الحرب الروسية الأوكرانية: رب ضارة نافعة

من الصعب أن يكون مناطق التوتر في الشرق الأوسط وافريقيا بمنأى عما يجري في أوكرانيا وعن التداعيات الناجمة من مسار التفاعلات في الأزمة الأوكرانية بين الناتو وروسيا، وبالذات الصراع الأمريكي الروسي، لكون الأزمة تتخذ الطابع الدولي لها، من حيث الأسباب والدوافع والاستراتيجيات، ومن هذا المنطلق دخلت الساحة الدولية مرحلة جديدة، ولا شك سيكون لها تأثيرات وانعكاسات على الوضع الإقليمي والملف السوري تحديداً، بسبب الحضور القوي لكلا الطرفين في الملف.

وضمن هذا الإطار، يندرج شمال وشرق سوريا ضمن حسابات الاستراتيجية الهامة لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، لتواجد القوات العسكرية للدولتين في هذه البقعة الجغرافية وتحولها إلى منطقة تنافس وصراع قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا، ومع إطالة الأزمة فيها؟

 من الممكن أن تبرز استقتطابات حيال الإدارة الذاتية، فالمؤشرات الأخيرة التي ظهرت من خلال المواقف الأخيرة من المسؤولين الروس حول ضرورة مشاركة الإدارة الذاتية في أعمال اللجنة الدستورية، وزيارة المسؤولين الأميركيين خلال الأسبوع الثاني من الحرب في أوكرانيا إلى المنطقة والتأكيد على الاستمرار في محاربة الإرهاب، وإمكانية تقليص التداعيات السلبية الناجمة عن تطبيق عقوبات القيصر على شمال وشرق سوريا، خلال النقاشات التي جرت بين الوفد الأمريكي وممثلين عن “مسد وقسد”، تؤكد أن شمال وشرق سوريا تشكل نقطة محورية، ومؤشر هام يدل على مدى الحاجة لاستمالة الأطراف وإنشاء مناطق نفوذ من جديد في المرحلة القادمة.

ان الاستحواذ وتثبيت مناطق النفوذ، ستكون أبرز ملامح المرحلة المقبلة، نظراً لأن الأزمة الأوكرانية أثبتت بروز محاولات روسية لكسر الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة الأمريكية، ولتنامي قوة دول صاعدة على الهيمنة تنافس أمريكا، ما ستدفع بالأخيرة إلى إعادة النظر في سياساتها الخارجية حيال شركائها وحلفائها وإعادة النظر في سياساتها الغامضة والمتذبذبة، ومحاولات الولايات المتحدة الأمريكية البقاء كلاعب مُتسيد في النظام الدولي مع استمرارها في تغيير مقومات الهيمنة إعاقة تلك التنامي الصاعد، وتعطيل أنظمة اقتصادية للتبادلات النقدية كبديل لنظام “سويفت”، فسلاح العقوبات الأمريكية الذي تستخدمه ضد الدول وخاصة روسيا خلال شنها الحرب على أوكرانيا، استهدفت البنوك الروسية وعزلها عن نظام المدفوعات العالمية SWIFT، بهدف تعطيل آليات التعامل بالنظام النقدي الخاص بتلك الدول المُعاقية فيما بينهم، وإرضاخ اقتصادات، لإعاقة تشكيل نظام مالي بديل للمدفوعات تكون بديلاً لـ SWIFT، هذه الحرب هزت أركان النظام الدولي، وأثبتت مدى الهشاشة التي تلف العلاقات بين الحلفاء، فالرؤيا والمواقف السياسية الألمانية والفرنسية  حول الحرب في أوكرانيا يختلف عن الرؤى البريطانية والأمريكية ، فهي تتسم بنوع من المرونة في التعامل وتفضيل لغة التهدئة والحوار بدلاً من التصعيد، بالإضافة إلى أخذ كل من فرنسا وألمانيا التبعات السلبية الناجمة ومنها التكلفة الباهظة في حال إيجاد مصدر بديل للطاقة الروسية التي تغذي أوربا، بينما تتخذ بريطانيا وأمريكا التصعيد من خلال إرسال إمدادات عسكرية للقوات الأوكرانية التي تحارب وتدافع في كييف وغيرها من المدن،  فالسياسة الروسية باتت مقبلة على تشكيل مهددات للمصالح الأطراف المناوئة لها، سوء في أوربا أو في الشرق الأوسط، فهي مضطرة لفعل ذلك، لكون السياسة الرأسمالية الروسية والمستوى الذي وصلت إليه تفرض عليها توسيع دائرة الهيمنة، أو تراجع وتقهقر مع مرور الوقت، والأمر الثاني، هو وقوف الصين معها وتأييدها في التدخل والسيطرة على أوكرانيا.

مجمل هذه السياقات، تجعل من سوريا المناخ الملائم للتنافس بشكل مختلف عن السابق على الهيمنة، وساحة مناسبة للمناورة لاستمالة الأطراف المختلفة، وذلك لأن الصراع الدائر في سوريا طيلة العقد الماضي أنهك جميع المناحي الاقتصادية والحياتية، والقوى العظمى “أمريكا روسيا” وبعد التدويل الحاصل في الأزمة السورية، والمناطق التي تهيمن عليها روسيا وتركيا، فهي واضحة حتى اليوم، وتدخل ضمن تفاهمات ثلاثية أو أكثر (إيران روسيا تركيا).

 تبقى مناطق الإدارة الذاتية التي ستشكل أهمية أكثر من ذي قبل، فخلال الثلاث سنوات الماضية كانت نقطة توازن هامة، بعد الاحتلال التركي لـ “سري كانيه” “وكريه سبي” في أوكتوبر من العام 2019، ودخول القوات الروسية بموجب الاتفاقية الموقعة مع قوات سوريا الديمقراطية، كضامن لمنع الاشتباك، وعدم احتلال تركيا لمناطق أخرى، فيما اختصر الدور الأمريكي بعد الانسحاب الجزئي على محاربة خلايا داعش، وحماية آبار النفط، على طول الشريط الحدودي مع العراق، حيث أفرز هذا التوزان، منع “نظام الإبادة التركية” من تحقيق أهدافها في القضاء على الإدارة الذاتية واحتلال المزيد من الأراضي، وأُفشل الأهداف الروسية التي حاولت إعادة تعويم النظام في هذه المنطقة والسيطرة على الثروة النفطية، بالإضافة إلى إجراء مقايضات مع تركيا مثل ما حصل في عفرين، وأمريكياً عززت الشراكة مع قسد وأثبتت أنها القوة الوحيدة القادرة على محاربة الإرهاب.

وفي سياق كل ما ذكر، فمستقبل سوريا وشمال وشرقها مفتوح على كل الاحتمالات، وبناء على المعطيات السابقة التي تم التطرق لها، يمكن القول أن مناطق الإدارة الذاتية وخلال الفترة المقبلة ستشهد تجاذبات بين روسيا وأمريكا، ومن الوارد أن يدفع التدخل الروسي في أوكرانيا بالولايات المتحدة إلى عرض بعض المقترحات التي تهدف إلى الاعتراف بالإدارة الذاتية بشكل غير مباشر، ومنها الاتفاق على إدخال شركات أمريكية لاستثمار النفط وتصليح الآبار النفطية، ويمكن أن تعرض روسيا الشيء نفسه لاستمالة الإدارة الذاتية وإضعاف الولايات المتحدة في الملف السوري، وتصريح وزير الخارجية الروسية “سيرغي لافروف” في شباط الماضي، والذي أكد على ضرورة مشاركة الكرد في أعمال تشكيل اللجنة الدستورية لصياغة دستور جديد لسوريا، يندرج ضمن هذا الإطار.

وفي حال انحازت تركيا إلى الجانب الروسي، قد يدفع ذلك الأمر بالولايات المتحدة الأمريكية وأروبا إلى تغيير سياساتها حيال تركيا، والاعتراف بالإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا على غرار جنوب كردستان، لكون النظام الدولي سيشهد متغيرات هامة قد تفضي إلى تعددية قطبية من جديد.

زر الذهاب إلى الأعلى