الجنوب السوري في معادلة الصراع الإقليمي
يبدو أن المتغيرات السياسية والعسكرية الدولية بدأت تلقي بظلالها على المشهد السياسي والعسكري السوري خاصة بعد الأزمة الأوكرانية، حيث يلاحظ بأن هناك إعادة ترتيب في الملفات السياسية والعسكرية الدولية والإقليمية ضمن الملف السوري نظراً لتشابك العلاقات الدولية على كافة الأصعدة في الوقت الحالي و يبدو أن هذا الترتيب سيشمل الجنوب السوري مهد الانتفاضة الشعبية التي بدأت في اذار 2011م، ومنذ ذلك الحين تمتاز هذه المنطقة التي تضم درعا، القنيطرة، السويداء بوضع خاص بسبب موقعها الجغرافي الاستراتيجي نسبياً كقربها من الحدود الإسرائيلية والأردنية التي تعتبر بدورها البوابة إلى دول الخليج في المنطقة، إلى جانب وجود عمليات عسكرية للتحالف الدولي بسبب نشاطات داعش في بعض مواقعها، كما تكتسب أهميتها لقربها من العاصمة السورية (دمشق) وضمها لمزيج متنوع من السوريين مسلمين سنه، وموحدين دروز، وعلويين وشيعية هذه العوامل تمنح هذه المنطقة أهمية كعنصر في معادلة التنافس الإقليمي- الدولي.
سيطرت المعارضة المسلحة على هذه المنطقة الاستراتيجية لعدة سنوات وبدعم بعض الدول العربية والغربية، إلا أنه في عام 2018م عادت مجدداً لتخضع لسيطرة النظام السوري وروسيا بموجب صفقة بين الأخيرة وأمريكا وإسرائيل والأردن والإمارات، حيث تم بموجبها تخلي هذه الدول عن المعارضة مقابل منع دخول الفرقة الرابعة من الجيش السوري إليها، وإبعاد القوات الموالية لإيران وحزب الله اللبناني من منطقة الجنوب السوري لمسافة 85 كم وتزامن ذلك مع عقد اتفاق تسوية بين المعارضة المسلحة من جهة وبين الروس والنظام من جهة أخرى، إلا أنّ هذا الأمر لم يمنح الاستقرار للمنطقة بسبب إصرار كل طرف على ضمان هيمنته عليها ، إذ تشهد نشاطات عسكرية وأمنية لإيران والمجموعات الموالية لها، ومراكز عسكرية روسية، ولا تزال قاعدة “التنف” الأميركية تستمر في تقديم الدعم لفصيل موالي لها وضمان هيمنة عسكرية (جوية وبرية) لها في هذه المنطقة، بالإضافة إلى سيطرة حكومة دمشق على البلدات الجنوبية بعد إجراء ما تسمى “التسويات”، إلى جانب وجود بعض المجموعات المسلحة المعارضة وقوات محلية كتلك التي شكلها الدروز والتي تطلق على نفسها اسم قوات شيخ الكرامة ورجال الكرامة التي انفصلتا عن بعضهما البعض نتيجة خلافات داخلية على القيادة.
فإيران تسعى إلى تحويل منطقة الجنوب السوري إلى قاعدة متقدمة لنفوذها كي تبقى إسرائيل تحت مرمى نيران ميلشياتها، إلا أن الاتفاق الذي حصل بين روسيا وأمريكا وإسرائيل حرمها نوعا ما من تحقيق رغباتها إلا أنها وبعد الأزمة الأوكرانية ودعمها الكبير لروسيا تسعى لاستعادة نفوذها لذا تستخدم مختلف الأساليب من أجل ترسيخ وجودها عن طريق المساعدات الإنسانية والتشيع وخاصة بين صفوف رجال الأمن والجيش والعشائر التي تملك تأثيراً اجتماعياً في تلك المناطق، وذلك بالاعتماد على كلٍ من لواء أبو الفضل العباس، ولواء الإمام الحسن، وفرقة الرضوان، لذا وبحسب بعض المحللين فهي قادرة في الوقت الحالي وبكل سهولة الوصول إلى معبر نصيب ودعم عمليات تهريب المخدرات والأسلحة عبرها بالاستعانة بعناصر من الفرقة الرابعة التي بدورها أيضاً تسهل عمليات العبور للمواد الممنوعة من المصانع المخصصة لإنتاجها من الداخل السوري وصولاً إلى الحدود الأردنية، هذه التطورات المتسارعة وتعزيز إيران لوجودها في المنطقة يثير قلق كلاً من الأردن وإسرائيل اللتان تحاولان وبدعم أمريكي فرض رقابة استخباراتية مكثفة على هذه المنطقة.
أما القوات الروسية والنظام السوري واللذان سيطرا على المنطقة منذ عام 2018م بعد اتفاق مع أمريكا وإسرائيل، فكل منهما لديه هدف فالنظام يسعى للعودة إلى المربع الأول أي عودة مؤسسات الدولة السياسية والأمنية ومعها النفوذ الإيراني ويلاحظ ذلك في الحشود العسكرية المتعددة له لاقتحام المنطقة والذي يبدو أنه قوبل برفضٍ روسي والتي عمدت إلى وضع استراتيجية استبعدت فيها مشاركة إيران وسهّلت سياسة التسويات في تلك المنطقة كتلك التي حصلت مع أحمد العودة. أدت طبيعة هذه العملية التي قادتها روسيا إلى منع استعادة سيطرة النظام الكاملة على الجنوب السوري، وأسفر هذا التكتيك عن سيطرة ضعيفة للنظام على الجنوب، خاصة في محافظة درعا، وبدلاً من مساعدة النظام على إعادة فرض نظامه الأمني والعسكري، سعت إلى التفاوض على اتفاقية تهدئة، حفظت بموجبها دوراً لبعض المجموعات المسلحة والمعارضة المدنية وذلك لمنع التمدد الإيراني الذي يتموه خلف قوات النظام السوري وإرضاءً لإسرائيل وأمريكا والأردن بعد تفاهمها بشأن هذه المسألة مع القوى المذكورة. حاولت روسيا جاهدةً الحفاظ على هذا التوازن إلا أنه يوجد تكهنات بعدم قدرتها على الحفاظ على هذا التوازن بسبب الأزمة الأوكرانية وتوارد معلومات وتقارير تفيد بانسحاب جزئي للقوات والمعدات الروسية من بعض المناطق السورية بما فيها منطقة الجنوب السوري وتمركز عناصر تابعة لإيران هناك، والتي أكدتها تصريحات العاهل الأردني “بإن ملء إيران ووكلائها الفراغ الذي تخلفه روسيا في سوريا قد يؤدي إلى مشاكل على طول الحدود الأردنية”.
بالنسبة لأمريكا والتي تحتفظ بقاعدة عسكرية استراتيجية في التنف فهي تسعى إلى الاستفادة من مخيم الركبان والإشراف عليه إنسانياً كورقة سياسية في المفاوضات المرتكزة حول مستقبل سوريا، إلى جانب أهداف أكثر أهمية والتي تتمثل بتقويض نشاط الميلشيات الإيرانية وداعش والنظام السوري على حد سواء في تلك المنطقة وخاصة الميلشيات التي تهدد أمن حليفتها الاستراتيجية إسرائيل، لذا تراقب بكثب التحركات الإيرانية في تلك المنطقة وهناك تنسيق أمني رفيع مع إسرائيل بخصوص استهدافاتها لمواقع الميلشيات الإيرانية، هذا وبنفس السياق قامت القيادة المركزية الأمريكية في التنف بإجراء تغييرات في هيكلية الفصيل التابع له (مغاوير الثورة) ليصبح اسمه “جيش سوريا الحرة” وهناك تزامن في اتخاذ هذه الإجراءات مع ازدياد النفوذ الإيراني على حساب النفوذ الروسي في تلك المنطقة.
أما إسرائيل فهي تسعى إلى الحد من نفوذ المليشيات الإيرانية وعلى رأسها حزب الله اللبناني في تلك المنطقة وقد استطاعت تحقيق ذلك نسبياً عبر المفاوضات التي انتهت إلى توافق الأطراف في عام 2018م على استبعاد الوجود الإيراني عن الحدود الإسرائيلية والأردنية إلى مسافة 85 كيلومتر، إلا أن الأزمة الأوكرانية والخلافات والتوترات مع روسيا إثر الدعم الإسرائيلي القوي لأوكرانيا بضغط غربي زاد من تعقيد الحسابات الإسرائيلية التي بدأت تستشعر بالخطر خاصة مع تطور العلاقات الدبلوماسية والعسكرية التي تتجه لتصبح شراكة دفاعية كاملة بين الدولتين، وما يشير إلى هذا الأمر التصريحات الأمريكية في الآونة الأخيرة بأن روسيا تعتزم تزويد إيران بمعدات عسكرية متطورة من بينها مروحيات وأنظمة دفاع جوي الأمر الذي قد يدفع بالتفاهمات الروسية- الإسرائيلية في سوريا إلى حافة الانهيار في مسألة استهداف الميلشيات الإيرانية التي انتعشت من جديد بعد الانشغال الروسي بأوكرانيا.
أما الدول العربية وعلى رأسها الأردن التي تعاونت في تقديم الدعم لبعض الفصائل المسلحة أثناء سيطرتها على الجنوب السوري إلا أن رهاناتها فشلت بسبب تنافسها على الزعامة ومصادر التمويل واقتتالها على مناطق النفوذ وعدم قدرتها على التوحد تحت راية واحدة وهذا ما دفع بالدول العربية إلى التخلي عنها لصالح أجنداتها المتمثلة في إبعاد المليشيات الإيرانية وتحجيم نفوذها في سوريا وخاصة في الجنوب التي عادت إلى الواجهة من جديد حيث تتوالى التصريحات بخصوص هذا الشأن من قبل الأردن التي تكن معارضة شديدة للميلشيات الإيرانية، وتحاول بشتى الوسائل والطرق الدبلوماسية والأمنية من احتوائها وبخصوص هذه المسألة صدرت العديد من التقارير التي تفيد باجتماع حصل بين بعض قادة الفصائل في الجنوب السوري وبعض مسؤولي الدول العربية في الإمارات وبدعم إسرائيلي لمواجهة نفوذ الميلشيات الإيرانية والبحث في كيفية التخلص منها، هذا ويندرج في هذا السياق أيضاً زيارة ملك الأردن عبد الله الثاني إلى واشنطن في حزيران/يونيو 2021 ولقائه بالرئيس الأميركي جو بايدن، بهدف التأكيد على حاجة الأردن إلى تعاون مع واشنطن بخصوص هذه المسألة.
أما بالنسبة للفصائل المحلية العاملة في تلك المنطقة كجيش أحرار الجنوب الذي يعتبر نفسه جزءاً من المعارضة في تلك المنطقة، وقوات شيخ الكرامة المحسوبة على الدروز والتي تحاول الحفاظ على مناطقها من الفوضى، هذه القوى تسعى إلى الحفاظ على وجودها ولو بشكل نسبي كي تبقى كقوى محلية مؤثرة في المعادلة السياسية في تلك المنطقة التي تشهد توترات كبيرة بين الفينة والأخرى، بين القوى الفاعلة في تلك المنطقة الاستراتيجية؛ فالسياسات المحلية في منطقة الجنوب مرتبطة ارتباطاً وثيقاً باعتبارات إقليمية وخارجيه ، لذا ليس من المستغرب أن تنحدر المنطقة إلى ساحة صراع مباشر بين تلك القوى المذكورة وقد تشهد المنطقة عدة سيناريوهات.
فمثلا قد تنهار التفاهمات المبرمة منذ عام 2018م بين روسيا وأمريكا والأردن وإسرائيل، وزيادة التغلغل الإيراني وتهديدها لأمن الأردن وإسرائيل اللتين تطالبان بمنطقة آمنة في الجنوب السوري، والتي يبدو أنها صعبة التحقيق في الوقت الحالي، لذا وفي حال عدم نجاحهما في تحقيق مطالبهما قد تقومان وبدعم من بعض الدول العربية وأمريكا وبريطانيا بحملة برية عسكرية محدودة وبالتنسيق مع قوات محلية مثل قوات شيخ الكرامة وبعض فصائل المعارضة لطرد الميلشيات الإيرانية من تلك المنطقة، هذا وفي حال تدخلت إسرائيل بقواتها البرية قد تبقى فيها لحين الوصول إلى صيغة أمنية جديدة مع روسيا وأمريكا ترى فيها ضمانة لأمنها القومي المزعوم.
هذا وقد تكون التغييرات التي أجرتها أمريكا في قاعدة التنف عبر تغيير اسم الفصيل وقائدها تأتي في إطار حسابات مستقبلية لها من أجل الاستعانة بها كقوات برية لمواجهة الميلشيات الإيرانية التي تصعد من استهدافاتها ضد القواعد الأمريكية في التنف وفي شمال وشرق سوريا. إلا أن روسيا قد تعيق هذا الأمر في ظل تطور العلاقات الإيرانية الروسية في الفترة الأخيرة، هذا وقد يقوم النظام السوري بدعم من الميلشيات الإيرانية باقتحام المنطقة التي حصلت فيها تسويات والسيطرة عليها كباقي المناطق الأخرى. هذا وقد يستمر الوضع لما هو عليه في الوقت الحالي واستمرار العمليات التآمرية بين جميع الأطراف لتحقيق أجنداتهم في تلك المنطقة التي تشهد تمردات واغتيالات يومية.
يبدو أن حالة عدم الاستقرار ستبقى هي السمة المحددة للجنوب السوري في المستقبل المنظور. وستستمر جهود النظام لفرض سيطرة أكبر، كما ستتواصل مقاومة هذا النهج في الجنوب من قبل الأطراف الأخرى المحلية والإقليمية. في الوقت نفسه، ستعمل إيران على تعزيز نفوذها وستستمر القوات الإسرائيلية في الدفاع عن نفسها بالتنسيق مع أمريكا. حتى إن المنطقة قد تشهد تأسيس إدارة ذاتية على غرار الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا. ومع تقادم الأيام سيتوضح المشهد بدرجة أكبر.