوريا، حيث أدركت كل من موسكو وأنقرة أن لديهما مصالح مشتركة هناك. فالدعم الروسي للأسد والمخاوف التركية من أن وحدات حماية الشعب الكردية (YPG) والتي يعتبرها الكثيرون الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني (PKK)، قد تفرض سيطرة دائمة على منطقة متاخمة لتركيا، جعلت كلا البلدين يشعران بأن الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، بدأت تنسحب من سوريا، مما منح كل من روسيا وتركيا الفرصة لتنسيق بعض أعمالهما في الصراع السوري. في حين وضعت كل من إيران وتركيا وروسيا برنامجها الخاص لإدارة الحرب الأهلية السورية من خلال عملية أستانا التي غيّرت الوضع على الأرض. وقد مكّن الدعم الروسي الأسد من تحقيق انتصارات هامة على المتمردين واستعادة سيطرته على جزء كبير من سوريا، بينما دعمت تركيا الجماعات الإسلامية التي حاربت الميليشيات الكردية وبدأت بالتدخل العسكري المباشر لإنشاء منطقة عازلة على حدودها.

وعلى الصعيد الدبلوماسي، توصل بوتين وأردوغان إلى سلسلة من الاتفاقات الخاصة لمحاولة حل مشاكلهما في سوريا فيما يتعلق بالتوترات في إدلب، حيث تدعم تركيا المتمردين الإسلاميين كجزء من استراتيجيتها في شمال سوريا ولتجنب موجة جديدة من اللاجئين السوريين إلى أراضيها، بينما تدعم روسيا جهود الأسد للسيطرة على المدينة. وقرر الزعيمان في النهاية بتحويل المدينة إلى “منطقة خفض التصعيد” في عام 2018. وبالمثل، فقد تم إدراج مسألة تقدم تركيا في شمال شرق سوريا في اتفاقية سوتشي التي تم التوصل إليها بين أردوغان وبوتين في تشرين الأول/أكتوبر 2019، حيث تم إنشاء “منطقة آمنة” خالية من المقاتلين الكرد وتسيطر عليها القوات السورية والروسية، بينما بقيت القوات التركية في الأراضي التي استولوا عليها. وعقب الاتفاق، بدأت الدوريات التركية الروسية المشتركة في المنطقة العازلة، الأمر الذي رسخ تعاون البلدين في سوريا.

كل هذا تم دون أي اعتبار للمواقف الغربية بشأن الصراع واعتبر نجاحاً لأردوغان وبوتين اللذين فرضا أجندتهما الخاصة في سوريا على أساس المصالح الوطنية والقوة المفرطة من خلال “تثبيت أقدامهما على الأرض” وخلق سلطة أمر واقع ضد المخططات الغربية الأكثر ليبرالية للبلاد.

الخطوة الأخرى التي عادت بالفائدة للطرفين كانت قرار الحكومة التركية شراء منظومة صواريخ إس -400 الروسية، وكانت هذه وسيلة لتركيا للتعبير عن خيبة أملها تجاه واشنطن ومحاولة لتحرير نفسها من اعتمادها على المزودين الغربيين للدفاع عنها. أما بالنسبة لبوتين، كانت الصفقة بمثابة ضربة لحلف الناتو، حيث أدى إدخال المواد الروسية إلى النظام العسكري لعضو في الناتو خلافاً لقواعد الحلف، إلى توترات بين تركيا وحلفائها وأضعف التماسك الداخلي للحلف.

تزايد التوترات

أخفت هذه النجاحات خلفها العديد من أوجه الخلاف القائمة بين روسيا وتركيا، والتي ازدادت حدتها بمرور الوقت. وبينما تعاونا في سوريا، وجد البلدان نفسيهما على طرفي نقيض في ليبيا، حيث قدمت تركيا، وفقاً لدوافع أيديولوجية وحسابات استراتيجية، دعماً هاماً لحكومة الوفاق الوطني كإرسال المرتزقة السوريين والمعدات العسكرية إلى الجبهة الليبية. وعلى الجانب الآخر، حظي الجنرال خليفة حفتر بدعم المرتزقة الروس. وفي آخر عملية سياسية انطلقت في ليبيا أواخر عام 2020، ظلت موسكو وأنقرة في تنافس مع بعضهما البعض في محاولاتهما للحفاظ على نفوذهما في البلاد، بما في ذلك الوجود العسكري على الأراضي الليبية.

علاوة على ذلك، وبعد مضي فترة نجح فيها أردوغان وبوتين في التعاون في سوريا مع تجاهل معارضتهما في ليبيا، أصبح الصراع السوري تدريجياً نقطة توتر أيضاً، فبعد الانتصارات التي حققتها تركيا ضد وحدات حماية الشعب وانتصارات الأسد على الجماعات المتمردة، تحول الوضع في سوريا إلى لعبة محصلتها صفر، حيث بدأت مصالح البلدين تتضارب وهما الآن في موقع المعارضة لبعضهما البعض كما كان الحال قبل عام 2016. وظهرت الخلافات في تنفيذ اتفاق سوتشي، وتحديداً فشل وقف إطلاق النار في إدلب الأمر الذي حوّل المحافظة إلى المشكلة الأساسية لاستراتيجية روسيا وتركيا في سوريا.

بلغ التوتر حدته بين موسكو وأنقرة في شباط 2020، عندما قامت قوات الأسد بقتل 34 جندياً تركياً متمركزين حول المدينة، مستخدمةً أسلحة عسكرية روسية. في الخامس من آذار/مارس توصل أردوغان وبوتين إلى اتفاق في محاولة لتهدئة الأزمة، وتضمنت محاولة لتكرار جزء من نموذج شمال شرق سوريا في إدلب ألا وهي إنشاء دوريات تركية روسية مشتركة على الطريق الدولي M4 ذي الأهمية الاستراتيجية. ومع ذلك، بقي تنفيذ الاتفاقية أمراً صعباً وظل التوتر بين الجانبين قائماً.

تسببت الأزمة الأوكرانية في ربيع عام 2021 بخلافات إضافية بين موسكو وأنقرة، فقد أعربت الحكومة التركية عن دعمها المتجدد لأوكرانيا وقامت ببيعها ست طائرات بدون طيار من طراز  Bayraktar وثلاثة مراكز قيادة أرضية لتشغيلها. مقابل ذلك، جاء الرد الروسي بإيقاف جميع الرحلات الجوية إلى تركيا، وتم ربط هذه الخطوة رسمياً بالأزمة الصحية في البلاد، ولكن تم تفسيرها على أنها عقوبة ضد قطاع السياحة في تركيا. جاءت هذه التحركات للتذكير بأنه على الرغم من بعض التعاون في المنطقة، يمكن أن يصبح البحر الأسود نقطة مواجهة أخرى بين البلدين على وجه السرعة.

عدم التناسق والصفقات الخاصة: إدارة الأزمة الروسية التركية وحدودها

تؤكد هذه الأحداث على الهشاشة النسبية في العلاقات الروسية التركية. على الرغم من وجود عدد من المصالح المشتركة بين البلدين، فإن العديد من نقاط الاحتكاك تمنعهم من التوافق مع بعضهما البعض. من ناحية أخرى، وجد كل من بوتين وأردوغان – على المستوى الشخصي – تسوية مؤقتة وطريقة للتعامل مع هذه الاحتكاكات دون مهاجمة بعضهما البعض بشكل مباشر. إن تصوراتهما للمصلحة الوطنية والإرادة المشتركة لحل مشاكلهما دون تدخل غربي جعلتهما يتبنيان إدارة صفقات مجزأة للأزمات المختلفة. وقد أدت هذه الإدارة إلى تسويات تتجنب المواجهات العنيفة بشكل مفرط ولكنها لا تقدم حلولاً طويلة الأمد لمختلف المشاكل العسكرية والسياسية، وبالتالي فإن استدامتها أمر مشكوك فيه.

أظهرت التطورات الأخيرة عدم التناسق بين جانبي هذه العلاقة. ومع مرور الوقت، ظهرت تركيا كشريك ضعيف. على سبيل المثال، لديها بعض نقاط القوة ضد روسيا كالتفوق التقني في تصنيع الطائرات بدون طيار كونها فعالة للغاية ضد الأنظمة الروسية المضادة للطائرات مثل بانتسير (Pantsir) في ليبيا وسوريا وأذربيجان. ومع ذلك، فقد ظهر بوتين كالرجل القوي في هذه العلاقة، فقد كانت روسيا الطرف الذي فرض عقوبات على تركيا عندما كانت غير سعيدة منها في عامي 2015 و 2021، وكانت تركيا الطرف الوحيد الذي اعتذرت لروسيا. وفي عام 2016، وفيما يتعلق باتفاقيتي سوتشي و 5 آذار/مارس بشأن سوريا، ظهر الجانب الروسي كلاعب قوي يتمتع بأكبر قدر من السيطرة المباشرة على الوضع السوري.

هذا التباين له جذور بنيوية، ففي القطاعات الرئيسية للتجارة والطاقة والسياحة، تعتمد تركيا على الواردات الروسية. أثناء التوترات بين البلدين في عام 2015، قدرت دراسة أن عام واحد من العقوبات الروسية قد يكلف تركيا ما يصل إلى 0.88 نقطة من النمو الاقتصادي و 8.3 مليار دولار. على الرغم من أن تركيا حاولت الحد من التأثير المحتمل للعقوبات الروسية من خلال التواصل مع أذربيجان كمزود للغاز على سبيل المثال، إلا أنها لا تملك وسيلة لتوجيه ضربة موجعة مماثلة للاقتصاد الروسي، وتفاقم عدم التناسق الهيكلي هذا بسبب النتائج العكسية لاستراتيجية تركيا لإحداث توازن بين الشرق والغرب. أدت سياسة أنقرة المستقلة وإصرارها على الاحتفاظ بمنظومة S-400 إلى استياء الدول الغربية، في حين لم تستطع الدول الأوروبية الانتقام بقوة بسبب استخدام أردوغان لقضية اللاجئين كوسيلة ضغط، وكانت الولايات المتحدة أكثر حرية، خاصة منذ انتخاب جو بايدن، فقد فرضت واشنطن عقوبات على تركيا وطردتها من برنامج F-35. تركيا الآن معزولة عن الساحة الدولية وخاصة أمام روسيا، مما يزيد من ضعف أردوغان أمام بوتين.

قد يكون صراع إقليم كاراباخ أوضح مثال على الديناميكيات المعقدة التي تشكل العلاقات الروسية التركية، وتكشف مصلحة روسيا في كيفية استفادة موسكو من تحركات أنقرة. إن دعم تركيا لأذربيجان جعلها في مواجهة أرمينيا حليفة روسيا، وجعلت قوتها التكتيكية انتصار باكو ممكناً، الأمر الذي ساعد تركيا في وضع موطئ قدم لها في منطقة القوقاز، وهي المنطقة التي ترى موسكو أنها محمية لها. ومع ذلك، عرفت روسيا كيف تبدو مرنة في استخدام رغبة تركيا في حل القضية دون تدخل غربي واستخدام ميزان القوى بينهما لاستغلال النجاح التركي. لقد تصرف بوتين بشكل معتدل وتجنب الدخول في مواجهة مباشرة مع تركيا وفرض نفسه في النهاية على تحمل مسؤولية تنفيذ اتفاقية السلام، وبالتالي أعاد التأكيد على دور روسيا في القوقاز دون المشاركة في الصراع.

الخلاصة  

لم يكن ثمن هذه العلاقات بالنسبة لموسكو كما كان بالنسبة لأنقرة، فإذا كانت تركيا قد حققت مكاسب تكتيكية (كبيرة في بعض الأحيان) من علاقاتها الجديدة مع روسيا، وأغلبها في سوريا، فإنها تبقى محدودة وتكلف أنقرة علاقاتها مع الغرب الذي كان جزءاً أساسياً من الموقع الاستراتيجي للبلاد لعقود. على العكس من ذلك، لم تحقق روسيا فقط مكاسب تكتيكية مهمة في كافة مسارح الحرب وامتلاكها للكلمة الأخيرة في جميع المفاوضات بين البلدين، وإنما حققت انتصاراً استراتيجياً بضرب الناتو من خلال أحد أهم أعضائه. وعلى هذا النحو، تبقى روسيا المستفيد الرئيسي من المغامرة التركية الروسية.

على أية حال، وعلى الرغم من اتساع التباين الموجود بين الجانبين خلال فترة شراكتهما مما جعل روسيا الحكم النهائي للعمليات المختلفة، فقد أظهرت الأحداث الأخيرة أيضاً أن هذا التباين ليس متيناً بما يكفي لردع تركيا تماماً عن الشروع في تحركات إشكالية أو خلق توترات جديدة. بناء على ذلك، لا تزال العلاقات التركية الروسية نتاج العلاقات الدولية الآنية التي يصعب التنبؤ بها في ظل عواقب مدمرة محتملة لكلا البلدين والمسارح التي تتشارك فيها.

https://dayan.org/content/turkish-russian-relations-puzzle-shakes-middle-east

زر الذهاب إلى الأعلى