حركة حرية كردستان وخطوة أخرى نحو السلام

شرفان سيف الدين

الكرد في الشرق الأوسط هم الجذر والأصل، وهم – بطبيعة الحال – ليسوا حالة طارئة على هذه الأرض، رغم ذلك فقد كان الشعب الكردي من ضمن الشعوب المظلومة في القرن الأخير، أو -إن صحّ التعبير- فهم أكثرها مظلومية من قبل الدول النافذة والفعّالة التي كسبت الحرب العالمية الأولى، والتي بدأت مبكّراً بتقسيم “الكعكة” الجغرافية المتمثّلة بعقدة الوصل ما بين الشرق والغرب ذات البعد الجيو سياسي، والتي تتحكم من خلالها في السياسات الاقتصادية واللوجستية والمتمثّلة ببقعة الشرق الأوسط، فلم يعد خافياً على أحد أنّه بعد تقسيم كردستان ما بين الإمبراطوريتَين العثمانية والفارسية إلى قسمين بموجب اتّفاقية “قصر شيرين”، تم تقسيمها مرة أخرى إلى أربعة أجزاء جغرافية بموجب اتفاقية سايكس بيكو 1916م في محاولة لصهرها مع القوميات المتواجدة على حدودها (التركية والفارسية والعربية)، لكن ما يميّز الطبيعة الكردية والشعب الكردي أنّه يتأقلم ويتماشى دائماً مع المستجدّات من حوله، دون أن تؤثّر في صلابته وجذوره وعشقه لقوميته وعاداته وتقاليده التاريخية والحاضرة، وقدرته على الاستمرار في التحوّل والحداثة.

بعد الانتهاء من الحرب العالمية الأولى وانتصار دول الحلفاء، بقيادة بريطانيا وفرنسا وروسيا، على دول المحور بقيادة ألمانيا وإيطاليا، والصراع على تركة “الرجل المريض” (الإمبراطورية العثمانية المنهارة)، بدأت الدول الغربية – وعلى رأسها بشكل خاص بريطانيا – بطرح مشروعها القومي المتمثّل في خلق الدولة القومية، وعلى هذا الأساس بدأت معظم الدول تتجمّع على شكل تجمّعات قومية أو دينية أو عرقية أو طائفية في خلق نوع من الدوائر المنغلقة على ذاتها، وبالتالي فرض نوع من التقسيم الاجتماعي والطبقي، كل ذلك أدّى إلى ظهور حركات قومية متزمّتة ومتمثّلة في حركات تحرّر على أساس قومي ضيّق؛ ما أدّى إلى تصاعد النغمة العروبية، والتي يمكن القول أنّها انطلقت مع حركة الضباط الاحرار في مصر على الملك فاروق، وبالتالي انتشار هذا النموذج في باقي المنطقة. وعليه؛ فقد وصل مَن وصل إلى سُدّة الحكم في معظم الدول العربية الناشئة التي انبثقت عن الإمبراطورية العثمانية، والتي تبنّت شعار القومية العربية إلى جانب الاشتراكية المشيّدة التي كانت ميراث الثورة البلشفية ضدّ القيصر الروسي. وبالتالي؛ انتشر حكم العسكر، على غرار الجنرال الروسي ستالين، والحكم بقوة الحديد والنار في معظم أو أغلب دول الشمال الأفريقي والشرق الأوسط، بما فيها تركيا وما شهدته من انقلابات عسكرية في ثمانينيات القرن الماضي، خاصة انقلاب 1980م، وكان المتضرّر الأكبر من كلّ ذلك هو الشعب الكردي؛ ربّما هذه المرّة بسبب الجغرافية والتقسيم الغربي المزعج للكرد على القوميات الثلاث المجاورة منذ اتفاقية سايكس بيكو وما تلتها من اتفاقات ومعاهدات سلام واستسلام ما بين القوى الكبرى، والتي تُوّجت في مرحلتها الأخيرة بمعاهدة أو اتفاقية لوزان التي أقصت كل ما هو كرديّ.

اليقظة الكردية وإخمادها بكلّ السبل:

الشعوب التوّاقة للحرية لا يمكن لها الاستسلام حتى ولو كانت القوى المغتصِبة والمحتَلة لها تملك القوة والتعاون المشترك لضرب أي حركة تحرّرية، والشعب الكردي وعبر تاريخه الممتد إلى أكثر من ستة آلاف عام (بحسب الموثّق تاريخياً على أقلّ تقدير)، كان دائماً توّاقاً للحرية؛ فهو لم ولا يؤمن يوماً أنّ العبودية قدر. وبالتالي؛ انطلقت الكثير من الثورات على جميع الجغرافية الكردستانية في شمالها وجنوبها وشرقها وغربها، بحسب التقسيم الحاصل والذي اصبح واقعاً مفروضاً على الشعب الكردي الذي رفض تقبّل هكذا تقسيم أساساً، وبطبيعة الحال، كانت معظم هذه الثورات أو الحركات تُتوّج أغلبها بالفشل، وذلك لأسباب كثيرة منها:

  • منها ما كان على أساس دينيّ وبالتالي كان يتم اللعب على الوتر الديني، وكانت تعتبر محاربة الغرب الكافر (بحسب تعريفهم طبعاً) أَولى من محاربة مَن يشاركهم الدين نفسه.
  • البقاء والحصر في الجغرافيا الضيّقة وعدم امتدادها لمناطق أخرى كان أحد أسباب خنقها ووأدها في مراحلها الأولى.
  • عدم وجود رؤية واضحة للقيادات الكردية التي كانت تقود هذه الثورات؛ فمعظمهم كانوا إما شيوخ دين أو زعماء عشائر أو شخصيات عامة، فتختلط عليهم المطالب في المملكة أو الجمهورية أو المشيخة …إلخ.
  • بطبيعة الحال؛ كان هناك انقسام وتشرذم ما بين القيادات نفسها من طرف وما بين القيادات والقاعدة من طرف آخر، وبالتالي؛ تمّ التأثير على وهج الثورة والدفع بها للأمام.
  • الطبيعة العشائرية للمجتمع الكردي ورغبة الغرب (بريطانيا وفرنسا) بتقسيم كردستان وعدم منح دولة للكرد، والانقلاب على معاهدة سيفر، وإنهاء الإمارات الكردية لأهداف مرتبطة بمصالحهم وبالأطماع التركية.

هذه الأسباب وعدة أسباب أخرى، منها موضوعية وأخرى ذاتية، هي التي جعلت الشعب الكردي بعيداً عن حقوقه الطبيعية التي يتمتّع بها باقي شعوب العالم والمنطقة في العيش بكرامة.

 مع انطلاق الحركات الثورية واليسارية في تركيا بدأ الشباب الكردي بالانخراط فيها على أمل الحصول عن طريقها على جزء ولو بسيط من حقوقهم وحرياتهم، وهكذا بدأت الطلبة الكرد في الجامعات التركية ضمن المدن الكبرى بالعمل بجدّ ضمن صفوفها، ولكنهم تنبّهوا بسرعة، وبعد سنوات قليلة فقط، إلى أنّ هذا الفضاء ضيّق عليهم وأن حلمهم وطموحهم أكبر من المقاس الذي يرتديه هذا التوجّه أو الفكر؛ فكانت ولادة حركة التحرّر الكردستانية في السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1978م، بمثابة ملحمة انبعاث جديدة ضمن حركات التحرّر الكردية والعالمية.

الحلّ السياسي والكفاح المسلّح والتنّقل فيما بينهما:

مما لا شك فيه أنّ القوة هي الانتماء الوحيد في هذا العالم، ويختلف تعريف القوة هنا ما بين القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية …إلخ، ولكن بالمجمل؛ أنت قويّ إذاً أنت موجود، ومع تقسيم كردستان ما بين أعراق المنطقة مثل الترك والفرس والعرب كانت هذه القوميات أو، بتعبير أدقّ، الأنظمة الحاكمة لها دائماً ما تحاول صهر الكرد ضمن بوتقتها بشتى السبل والطرق، وعليه؛ فقد كان الشعب الكردي يشعر بالغبن والمظلومية ضمن مناطقهم، وبالتالي قاموا بالتمرّد على الواقع الموجود وكانت دائماً لغة المقاومة والحرب هي الطاغية على لغة الحوار والتفاهم؛ وذلك لأنّ الطرف المقابل لم يكن يفهم إلا هذه اللغة، فكانت السبب لانطلاق أكثر من ثلاثين ثورة كردية في عموم كردستان، مع تأسيس حركة حرية كردستان بقيادة حزب العمال الكردستاني، كانت لغة الحوار هي نقطة الانطلاق كأساس للمطالبة بالحقوق المشروعة، وعلى امتداد ما يقارب الستّ سنوات لم يلاحَظ أي إشارة إيجابية في الطرف المقابل (النظام التركي)، بل على العكس تماماً؛ حيث كانت لغة العنف هي الطاغية وخاصةً بعد وصول العسكر إلى سُدّة الحكم في تركيا، وانتشار نموذج الانقلابات العسكرية على التوجّهات السياسية في عموم المنطقة، وبالتالي كانت قفزة الخامس عشر من أغسطس آب عام 1984م بمثابة خطوة أخرى نحو الأمام رغم رمزيتها وبساطتها بادئ الأمر، لتتحوّل مع مرور الزمن إلى أهم الثورات الكردية في التاريخ الكردستاني، ليس فقط على صعيد شمال كردستان، بل على عموم الجغرافية الكردستانية؛ فأصبحت الوجهة والمقصد لكل الشباب الثوري في المنطقة، ليس من الكرد فقط بل من جميع المكوّنات، حيث وجدوا في هذا الفكر نوعاً من الخلاص نحو أفق أكثر انفتاحاً وتوسّعاً.

بطبيعة الحال؛ وبما أنّ الكردي بطبيعته ليس من محبّي الدم والقتال من أجل القتال فقط، فقد كانت حركة الحرية وقياداتها تقابل كل خطوة نحو إحلال السلام بالإيجابية المطلقة، وفعلاً فقد تم القبول والاستجابة أكثر من مرة لإفساح المجال أمام السياسة والدبلوماسية لأخذ دورها منذ تسعينيات القرن الماضي، ولكن في كل مرة كان الفشل هو النتيجة النهائية لكلّ هذه المبادرات؛ وذلك لعدم وجود رغبة حقيقية من طرف النظام التركي والدولة العميقة فيها لحل هذا الملف بالشكل المناسب.

المؤتمر الثاني عشر يضع الكرة في ملعب الدولة التركية والمجتمع الدولي:

مع تسارع الأحداث العالمية في بداية القرن الحالي، من الهجمات على الولايات المتحدة الأمريكية، وردود فعلها تجاه التنظيمات الإرهابية العالمية والإسلام الراديكالي المتشدّد، وإسقاط النظام العراقي السابق، وصولاً إلى ربيع الشعوب الذي اجتاح الشمال الأفريقي والشرق الأوسط، وما تبعتها من انتشار لوباء كورونا (الذي لم يُعرَف حتى الآن أسبابه، ويُشَكّ في أن يكون منتجاً في مختبرات مفتعلة)، مروراً بالحرب الروسية – الأوكرانية وحتى أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول في غزة وإسرائيل؛ حيث ثبت للعالم أجمع أنه لا بدّ من إيجاد حلول سياسية ودبلوماسية للمشاكل العالقة في العالم، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، كما ثبت أنّ العنف لا يولِّد إلّا عنفاً مضادّاً له.

عقد حزب العمال الكردستاني مؤتمره الثاني عشر في ظل ظروف محلّية وإقليمية ودولية بالغة التعقيد، وصدرت عنه قرارات مصيرية وجريئة أكّدت للقاصي والداني أنّ الشعب الكردي شعب محبّ للسلام وبعيد كلّ البُعد عن الدموية والعنف، كما أكّد للجميع أنّه ملتزم مع قيادته في شخص السيد عبد الله أوجلان الذي أطلق أكثر من مبادرة سلام رغم تعرّضه لأقسى  أنواع الضغوط النفسية والجسدية على يد النظام التركي والنظام العالمي، وأكّد أيضاً فهم الحركة للمستجدّات الدولية التي تحتّم على الجميع تغيير وتطوير أسلوب وطرق الكفاح والنضال، والذي اتّخذه بالفعل السيد عبد الله أوجلان بكل جرأة وروح المسؤولية التاريخية للمرحلة، والتي ستظلّ في ذاكرة وصفحات التاريخ لأجيال قادمة. وبذلك فقد تم إرسال كرة السلام إلى ملعب الدولة التركية، وإلى ملعب المجتمع الدولي الذي لابدّ له من أخذ دوره المهم والرئيسي في كل ما يجري في المنطقة خاصةً، والأخذ بالمبادرات التي تؤكّد على إمكانية الحل ودمج ما هو مثالي مع ما هو واقعي، والخروج بما يناسب جميع الأطراف.

زر الذهاب إلى الأعلى
RocketplayRocketplay casinoCasibom GirişJojobet GirişCasibom Giriş GüncelCasibom Giriş AdresiCandySpinzDafabet AppJeetwinRedbet SverigeViggoslotsCrazyBuzzer casinoCasibomJettbetKmsauto DownloadKmspico ActivatorSweet BonanzaCrazy TimeCrazy Time AppPlinko AppSugar rush