روسيا وإسرائيل في امتحانٍ للعلاقات…
روسيا وإسرائيل في امتحانٍ للعلاقات...
مع تصاعد الصراع الدولي والإقليمي في سوريا وبلوغها نحو مستويات مقلقة بالنسبة لروسيا ومصالحها في البحر المتوسط، إلى جانب المطالبة السابقة لكل من النظام السوري وإيران لمواجهة المحور السني المدعوم غربياً، لذا تدخلت روسيا مباشرة في الأزمة السورية تحت عنوان محاربة الإرهاب وحماية النظام السوري من الانهيار في 30 أيلول من عام 2015م لينجم عنها مجموعة من التغييرات والتفاهمات والتطورات الدراماتيكية في المجالين العسكري والسياسي؛ لعل أبرزها تزايد التفاهم الأمني الروسي- الإسرائيلي بعد الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نتنياهو لموسكو في أيلول من العام نفسه، والذي عرض في الاجتماع الذي جمعه مع الرئيس الروسي استراتيجية دولته تجاه الصراع الدائر في سوريا (التي تقوم على مبدأ عدم مساندة أي طرف من أطراف الصراع)،ومخاوفها تجاه عددٍ من النقاط التي تمس أمنها القومي تمثلت أبرزها في منع وصول الأسلحة الروسية المتطورة إلى أيدي الميليشيات الإيرانية وحزب الله اللبناني، ومنع انتقال الحرب إلى الحدود الإسرائيلية، وكذلك مزاعم حقها في الدفاع عن نفسها أو توجيه ضربات استباقية لأي عمليات موجهة ضد إسرائيل عبر حدودها الشمالية وذلك بالتنسيق مع القوات الروسية، وبالفعل دخل التفاهم حيز التنفيذ لتقوم إسرائيل بأولى طلعاتها في تشرين الأول إثر سقوط قذائف على أراضيها انطلقت من سوريا وشنّت عمليات هجومية على مواقع للنظام السوري وكان يتمركز فيها مستشارون تابعون للحرس الثوري الإيراني.
هذا التفاهم الأمني القائم بين الطرفين على المستوى التكتيكي، حقق لإسرائيل بعضاً من أهدافها العسكرية وسهلت عليها عملياتها الهجومية الخطيرة كتلك التي ساهمت في اغتيال القيادي في حزب الله سمير القنطار في نهاية عام 2015م، إلا أن التطورات والمستجدات الإقليمية والسياسة الواقعية لكل طرف لتحقيق مصالحه وأهدافه، ورغبة الروس في لعب دور ضابط الإيقاع والمهيمن على الساحة السورية، بالإضافة إلى ضغط الإيرانيين والنظام السوري على الروس لإيقاف الهجمات الإسرائيلية؛ فرضت نسبياً على موسكو تغيير توجهاتها في بعض الأحيان بشأن الهجمات الإسرائيلية وحتى التنديد بها واعتراضها خاصة بعد حادثة سقوط المقاتلة الروسية في عام 2018م من قبل الدفاعات الجوية للنظام السوري بالخطأ أتناء تصديهم للغارات الإسرائيلية الأمر الذي أثار استياء موسكو وغضبها تجاه الضربات الإسرائيلية والتي تسببت بقتل خمسة عشر جندياً روسياً آنذاك، إلا أن الطرفان استطاعا تجاوز هذه الخلافات وحالة سوء التفاهم التي كانت تظهر بينهما في بعض الفترات، وتجلى ذلك في الحذر تجاه ضمان استمرار علاقتهما في سياق الأزمة السورية وتفادي التصادم المباشر على الرغم من التوتر بينهما بخصوص الأزمة الأوكرانية، وما يشير إلى ذلك تقاطع مصلحتهما بشأن إخراج القوات الأجنبية من سوريا (أي المليشيات الإيرانية وحزب الله).
إلا أن العلاقات والتفاهمات بين الطرفين في سوريا بعد الحرب الروسية- الأوكرانية المندلعة قد تكون مختلفة عما كانت عليه قبل الحرب في حال قدمت إسرائيل المزيد من الدعم لنظام زيلنسكي، الأمر الذي قد يهدد آلية عدم التصادم والتي أبرمها الطرفان غداة التدخل الروسي في سوريا، خاصة بعد تغيير الموقف الإسرائيلي من الحرب علماً أنها حاولت في البداية تقمص دور الوسيط عبر الحفاظ على توازن دبلوماسي دقيق بين الدولتين، إلا أنها محاولاتها على غرار تركيا باءت بالفشل بسبب الضغط الغربي المتزايد عليها لاتخاذ موقف حاسم تجاه هذه الحرب، والتي نجحت في تغيير موقف إسرائيل المحايد من هذه الحرب إلى موقف معادي لروسيا ودعم الإجراءات الغربية ضدها، خاصة بعد محادثة للرئيس الأوكراني زيلنسكي (الذي ينحدر من أصل يهودي) مع الكنيست الإسرائيلي في 20 آذار الذي بدوره أثار المشاعر القومية والدينية لديهم عبر تذكيرهم بمذابح ومآسي الهولوكوست وربطها بالحرب التي تواجهها أوكرانيا لتشجيعهم للوقوف إلى جانبها، يبدو أن هذا الأمر نجح في تغيير النهج الإسرائيلي بشكل ملحوظ، ظهر ذلك في تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد الذي اتهم روسيا بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، ثم تصويت المندوب الإسرائيلي على قرار تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وقيام إسرائيل بنشاطات دبلوماسية على المستوى الإقليمي لإقناع كل من الإمارات والسعودية بزيادة إنتاج النفط، بهدف تحجيم اعتماد العالم على النفط الروسي والإيراني، ومشاركتها لاجتماع حلف الناتو من أجل تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا وحتى إرسال عناصر من وحداتها الخاصة للقتال في أوكرانيا، فلقد بثت القنوات التلفزيونية الإسرائيلية مشاهد مصورة عنها، هذه الإجراءات والنشاطات أثارت حفيظة موسكو التي ردت على لسان وزير خارجيتها لافروف “بأن هتلر كان دمه يهودياً “، الأمر الذي زاد القطيعة والتوتر بين الطرفين.
إنّ هذا التوتر والعلاقات غير الودية بين الدولتين في الفترة المنصرمة انعكست على ما يبدو على علاقاتهما وتفاهماتهما في سوريا، خاصة بعد تأكيد العديد من المحللين العسكريين والسياسيين وتقرير صادر عن القناة 13الإخبارية الإسرائيلية عن قيام الدفاعات الجوية الروسية (إس 300) بفتح النيران على الطائرات الإسرائيلية العائدة من قصف لمواقع الميلشيات الإيرانية شمال غربي سوريا بتاريخ 13أيار من هذا العام، الأمر الذي أقلق إسرائيل من إمكانية حدوث تحول في موقف موسكو (رغم نفيها تلك التقارير الصادرة) بشأن التفاهمات الحاصلة بين الطرفين والمتعلقة بمعالجة مخاوفها الأمنية، ويبدو أن روسيا أرادت توجيه رسالة إلى صانعي القرار في تل أبيب ومن خلفها أمريكا، مفادها إن قدرتها على ملاحقة الميليشيات الايرانية مرتبط بموافقة وقرار موسكو، وعليها أن تعلم وتأخذ هذا بعين الاعتبار بخصوص دعمها المقدم لأوكرانيا، واصطفافها مع الدول الغربية في فرض العقوبات على روسيا ومحاولة عزلها دولياً وتدمير اقتصادها.
لذلك هناك احتمال كبير أن تتأثر العلاقات بين الطرفين بخصوص الأزمة السورية في حال استمرار الموقف الإسرائيلي المعارض للحرب الروسية في أوكرانيا وقيامهم بالتنسيق مع الغرب لزيادة الضغط على روسيا، ومن غير المستبعد أن تشهد تفاهماتهم انعطافة كبيرة في المرحلة المقبلة، رغم المحاولات الحثيثة لكلا الجانبين بتجنب القطيعة الكاملة للمصالح المتبادلة بين الطرفين، إلا أن التطورات الدراماتيكية في النظام الدولي والإقليمي والضغط الغربي المدعوم نسبياً من قبل إسرائيل على روسيا، قد تدفع الأخيرة للقيام بخطوات تصعيدية ضد الإسرائيليين كالاعتراض على الضربات الجوية الإسرائيلية على المواقع والمخازن التابعة للميلشيات الإيرانية واللبنانية عبر إغلاق الأجواء أمام طائراتهم، وفي حال استمرار إسرائيل بالقصف دون اكتراث وبعلم روسي مسبق بها قد تقوم أنظمة الدفاع الروسية هذه المرة بإسقاط المقاتلات الإسرائيلية كخطوة تحذيرية أخرى لأخذ رضى موسكو، أو قد تنسحب الأخيرة من التفاهمات الموقعة بينها وبين اسرائيل وأمريكا القاضية بعدم تمركز الميليشيات الإيرانية واللبنانية بالقرب من الحدود الإسرائيلية، وقد يكون انسحابها من بعض المناطق الحساسة والقريبة من الأراضي الإسرائيلية يأتي بعد تفاهم مسبق مع الإيرانيين لتحريضهم لإشعال الجنوب السوري والسماح لحزب الله اللبناني باستعادة نفوذه السابق في المنطقة الحدودية وتهديد المدن الإسرائيلية وزيادة الضغط عليها لتغيير مواقفها بشأن الأزمة الأوكرانية.
الاعتراض الروسي على العمليات والغارات الجوية الإسرائيلية في سوريا قد يدفعها أو دفعها بالفعل لاتخاذ خطوات تتناسب مع المعطيات والبيئة الأمنية الجديدة ومخاوف إسرائيل من تدهور العلاقات مع موسكو، يلاحظ ذلك في الزيارات الدبلوماسية التي قام بها فريق من مسؤوليها مؤخراً لبعض الدول الإقليمية والدولية لحشدها وزيادة تعاونها بشأن الملف الإيراني، كتلك التي جمعت رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيت مع كل من مسؤولي الإمارات ومصر في شرم الشيخ والتي تمحورت حول كيفية مواجهة تمدد النفوذ الإيراني، وزيارة وزير الدفاع الإسرائيلي لأمريكا التي قد تكون منحتهم بعض الضمانات عنوانها اتخاذ إسرائيل لخطوات معادية لروسيا ومساندة أوكرانيا مقابل معالجة مخاوفها في حال قيام الروس باعتراض عملياتهم في سوريا، وما يشير إلى ذلك وصف غانتس المحادثات مع مستشار الأمن القومي الأمريكي سوليفان بالممتازة. كما أن عدم ارتقاء هذه التفاهمات إلى المستوى الذي يتبدد فيها مخاوف إسرائيل واعتراض الروس على غاراتها، قد تدفعها إلى خيارات أخرى كالقيام بعمليات برية ضد المواقع الإيرانية التي ستحاول التمركز بالقرب من حدودها بالتنسيق مع الروس وبالفعل حدث توغل بري محدود للقوات الإسرائيلية داخل الحدود السورية في الأسبوع المنصرم؛ وفي حال اتخذت روسيا موقفاً أكثر تشدداً وغضت النظر عن التمدد الإيراني وتأمين حماية جوية له قد تضطر إسرائيل إلى عقد تفاهم مع تركيا ومرتزقتها لتحريضهم على القيام بعمليات عسكرية ضد القوات الروسية والإيرانية على السواء بمعدات ومساعدات إسرائيلية وإبقاء قاعدة حميميم تحت النار حيث هناك معلومات تشير إلى توتر في العلاقات الروسية- التركية في سوريا بخصوص هذا الأمر، وبنفس الوقت قد تقومان بفسح المجال أمام ما يسمى بالمجاهدين الشيشان القادمين من روسيا عبر الأراضي التركية لخوض معارك انتقامية مع القوات الروسية في أوكرانيا، مع وجود مؤشرات توحي بذلك التقارب بين الدولتين خاصة بعد زيارة قام بها وزير الخارجية التركية إلى إسرائيل لإنهاء التوترات والخلافات بينهما حول بعض القضايا الإقليمية.
هذه التطورات المحتملة قد تنعكس سلباً على مناطق شمال وشرق سوريا التي تتعرض لتهديدات بغزو جديد خاصة بوجود ضغط من اللوبي الإسرائيلي المتواجد في أمريكا لتحفيزها على منح الضوء الأخضر لتركيا ومرتزقتها لشن عمليات احتلالية جديدة على المنطقة، وبنفس الوقت قد تساعد إسرائيل تركيا بشأن مخططاتها الجديدة القديمة في عمليات التغيير الديمغرافي وذلك عبر الترويج لها دولياً وإقليمياً ودعمها مادياً تحت مسمى دعم أعمال الجمعيات الخيرية خاصة مع توارد تقارير تفيد بمساعدة إسرائيلية لعمليات التغيير الديمغرافي الحاصلة في عفرين وسري كانييه وغيرها من المناطق المحتلة قد يكون الغرض منها توطين الفلسطينيين فيها والتخلص من أي أمل لهم بالعودة وإبعاد المتشددين السنة عن حدودها واستنزاف قدراتهم بمعارك مع قسد. ومن ناحية أخرى قد تشهد مناطق شمال وشرق سوريا ضربات عسكرية موجهة من قبل إسرائيل وأمريكا ضد أماكن تواجد الميلشيات الإيرانية خاصة بعد ورود تقارير عن نشاط استطلاعي جوي إسرائيلي فوق مطار قامشلو والمنطقة المحيطة حيث تتمركز قوات محسوبة على إيران في عدد من المواقع العسكرية للنظام السوري.
لقد استطاعت إسرائيل عبر بلورة تفاهمات مع روسيا الحفاظ نوعاً ما على مصالحها الأمنية في سوريا؛ ويبدو إن المصالح الأمنية لا تزال هدفاً استراتيجياً في مسألة التعامل الإسرائيلي مع الأزمة السورية، وقد حققت لها هذه العلاقة مع روسيا الوصول إلى تفاهم يمنع تزويد القوات السورية بصواريخ متقدمة مضادة للطائرات، والحيلولة دون ترسيخ أقدام الميلشيات الإيرانية في المنطقة، الأمر الذي سيفرض على الساسة والمحللين العسكريين الإسرائيليين مراجعة سياستهم المتعلقة بمواقفهم تجاه الأزمة الأوكرانية وتخفيف حدة التوتر والتصعيد مع موسكو التي تمتلك أوراق ضغط قادرة على تهديد أمن إسرائيل، لا سيما بأن هناك توجه لدى فئة من الساسة الإسرائيليين الراغبين بتطوير العلاقات مع موسكو بعد تراجع ملحوظ في الدور الأمريكي وغموض سياساتهم الإقليمية بعد انسحاباتهم المتكررة من مناطق محددة بدون معالجة القضايا والتهديدات التي يواجهها حلفائها في منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي يثير قلق صانعي القرار في تل أبيب الذين سيكونون أمام مرحلة محفوفة بالمخاطر والتحديات في المرحلة المقبلة قد تجبر إسرائيل على توسيع نطاق عملياتها إلى خارج الحدود السورية، وبالتأكيد سيكون هناك رد فعل عكسي الأمر الذي من شأنه أن يزيد التوتر في المنطقة التي تشهد مسبقاً أزمات كثيرة.