اتفاقية عبدي – الشرع… عقدٌ جديد لسوريا أم هدنة مؤقتة؟
وليد الشيخ

في واحدة من أكثر اللحظات حساسية في تاريخ سوريا الحديث، وبعد سقوط النظام المركزي في دمشق، ظهرت مؤشّرات على تحوّلات جذريّة في المشهد السياسي والعسكري، أبرزها كان: توقيع اتفاقية عبدي – الشرع، بين قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، ورئيس الحكومة الانتقالية أحمد الشرع. هذا الاتفاق لم يكن مجرد تفاهم عابر، بل خطوة جريئة نحو إعادة تعريف الدولة السورية، وترتيب أولوياتها، ورسم خارطة توزّع السلطة في مرحلة ما بعد الحرب.
وبينما تتفاوت القراءات حول الاتفاق ما بين الأمل في ولادة مشروع وطني جديد، وبين الخوف من كونه هدنة مؤقّتة محكومة بالتوازنات الخارجية، فإنّ التحليل السياسي المعمّق لما وراء هذا الاتفاق يضعنا أمام أسئلة مصيرية مثل: ما هي التحدّيات التي تواجه تنفيذه؟ وما مدى جدّية الأطراف؟ وماذا يعني الالتزام أو الفشل في تطبيقه بالنسبة لسوريا وشعبها؟
أولاً: خلفية الاتفاق وسياقه السياسي
جاء الاتفاق في مرحلة انتقالية شديدة التعقيد؛ حيث بدأت توازنات الحرب تنقلب، وتهاوَت مؤسسات النظام، وتصدّعت الجغرافيا السورية بين قوى متعدّدة الولاءات والمرجعيات. في هذا المشهد، ظل شرق الفرات يمثّل استثناءً سياسياً وميدانياً، بإدارته الذاتية، وبنيته الأمنية المستقرّة نسبياً؛ ما جعله محطّ أنظار الحكومة الانتقالية كقوة يجب التفاهم معها لا مواجهتها.
توقيع اتفاق بين قسد والحكومة الانتقالية، بدا وكأنه اعتراف متبادَل بضرورة التفاهم بدلاً من الإقصاء. ورغم أنّ الإعلان عن الاتفاق لم يترافق مع كشف تفصيليّ لجميع بنوده، إلّا أنّ مصادر متقاطعة تؤكّد أنّ القضايا الأساسية التي تم التفاهم عليها تشمل: تقاسم السلطة، ومستقبل الإدارة الذاتية، وشكل الدولة، والتمثيل السياسي وإعادة هيكلة المؤسسات الأمنية والعسكرية.
ثانياً: التحديات البنيوية لتنفيذ الاتفاق
- الصراع على شكل الدولة؛ مركزية أم لا مركزية؟
ربما يكون هذا هو التحدّي الأبرز والأكثر خطورة؛ إذ ينطلق الطرفان من رؤيتَين متباينتَين للدولة؛ فقسد تتبنّى مشروع اللامركزية الديمقراطية، كصيغة تضمن تمثيلاً حقيقياً للمكوّنات، وتمنع عودة الاستبداد. وفي المقابل، تميل مكوّنات في الحكومة الانتقالية إلى استعادة النموذج المركزي، بوصفه الضامن لوحدة البلاد.
هذا التناقض في الرؤية لا يمكن حلّه بسهولة؛ لأنّه يعكس ليس فقط خلافاً سياسياً، بل تصادماً بين بنيتَين مؤسساتيّتَين، ونمطَين للحكم، وتجربتَين مختلفتَين في الإدارة.
- هشاشة التوافق الأمني:
رغم تصريحات التنسيق بين قسد والحكومة الانتقالية لضمان السلم الأهلي، إلّا أنّ المشهد الأمني لا يزال قابلاً للاهتزاز في أيّة لحظة، خاصة مع وجود خلايا نائمة لتنظيم داعش، وحدود رخوة، وتباين الولاءات الداخلية.
- التدخّلات الإقليمية المعرقِلة:
- تركيا تخشى من التحوّلات الديمقراطية في سوريا وتغيير شكل نظام الحكم، لذا؛ فهي تعارض أيّة صيغة تمنح الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية شرعية سياسية أو عسكرية.
- إيران تخشى من تقارب العرب والكرد في الشرق السوري؛ لأنّه يهدّد عمق نفوذها في دير الزور والبادية.
- الولايات المتحدة تدعم شريكتها قسد في محاربة تنظيم داعش، لكنّها لم تتبنَّ الاتفاق سياسياً بشكل واضح.
- روسيا لا تزال تراهن على إعادة إنتاج النظام السوري القديم بصيغة معدّلة للحفاظ على قواعدها العسكرية في سوريا.
هذه التدخّلات الإقليمية تجعل الاتفاق معرّضاً للاختراق أو التجميد في أيّة لحظة، خصوصاً في ظلّ غياب دعم دولي حقيقي في تطبيقه.
- أزمة التمثيل المحلّي:
تتّضح أزمة التمثيل المحلّي في قدرة الحكومة الانتقالية في إثبات وجودها والتقيّد ببنود الاتفاق بعيداً عن التدخّلات الإقليمية، وفي قدرتها في السيطرة على الفصائل الموالية لتركيا “المرتزقة” في الشمال السوري المحتل، وفي إبعاد الشخصيات العسكرية المتّهمة بالإرهاب عن المشهد العسكري كالإرهابيين (حاتم أبو شقرا، وأبو عمشة، وسيف بولات) ومحاسبتهم؛ لزرع الثقة في الداخل السوري.
ثالثاً: إيجابيات الالتزام بالاتفاق
- تأسيس نموذج سياسيّ جديد لسوريا ما بعد الحرب:
النجاح في تنفيذ الاتفاق قد يفضي إلى بناء نموذج ديمقراطي تعدّدي، يعكس التنوّع السوري، ويمنع عودة المركزية القسرية التي أنتجت الاستبداد.
- كبح التدخّلات الخارجية تدريجياً:
كلّما توسّعت التفاهمات الداخلية انحسرت الحاجة للفاعلين الإقليميّين، وبالتالي؛ يمكن لسوريا أن تستعيد الاستقلال في قرارها الوطني.
- تقليص خطر الحرب الأهلية:
الاتفاق يمنع صراعاً محتمَلاً بين الجيش السوري الجديد ومعها مرتزقة تركيا، وبين قسد، وهو صراع إن حدث فسيكون الأخطر في مسار الثورة السورية؛ لأنّه سيضرب مبدأ التعدّد والاعتراف المتبادَل.
- فتح الباب لتوحيد المؤسسات:
إذا ما نجحت تجربة الدمج السياسي، فإنّها قد تقود لاحقاً إلى توحيد المؤسسات العسكرية والإدارية؛ ممّا يعزّز مسار بناء نظام ديمقراطي على أنقاض الفوضى.
رابعاً: مخاطر الفشل وعدم الالتزام
- انفجار الصراع في الشرق والشمال السوري:
إنّ عدم الالتزام بالاتفاق قد يؤدّي إلى تصعيد عسكري مفتوح بين القوى المتحالفة مع الحكومة الانتقالية، وبين قسد؛ ما سيهدّد مناطق مكتظّة بالسكان، ويُعيد سيناريو النزوح الجماعي.
- ترسيخ الانقسام الجغرافي والسياسي:
الفشل قد يؤدّي إلى تكريس مناطق نفوذ غير متداخلة: (مناطق الحكومة الانتقالية – مناطق الإدارة الذاتية)؛ ممّا يعزّز شبح التقسيم الناعم.
- تنشيط القوى الراديكالية:
إنّ أيَ فراغ سياسي ناتج عن فشل التفاهمات، سيكون فرصة للقوى الراديكالية، سواءً الجهاديّة أو القومية المتطرّفة، لاستعادة حضورها واستثمار فشل الاتفاق لخدمة أجندتها في سوريا.
ما بعد اتفاقية عبدي – الشرع، ليست نهاية الطريق، بل بدايته، وهي لا تملك في ذاتها ضمانات للنجاح، وإنّما تعتمد على جديّة الأطراف، ومرونة المؤسسات، ومشاركة المجتمعات المحلّية، وقدرة القيادات على تجاوز الرواسب القديمة.
فإذا ما أُديرت هذه العملية بعقلانية، فقد تكون الاتفاقية حجر الأساس لبناء سوريا الجديدة؛ سوريا تعدّدية وديمقراطية ولا مركزية ومستقلّة وشاملة لكلّ مكوّناتها. أمّا إذا تمّ تفخيخها من الداخل أو الخارج، فستكون مجرّد هدنة قصيرة في حرب طويلة الأمد.