الصمت الأمريكي ومتغيرات السياسة الدولية

الصمت الأمريكي ومتغيرات السياسة الدولية

في سيناريو ليس بالجديد وذلك أن يحيط بالمشهد صمت من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، حول ما يحدث في مناطق تعتبرها منطقة مصالح استراتيجية وخط دفاع متقدم للأمن القومي الأمريكي، فقد سبق أن صمتت في كثير من الأحيان عن العديد من الانتهاكات سواء برضاها أو مسايرة لحلفائها، والملفت للانتباه في هذا السياق هي أن تظهر الولايات المتحدة الأمريكية مُجمدة لفعاليتها الدولية، والغريب أن يكون ذلك على حساب هيمنتها على العالم كأقوى الدول المؤثرة من كل النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية وفقدان امتياز أحادية القطبية في النظام العالمي وقيادتها لجميع الأزمات في العالم منذ عقود، الآن في ظل محاولات الكثير من الدول المناهضة لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية و حتى الحليفة منها، والتي لديها الأطماع في بسط النفوذ أو أخذ دور في الساحة الدولية، قد يتعلق الأمر – وخاصة السياسة الخارجية للولايات المتحدة وطريقة تعاملها مع المتغيرات الدولية الأمنية والسياسية- بالحزب الحاكم في ظل تداور السلطة بين الحزبيين “الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري” وبذلك في كل دورة رئاسية أصبح المحللون والمراقبون يحسنون التقييم في كثير من الأحيان حيث يبنون آرائهم بحسب حزبية الرئيس الأمريكي اذا كان من الديمقراطيين أو الجمهوريين فالجميع من كل حزب يتبنى فكر حزبه وطريقة رؤيته للأحداث بشكل وأسلوب متقارب.

أما الأن الجديد في ظل حكم الديمقراطيين للسلطة في الولايات المتحدة الأمريكية برئاسة” جون بايدن”، ظهور معالم أنهُ هناك قوى أخرى بدأت بالفعل بسحب البساط من تحت الولايات المتحدة الأمريكية في قيادة العالم على كافة المستويات بدون أن تكون ردة فعل الولايات المتحدة مماثلة لما كانت تُظهرهُ للعالم من قوة عسكرية واقتصادية، فهذه روسيا الاتحادية تعبث بأوكرانيا على مرأى من الغرب أجمع وأيضا تركيا تلوح بتحالفات خارج التيار الأمريكي وإيران ترفع نبرة التحدي والصين والهند وكوريا الشمالية تعكس عدم اكتراثها للرد الأمريكي، آخرها والأكثر تصعيداً تهديد الصين لرئيسة مجلس النوب الأمريكي” بيلوسي”  وتحذيرها من زيارة تايوان وقد لوحت الصين باستخدام السلاح ورفعت جاهزية الجيش في سبيل فرض سيادتها على تايوان ومنع الزيارة الأمريكية، في ظل الصمت الأمريكي عن كل ما يدور في هذه الفترة الزمنية لم يكن هذا الحدث مفاجئاً.

أليس من الغريب هذا الصمت حتى الآن؟ ألا تبدو كل المحاولات حتى اللحظة التي تعمل على صياغتها الولايات المتحدة في إرسال الرسائل للحلف المعادي لسياسة الولايات المتحدة خجولة؟

إذاً ما هو تفسير هذا الصمت؟ في هذا الصدد يمكن أن نحدد ثلاثة رؤى إحداها قد تكون التفسير الأمثل لهذا الصمت:

أولاً فمن وجهة نظر مناصرة لحنكة الولايات المتحدة الأمريكية وقوة حكومة الظل فيها وإدارتها الاستخباراتية للأزمات ونجاحها في سياسة افتعال الأزمات والفوضى الخلاقة، ومن هذا المنطلق يُفسر هذا الصمت بأن كل المتغيرات والأساليب التي تتبعها الدول هي وفق ما تريده وترغبه الولايات المتحدة الأمريكية في تخفيف أعباء التدخل في الصراعات التي لا تعود عليها بالمصالح الوفيرة وأصبحت تقيس كل الصراعات والنزاعات والتحالفات بالمقاييس الاقتصادية بالدرجة الأولى وخاصة تلك التي تراعي تحقيق مصالحها على مستوى الطاقة، إذاً ما يجري من تغيرات جميعها بضوء أخضر أمريكي ووفق المخطط المرسوم لتهيئة الجغرافية السياسية لمناطق النفوذ الجديدة بحسب ما تراه الولايات المتحدة الأمريكية مناسباً لها ولتحقيق أهدافها الاستراتيجية في المرحلة المقبلة وعلى رأسها الطاقة و الأمن الغذائي.

ولكن في تحليل آخر لهذا الرأي هل من المعقول أن تقدم الولايات المتحدة الأمريكية كل هذه الانتصارات لروسيا الاتحادية والجرأة في التحدي للصين وكوريا الشمالية وإيران، ليس من المنطقي أن تمنح الولايات المتحدة الأمريكية العالم للقوى الأخرى على طبق من ذهب وهي التي اعتادت على خلق الأزمات وإنهائها، ولا يمكن الآن إدخال نفسها في هذه الخطة الخطيرة في إدارة العالم.

بالانتقال الى التفسير الأخر للصمت الأمريكي، الولايات المتحدة الأمريكية ليست هي التي ضعفت ولكن روسيا هي التي زادت قوة عسكرياً واقتصادياً وأصبحت واضحة الأهداف بعدم الخضوع للولايات المتحدة الأمريكية مجدداً أو حتى مسايرتها، أن تحدي روسيا للغرب أجمع ومن خلفهم الولايات المتحدة الأمريكية وشنها الحرب على أوكرانيا وردود الفعل الباردة أعطى حافزاً لإيران وتركيا والصين وخاصة إنهم لأول مرة يرون العالم كله بقيادة الولايات المتحدة يهرول إليهم، فمثلا: إيران وجدت نفسها تتفاوض لتزويد أوربا بموارد الطاقة واستغلت ذلك ولازالت تحاول تحقيق المزيد من المكاسب في ملفها النووي  وتركيا أيضا التي مؤخراً أدلت بتصريحين ساخنين ابتعدت من خلاله عن الحضن الأمريكي فهي بالتصريح الأول على لسان الرئيس التركي ” رجب طيب اردوغان” تتشارك مع روسيا وإيران في رؤية ضرورة مغادرة الولايات المتحدة لسوريا وألحق وزير الخارجية التركي” شاويش أوغلو” ذلك التصعيد بإعلانه الاستعداد لتقديم الدعم السياسي للنظام السوري في مواجهة قوات سوريا الديمقراطية، هذا ما يبدو غير مرضياً بطبيعة الحال للولايات المتحدة الأمريكية، وأيضا وجدت تركيا العالم يصفق لها لدورها في تبديد مخاوف العالم في حصول المجاعة بظل حصار روسيا للحبوب والمواد الغذائية القادمة من أوكرانيا ولعبها دور الوساطة في المفاوضات مع روسيا،  وإعلان تركيا افتتاح مركز للتنسيق في إسطنبول  لنقل ما هو مطلوب من أوكرانيا حبوب ومواد غذائية، هنا استثمرت تركيا ذلك لتقوية موقعها أكثر بين الدول المتصارعة على القطبية في النظام الجديد وتستخدم كل إمكاناتها لاستعادة النفوذ العثماني الذي تشتت إبان الحرب العالمية الأولى ويربط الكثيرون التصعيد التركي والاستراتيجية الجديدة للسياسية التركية بقرب مئوية اتفاقية لوزان حيث يرى الأتراك إنها سلبتهم أراضي يجب أن تكون تحت سيطرتهم وبذلك تستهدف استعادة السيطرة على الشمال السوري والعراقي وتهجير سكانها الأصليين وتستخدم كل الذرائع لتحقيق هذا الهدف، مما سبق نُفسر أن الولايات المتحدة حافظت على قوتها ولكن سمحت للقوى الأخرى بأن تصبح أكثر قوة أدى كل ذلك لخروج الأزمات عن سيطرتها كما أن الأزمات الاقتصادية المتتالية ألقت بظلالها على الاقتصاد الأمريكي وساهمت في تأجيج الرأي العام العالمي والأمريكي ضد سياستها الخارجية والحروب التي افتعلتها في كل من العراق وأفغانستان التي يرون إنها كانت النواة لظهور التنظيمات الإرهابية بصورة أكثر وحشية وحقداً آخرها داعش، وغزو الصناعات الصينية للأسواق العالمية جعل العالم على أهبة الاستعداد للاستغناء عن الصناعات الأمريكية وبذلك فقدت الولايات المتحدة المزيد من أوراقها الرابحة. فالعجز الأمريكي الذي يصفه هذا التفسير يرى أن المحاولات التي قامت بها الولايات المتحدة لمواجهة ما وصل إليه الأمر من تغيرات ومنها” إعلان القدس” ومحاولة ردم الهوة بين إسرائيل والدول العربية من خلال ضمها الى حلف” ناتو عربي ” تضم إسرائيل وهو تطبيع عربي كامل ولكنه لم يخرج للعلن إلى الآن وهذا التحرك البطيء في الإجراءات الأمريكية تجعل هذه المحاولات تحمل صفة المحاولات الخجولة.

الرؤية الثالثة لتفسير الصمت الأمريكي أن الولايات المتحدة الأمريكية تقوم بحرب بالوكالة لإجهاد الدول التي تستهدف إضعافها وبذلك تكون مستمرة بسياسة الفوضى الخلاقة باستراتيجية جديدة، ووجهة النظر هذه تقول أنه تم سحب روسيا الى المستنقع الأوكراني، ووضعت إيران في مواجهة جميع الدول العربية من خلال السماح لها بدعم الحوثيين في البداية، وهي التي تدير السياسة العميقة للدولة التركيا لتبقى محافظة على التوازن الدولي في فوضاها المختلقة، وبما أن الوكلاء يقومون بأدوارهم وفق المهام الموكلة إليهم فليس هناك حاجة للتحرك الأمريكي العلني وهنا تجدر الإشارة أن الولايات المتحدة قادرة على الإطاحة بتركيا بسهولة من خلال جرها إلى حرب إبادة تغرقها بأزمات داخليه لن تعرف الخروج منها، وأن تغريده واحدة من مسؤول أمريكي على إحدى منصات التواصل الاجتماعي تسبب انهيار الاقتصاد التركي بالكامل، كما أنها تعمل على تحفيز تايوان في مواجهة الصين، وكوريا الجنوبية واليابان في مواجهة كوريا الشمالية وترغب بشكل غير مباشر في أطاله الحرب في أوكرانيا لإجهاد روسيا وتجييش الغرب أكثر ضدها .

هذه الرؤى الثلاث المتناقضة في محاولة تفسير الصمت الأمريكي، قد تحمل في طياتها ما هو قريب من الحقيقة ولكن المتفق عليه أن استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في إدارة الأزمات تغيرت جذرياً كما وأنه هناك جغرافية سياسية جديدة تُرسم وهناك نظام عالمي جديد قادم ليطفو على السطح، كما أن الحروب لا يمكن إخمادها أبداً وخاصةً أنهُ من بعد هذه المرحلة ستكون حروب أسبابها الطاقة والأمن الغذائي والماء.

زر الذهاب إلى الأعلى