التقارب السوريّ – التركيّ والسيناريوهات المُحتمَلة

تركيا وسوريا دولتان إقليميتان متاخمتان وببنهما حدود مشتركة قد تصل إلى 822 كم، علاقتهما تاريخياً مضطربة ومتوتّرة بين حينٍ وآخر، وازادت العلاقة اضطراباً في عهد الأسد الأب وأسبابها كثيرة ومتنوّعة، لكن هذه العلاقة ركنت للهدوء والتطوّر وشهدت انعطافاً مغايراً في حقبة الأسد الابن؛ ووصلت هذه العلاقة إلى درجة من التناغم والانسجام، إلى أن اندلعت شرارة الثورة السورية، حيث انحرفت واتّخذت اتّجاهاً مغايراً طغت عليه المصالح من جهة، ومن جهة أخرى كلاهما يتبعان محورَين متناقضَين؛ المحور الشيعي بقيادة إيران والذي تبنّاه بشار الأسد، والمحور السنّي بقيادة تركيا، وبناءً عليه ومنذ بداية الثورة السورية المسالمة والمطالبة بالحرية والديمقراطية سعت تركيا إلى فتح حدودها ونصب المخيمات استعداداً لإيواء اللاجئين، وقامت بضخّ الإرهابيين من جميع أنحاء العالم إلى سوريا؛ لتنفيذ مشاريعها ومخطّطاتها لإرساء نظام “إخوانيّ” مماثل لها أولاً، ولتطبيق “الميثاق الملّي” وإعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية ثانياً، وضرب الوجود الكردي ومسحه من أقصاه إلى أدناه ثالثاً، وإقامة منطقة عازلة وزرعها باللاجئين كخنجر مسموم في خاصرة المنطقة الكردية وحزام ناسف بين الدولتين. لكن “تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ” لأنّ الأزمة السورية تعقّدت وتأزّمت واتّخذت بُعداً دولياً؛ الأمر الذي دمّر وحطّم مشاريع ومخطّطات الدولة التركية ومرتزقتها على صخرة التحالف الدولي وعمادها قوات سوريا الديمقراطية؛ حيث ساءت العلاقة التركية – الأمريكية جرّاء ذلك؛ فاستدارت نحو المحور الروسي وتحوّل نظامها من نظام “صفر مشاكل” إلى خلق المشاكل، متجاوزة كل المواثيق والأعراف الدولية بتدخّلها السافر في شؤون الدول الأخرى، ومهما يكن من أمر فإنّ مشروعها “الإخواني” قد باء بفشل ذريع في المنطقة بعد سلسلة من الإجراءات والمشاكل، من احتلال إلى اجتياح واقتطاع أجزاء من الأراضي السورية، وأصبحت تركيا دولة راعية للإرهاب تعشعش في حضنها كافة التنظيمات الإسلامية المتطرّفة؛ والتي استخدمتها لأغراضها في الداخل السوري وخارجه مثل ليبيا وأذربيجان وآخرها في نيجيريا. لكن ما حدث نتيجة هذه السياسة المتخبّطة والمضطربة لم تجنِ ثماراً، بل انعكست عليها في الداخل والخارج، الأمر الذي أرغمها على الاستدارة نحو سوريا بمساعدة روسية وعراقية أملاً بالعودة وحلحلة المشاكل؛ وهذا الانعطاف تحدّه آلاف إشارات الاستفهام جواباً لهذا التقارب؛ ولعلّ أهمّها:

– ما الذي تغيّر لكي يتم هذا التقارب وبهذه الوتيرة؟

– لمَ الهرولة والمغازلة في هذا الوقت بالذات؟

– ما موقف الشعب السوري الهارب من جحيم الحرب إلى الشمال السوري؟

– ما الدور الروسي في هذا الجانب؟

– ما الدور العراقي في هذا التقارب؟

– ما الموقف الأمريكي وقوات التحالف؟

– ما تأثير الانتخابات المحلية للبلديات على هذه الخطوة؟

– هل سيتكلّل هذا التقارب بالنجاح؟

– ما مصير المعارضة المنضوية تحت العباءة التركية؟

– هل هذا التقارب قائم على التفاهم لمحاربة شرق الفرات؟

– هل أدركت تركيا مخرجات القمّة العربية في المنامة؟

– هل ستتم عودة اللاجئين؟

– وما هي المخاوف المشروعة لشرق الفرات من هذا التقارب؟

– وهل… وهل… وهل …؟

هذا الشريط الطويل من الاستفهامات الملحّة والمعقولة بحاجة إلى أجوبة واضحة بهذا الخصوص، فأوّل ما يتبادر إلى الذهن أنّ التغيير الذي جرى هو الإعلان عن إجراء انتخابات محلّية للبلديات في مناطق شمال وشرق سوريا؛ الأمر الذي أثار حفيظة النظام التركي وخشيته من إضفاء الشرعية بمباركة أمريكية لإرساء دعائم الأمن والاستقرار في هذه المنطقة بالذات، وهذا الموضوع لا يروق أيضاً لكلّ من سوريا والعراق وإيران، بل يُقابَل بالرفض؛ خوفاً من الاستحقاقات المستقبلية. هذه الخطوة حفّزت أردوغان وشجّعته على التخلّي عن أفكاره القديمة والاستعداد التام لملاقاة الأسد وقطع الطريق على هذا المشروع الذي لم يتبلور بعد.

لكي ندرك أهمية ذلك لا بدّ من إلقاء الضوء على العناصر الفاعلة؛ وأهمّها الدور الروسي الذي لعبه “ألكسندر لافرنتيف” في مناقشة المبادرة والضغط على رأس النظام السوري الذي أبدى استعداداً تامّاً وانفتاحاً على كلّ المبادرات، شريطة ألّا تمسّ السيادة الوطنية ووحدة الأراضي السورية -على حدّ زعمه- وكانت هذه الخطوة من تجلّيات اللقاء ما بين وزير خارجية تركيا والرئيس الروسي بوتين، تلاه بعد ذلك اجتماع الوفود من الطرفَين وبمساهمة روسية في قاعدة “حميميم”، تسعى روسيا من خلال هذا الدور لأن تفرض وجودها وأن تقطع الطريق على المبادرة العربية وتخفّف عن نفسها أعباء الحرب؛ لتتفرّغ بشكل كامل لحربها مع أوكرانيا.

أمّا الدور الذي يلعبه رئيس وزراء العراق “محمد شيّاع السوداني” فيكمن في وجود قضايا وتهديدات مشتركة، وأي استقرار في سوريا سينعكس إيجاباً على العراق، وكذلك يدرك أهمية سحب ورقة النظام من جانبه الأمني إلى الجانب السياسي، وكذلك تجمعهما قضية الكرد والتي تشكّل قاسماً مشتركاً بينهما.

أمّا على صعيد الدور الإيراني فهو منسجم تماماً مع المبادرة المطروحة، لتعويم النظام وتطبيعه وبسط نفوذه على الشمال السوري، وهو دور مساعد في تقريب وجهات النظر بين الطرفين.

أمّا الموقف الأمريكي فهو واضح أيضاً؛ لا يثق بالنظام القائم ويعارض أيّ تطبيع يريد الحفاظ على مؤسّسات الدولة السورية، وجاء ذلك على لسان المتحدّث باسم الخارجية الأمريكية /نيد برايس/ حيث قال: “نحن لا ندعم الدول التي ترفع مستوى علاقاتها أو تعرب عن دعمها لإعادة الدكتاتور ودمجه وتنشيط دوره في التفاعلات الإقليمية”.

أمّا فيما يتعلق بتأثير الانتخابات المحلّية للبلديات في شمال وشرق سوريا والتي تم تأجيلها، فقد كان لها بالغ الأثر في تحريك مياه السياسة الراكدة، وتمّت مناقشة هذه الانتخابات مع روسيا وخطورتها وأبعادها؛ ما ساهم في تنشيط المباحثات التركية – الروسية وسط تصعيد اللهجة في أنقرة، والتلويح بالخيار العسكري من أجل منع اتّخاذ مثل هذه الخطوة وتداعياتها المستقبلية؛ الأمر الذي سرّع من وتيرة الاتصالات الدبلوماسية بين أنقرة وموسكو بعدما اعتراها الركود والجمود.

أمّا على صعيد المعارضة التي تعيش في الكنف التركي فقد باتت منقسمة على نفسها تعصف بها الخلافات؛ ما دفع الجانب التركي لعدم الاكتراث بها، لأنّ أوراقها قد احترقت ولم تعد تركيا بحاجة إليها بعد أن استخدمتها في الخارج والداخل، فمصلحة الوطن هي من أولويات الحكومة التركية، الأمر الذي أثار استياء المعارضة، وهي لا تستطيع أن تضغط على تركيا لمنع التقارب، فتركيا هي التي اشترتها وهي الآن تبيعها، فما تسمّى بالمعارضة هي الخاسر الأكبر عسكرياً وسياسياً في هذه التسوية، وهذا هو مصير من يرتهن للخارج.

 أمّا على الصعيد الشعبي فقد آن الأوان لهذه الجماهير التي هربت من الجحيم أن تدرك ماهية وعدوانية النظام التركي، والذي لا يقلّ شراسة ووحشية عن نظام الأسد.

أمّا على صعيد الإدارة الذاتية لإقليم شمال شرق سوريا فقد كان موقفها واضحاً، وهي التي قرأت المشهد السوري بشكل صحيح وأثبتت صوابية مواقفها كمعارضة وطنية، فهي ترى أنّ أية مصالحة بين أنقرة ودمشق ستكون مؤامرة كبيرة على تطلّعات الشعب السوري التوّاق للحرية والديمقراطية، وأنّها خطوة في الاتجاه الخاطئ؛ لأنّها لا تخدم مصلحة الشعب السوري بل ستكرّس التقسيم، وأكثر من ذلك فهي مؤامرة على وحدة سوريا وسلامة أراضيها، وهي لا تلبّي طموح الشعب السوري وحقوقه المشروعة، وهي خيانة بحق سوريا وشعبها، ولا يخفى على أحدٍ أنّ بوادر هذا التقارب ظهرت للعلن بدءاً من تصريحات كبار المسؤولين وانتهاءً بالانفتاح على الأسد، وصولاً للشعب الهائج القائم بالمظاهرات والرافض لكلا النظامين، وما فتح معبر “الزندين” إلّا إشارة واضحة على جدّية هذه الخطوة.

إذًا؛ الجهود حثيثة لتطبيق التقارب التركي – السوري، لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ستتكلّل هذه الخطوة بالنجاح؟ وماهي السيناريوهات المحتملة؟

السيناريو الأول: يشمل الجانب التركي والروسي والسوري والعراقي، حيث أدركت تركيا تماماً فشل مشروعها في سوريا؛ وباتت تعاني من التضخّم المالي والانهيار الاقتصادي وتدنّي سعر الليرة التركية وارتفاع أسعار السلع الأساسية، مع ارتفاع أصوات الأحزاب المعارضة وانتقاداتها اللاذعة، وتلكّؤ مخطّطات أردوغان وإخفاقاته وتدنّي مستوى المعيشة وعبء اللاجئين، وفشله الذريع في الانتخابات المحلّية؛ كلّ هذه الأمور أجّجت الوضع الداخلي المتأزّم أصلاً، ليرتمي أردوغان في الحضن العراقي والروسي ليساهما في دفع عجلة التقارب مع دمشق؛ وليتخلّص من الضغط الداخلي ويحسّن الوضع، من خلال فتح المعابر والمبادلات التجارية؛ عسى أن تدور عجلة الاقتصاد التركي من جديد.

السيناريو الثاني: إقبال تركيا على اتّخاذ مثل هذه الخطوة ضرورة تفرضها مصالحها، لكنّ الطريق ليس مفروشاً بالورود وهناك عقبات وعراقيل؛ أوّلها الشعب السوري في الشمال، وثانيها المحور الثاني لها بالمرصاد وأقصد الجانب الأمريكي والدول العربية وقوات سوريا الديمقراطية والشرعية الدولية /٢٢٥٤/ ومخرجات القمّة العربية في المنامة والعودة الطوعية الآمنة للاجئين وإعادة الإعمار وقانون قيصر، كلّها صعوبات في وجه هذا التقارب. إذًا؛ الفشل ينتظر هذه الخطوة، وإن حدثت فستكون جزئية ولا ترقى لمستوى الحلّ السياسي العام.

أمّا السيناريو الثالث فهو: يمكن أن يكون هذا التقارب نسبياً وجزئياً ونصّياً وعلى مراحل، تقرّبهما الحاجة الاقتصادية لكلا البلدين وبمباركة روسية، لكن هيهات أن تصل إلى المستوى الأمثل لتطلّعات وطموح الشعب السوري، وتبقى هذه السيناريوهات مفتوحة على كلّ الاحتمالات، لكن على الأرجح سوف لن يُكتب لهذا التقارب النجاح؛ وسببها التجاذبات السياسية والتناقضات الدولية والإقليمية في الأزمة السورية، والحلّ يكمن في أن تصل كلّ الدول الداخلة في الصراع إلى تفاهمات حقيقية وجوهرية، آخذة بعين الاعتبار الشرعية الدولية /٢٢٥٤/ وكلّ المكوّنات السورية.

زر الذهاب إلى الأعلى