سوريا ضمن المعادلة الأمريكية

تعتبر منطقة الشرق الأوسط ذو أهمية استراتيجية للدول الكبرى لغناها بمصادر الطاقة من جهة وصلة الوصل بين قارات العالم القديم واشرافها على أهم المعابر المائية في العالم. لذا فهي تحتل مكانة كبيرة في الاستراتيجية الأمريكية في رسم سياساتها الدولية تجاه قضايا وملفات كبيرة مرتبطة ببروز قوى عالمية كصين وروسيا الرافضتان لسياسة القطب الواحد والنظام العالمي الحالي، وبالتالي فإن منطقة الشرق الأوسط والتي تشكل الدول العربية قلبها منطقة نفوذ خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية ولن تسمح لأي دولة الولوج إليها لا عسكرياً ولا حتى اقتصادياً.
إلا أن منطقة الشرق الأوسط تنقسم بين دول حليفة للولايات المتحدة ودول حليفة للاتحاد السوفيتي سابقاً حالياً روسيا والتي تصفها الولايات المتحدة بالدول المارقة “إيران والعراق وسوريا واليمن” إلا أن هذه الخارطة قد تغيرت بسقوط نظام صدام حسين في العراق 2003 وتحول العراق إلى منطقة نفوذ أمريكية، وبعد ربيع الشعوب في المنطقة العربية وبالأخص في سوريا فقد خسرت روسيا دولة أخرى ذات أهمية استراتيجية لها في المنطقة بإشرافها على البحر المتوسط “المياه الدافئة” باعتبارها تملك قاعدتين عسكريتين فيها “قاعدة حميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية” لصالح الولايات المتحدة الأمريكية بعد أزمة استمرت قرابة 13 سنة نتيجة تمسكها بنظام لم يعد يمتلك الشرعية لا داخلياً ولا خارجياً، وتحاول روسيا الحفاظ على قواعدها وعلى علاقتها التاريخية معها أي “سوريا” بأي شكل كان دون أن تتحول سوريا إلى منطقة نفوذ أمريكية من خلال فتح صفحة جديدة مع النظام السوري الجديد الذي كانت تحاربه “هيئة تحرير الشام” في الأمس القريب.
فبعد سقوط النظام السوري وسيطرة هيئة تحرير الشام على مقاليد الحكم في دمشق هل أصبحت سوريا محور اهتمام الولايات المتحدة وتسعى لضمها إلى مناطق نفوذها في منطقة الشرق الأوسط لرسم سياستها الجديدة في المنطقة والعالم في خضم صراعها العسكري مع روسيا “الحرب الروسية الأوكرانية” والاقتصادي مع الصين مبادرة الحزام والطريق.
سوريا بعد سقوط نظام الأسد
قبل سقوط نظام الأسد فقد كانت خريطة الحرب السورية منقسمة بين دول كبرى روسيا كانت تسيطر على معظم مناطق غرب الفرات باستثناء الشمال السوري المحتل، بينما كانت منطقة شرقي الفرات والتي تتمثل بالإدارة الذاتية في إقليم شمال وشرق سوريا الواقعة تحت حماية التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لمنع عودة تنظيم داعش الإرهابي الذي هزم على يد قوات سوريا الديمقراطية، أما إقليمياً فقد كان هناك تنافس بين تركيا التي تحتل الشمال السوري وإيران التي تسيطر إلى جانب روسيا والنظام السابق على غربي الفرات من الفرات حتى الساحل ومن حلب حتى الحدود السورية الأردنية. اليوم وبعد سقوط نظام الأسد في 8/12/2024 وسيطرت الهيئة على دمشق خسرت كلا من إيران وروسيا مناطق نفوذها لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا.
على الرغم من بقاء الهيئة على لوائح الإرهاب وإنشاء حكومة مؤقتة أغلبية وزرائها من حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام في إدلب، إلا أن هناك انفتاح إقليمي ودولي على أحمد الشرع والحكومة المؤقتة لمحاولة تحويل سوريا إلى دولة ديمقراطية ذات نظام يحفظ حقوق جميع مكونات الشعب السوري، لكن هذه الحكومة تتعرض لضغوط إقليمية كبيرة وخاصة من قبل دولة الاحتلال التركي التي تطمع بمد نفوذها والسيطرة على القرار السياسي وجعل سوريا ولاية عثمانية وبين رغبة أحمد الشرع بالعودة للحاضنة العربية وزيارته الأولى لدولة عربية “المملكة العربية السعودية” مؤشر على ذلك.
الأهمية الجيوسياسية لسوريا
تعتبر سوريا منفذ رئيسي لغرب آسيا على البحر المتوسط وصلة الوصل بين منطقة الخليج العربي وأوروبا براً وبحراً وبوابة لنقل الطاقة من منطقة الخليج وإيران إلى أوروبا، فالطبيعة الجغرافية المسطحة لسوريا ” شبه خالية من الحواجز الطبيعية كالجبال” تجعل من بناء شبكات الأنابيب الناقلة للنفط والغاز أكثر سهولة وأقل تكلفة من تركيا ذات الطبيعة الجبلية الطامعة لأن تكون مركزاً لنقل الطاقة إلى أوروبا وبالتالي فإن سوريا تشكل نقطة عبور وممراً طبيعياً لموارد الطاقة في الشرق الأوسط “إيران ومنطقة الخليج العربي” إلى أوروبا.
كما تمتلك سوريا حقول غاز طبيعية مهمة كحقل كونيكو ونيشان والشاعر وحجار وغيرها من الحقول، كما أن الدراسات الجيولوجية قد أثبتت غنى حوض شرقي المتوسط بموارد الطاقة “النفط والغاز” ومن ضمنها المياه الإقليمية السورية “المنطقة الاقتصادية الخالصة” حيث وقعت روسيا اتفاقية مع النظام السوري البائت لاستثمار الغاز الطبيعي في المياه الإقليمية السورية لمدة 25 عاماً. كما أن هناك دراسات تؤكد على غنى سوريا بالغاز تجعلها من أهم الدول المصدرة للغاز في المستقبل مما قد يعطي أهمية جيوسياسية كبيرة لسوريا بسبب قربها من القارة الأوروبية
لذا تحاول دولة الاحتلال التركي ترسيم الحدود البحرية مع سوريا على غرار ترسيم الحدود البحرية بينها وبين حكومة الوفاق الليبية لضمان عدم تحول سوريا إلى نقطة عبور مما قد يقلص فرص تحويل تركيا إلى مركزاً لنقل الطاقة إلى أوروبا، إلى جانب فرض شروطها على الدول الإقليمية والأوروبية في حال تم البدء بتنفيذ مشاريع لنقل الطاقة عبر سوريا إلى أوروبا أو حتى الوقوف في وجه هذه المشاريع ومنعها من تنفيذها.
كما تخشى تركيا من انضمام كلاً من سوريا ولبنان إلى منتدى غاز شرقي المتوسط والتي تضم كُلاً من مصر وإسرائيل وفلسطين وإيطاليا واليونان وقبرص واليونان إلى جانب دولة الإمارات كمراقب والعمل على تنفيذ مشروع يهدف إلى نقل غاز شرقي المتوسط عبر خط أنابيب إلى قبرص ومن ثم إلى اليونان مما قد يؤثر على مطامع تركيا بتحولها إلى مركز لنقل الطاقة إلى أوروبا. أو أنها تريد من خلال ترسيم الحدود البحرية مع سوريا أن تجد موطن قدم لها في هذا المنتدى بعد تأكدها من خلو مياهها الإقليمية من أي مكامن للغاز وذلك من خلال اجتزاز أجزاء من المياه الإقليمية السورية وضمها لتركيا.
لكن في المقابل فإن مشروع نقل الغاز إلى أوروبا عبر المتوسط يواجه تحديات كثيرة ومن أبرزها الأعماق الكبيرة للبحر المتوسط والتي تؤثر على التكلفة والصيانة ومسألة اتفاقية ترسيم الحدود البحرية واحتلال تركيا لشمال قبرص.
ومن هنا يمكن التعويل على الطرق البرية لنقل الغاز إلى أوروبا عبر سوريا في الوقت الحالي ومن أهم مشاريع التي تعتمد على سوريا لنقل الغاز مشروع نقل الغاز القطري عبر سوريا ومن ثم تركيا إلى أوروبا، ومشروع نقل الغاز الإيراني عبر العراق وسوريا إلى المتوسط ومشروع خط الغاز العربي الذي يربط مصر بالأردن وسوريا ولبنان ويمكن ربط سوريا بتركيا من ثم إلى أوروبا.
قضية الانسحاب الأمريكي من سوريا
تعول الكثير من الدول على سحب الولايات المتحدة قواتها من شرقي الفرات، ولا جدوى لبقاء تلك القوات في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، فتركيا بحسب زعمها قادرة على استلام ملف الإرهاب بدلاً منها. لكن هنا يمكن طرح الانسحاب الأمريكي بصيغة أخرى هل سوريا حقاً لا تشكل أي أهمية جيوسياسية بالنسبة للسياسة الأمريكية الشرق أوسطية والعالمية تجاه القضايا والملفات الدولية التي تؤثر على الأمن القومي الأمريكي أم أنها باتت من ضمن أولوياتها بعد سقوط نظام الأسد وخروج سوريا كدولة حليفة لروسيا.
سوريا في المعادلة الأمريكية
إن تواجد القوات الأمريكية في شرق الفرات منذ ظهور تنظيم داعش الإرهابي لم يأتي من فراغ بل ضمن استراتيجية متوسطة المدى للوصول إلى أهدافها حتى وأن تخلل تواجدها العسكري نوع من الغموض كالانسحاب الجزئي للقوات الأمريكية اثناء ولاية ترامب الأولى. إن مسألة التواجد العسكري الأمريكي في شرق الفرات لا يرتبط فقط بمحاربة تنظيم داعش الإرهابي بل أصبح مرتبط من جهة بالنظام السوري الجديد ومدى جديته في تحويل سوريا إلى نظام ديمقراطي ومنعه من جعل سوريا بؤرة للتنظيمات الإرهابية، ومن جهة أخرى منع روسيا بعد سقوط حليفها “نظام الأسد” من العودة إلى سوريا وإخلاء قواعدها العسكرية “قاعدة حميميم وطرطوس” وبالتالي قد تتحول سوريا بعد سقوط نظام الأسد إلى دولة صديقة للولايات المتحدة وبذلك لم يبقى في منطقة الشرق الأوسط دول حليفة لروسيا أو الصين سوى إيران وإلى حد ما اليمن نتيجة علاقتها بإيران، وتعمل الولايات المتحدة للحد من تأثيرها بعدما تم قطع أذرعها العسكرية في سوريا ولبنان من خلال الاتفاق النووي الجديد التي تعمل عليها إدارة ترامب الجديدة وإنهاء الخطر الحوثي على طريق التجارة في البحر الأحمر.
لذا يمكن القول إن الانسحاب العسكري الأمريكي من سوريا لن يغير من المعادلة بشيء بل ستبقى سوريا تحت الوصاية الأمريكية ولن تسمح للدول الإقليمية أو العالمية التأثير على سوريا، وبالتالي قد تتحول سوريا إلى جزء من المشروع الأمريكي “الممر الاقتصادي الذي يربط الهند بأوروبا عبر الدول العربية” وقد يتم ربط العراق وتركيا بهذا المشروع أي ربط المشروع الأمريكي بطريق التنمية العراقي وهو ما يحتاج إلى تطوير وتحديث الطرق البرية والسكك الحديدية في سوريا وإنشاء طرق وسكك حديدية جديدة واحتمالية إعادة إحياء بعض السكك الحديدية والتي ستخدم رؤية المملكة العربية السعودية 2030 خاصة عند ربطها بمشروع نيوم على مدخل خليج العقبة.
ضمن هذا السياق باتت سوريا من ضمن استراتيجية الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط بعد سقوطها كدولة حليفة لروسيا وذات وزن كبير وهمزة وصل ضمن المشاريع الأمريكية الاقتصادية في المنطقة وباتت تمثل ممرًا اقتصاديًا حيويًا واستراتيجيًا نحو الأسواق العالمية والهادفة إلى ربط الهند بالشرق الأوسط عبر الدول العربية وربطها بالقارة الأوروبية للحد من خطر المشروع الصيني مبادرة الحزام والطريق. لكن تبقى المعضلة الحالية للولايات المتحدة الأمريكية في النظام السوري الجديد وارتباطها أو علاقتها بالتنظيمات الجهادية المدرجة على قوائم الإرهاب وشكل الحكم في سوريا وقدرتها على تطبيق الديمقراطية، ومن ثم العمل على رفع العقوبات عن سوريا والبدء بعملية الأعمار و بالمشاريع الاقتصادية فالوصول إلى بنية تحتية متطورة ومتكاملة لابد من استقرار سياسي وأمني في المنطقة وهو ما يركز عليه الرئيس الأمريكي ترامب في إنهاء الحروب وتحقيق السلام في الشرق الأوسط.