الاحتجاجات ضدّ هيئة تحرير الشام… التداعيات والسيناريوهات

في تطوّر لافت، فضّت قوات الأمن التابعة لهيئة تحرير الشام يوم 13 أيار احتجاجاً وسط مدينة إدلب، استخدمت خلاله الرصاص الحيّ وأزالت خيمة اعتصام بالقوّة والهراوات، في تصعيد غير مسبوق من خلال اشتباكات مباشرة مع المحتجّين، يأتي ذلك في سياق قضية عملاء التحالف التي تسبّبت بأزمة داخلية داخل صفوف الهيئة، ما يهدّد وجودها مع استمرار الاحتجاجات والنزول للشارع في ظلّ استخدام منطق التصعيد لا الحوار.

ومن الواضح أنّ توسّع الاحتجاجات في عدّة مناطق من إدلب ومحيطها، خاصة في بلدات “تفتناز ومعرّة مصرين وجسر الشغور”، وامتدادها إلى “إعزاز ومدينة عفرين المحتلّة” في مناطق الجيش الوطني، يشير إلى فقدان هيئة تحرير الشام القدرة على إنهاء الحدث ورأب الصدع مع السكان منذ 25 شباط/ فبراير 2024 وكذلك فشل ذريع بامتصاص غضب الشارع بتلبية مطالب وقفية متعلّقة بسلوك هيئة تحرير الشام في قضايا محدّدة.

أمام هذا الحراك تجد هيئة تحرير الشام نفسها في مواجهة تحدٍّ كبير بسبب الاحتجاجات المتزايدة ضدها منذ ثلاثة أشهر؛ وتعكس هذه الاحتجاجات استياءَ شعبياً متنامياً بسبب الوضع السياسي والأمني في المناطق التي تسيطر عليها الهيئة، ويُعزى جزء من هذا الاستياء إلى سيطرتها على المناطق المدنية وتورّطها في العديد من القضايا، بما في ذلك انتهاكات لحقوق الإنسان. وتتجاوز تداعيات هذه الاحتجاجات بمسألة تنحية القيادة الحالية للهيئة المتمثّلة بـ ”محمد الجولاني“ إلى تأثيرها على الوضع العام وسيناريوهات الاحتجاجات في المستقبل في سوريا.

أولاً. تداعيات الاحتجاجات ضدّ هيئة تحرير الشام:

تُظهر الاحتجاجات المستمرّة ضدّ هيئة تحرير الشام مدى تعقيد الأوضاع في شمال غرب سوريا وسط تمسّك الهيئة بالحلول الأمنية، وما يزيد من التعقيد هو تداخل عدد من المفاعيل في الاحتجاجات ما يجعلها أكثر شمولية، لا سيّما من القاعدة الشعبية التي تتمثّل بمشاركة نشطاء مدنيّين مستقلّين، ناهيك عن أنّ حزب التحرير المعارض قد وجد الفرصة متاحة للمشاركة في تجديد احتجاجاته ضدّ الهيئة، جنباً إلى جنب مع عناصر من بعض ألوية الهيئة الناقمين على قياداتها بسبب تعرّضهم وأقاربهم للاعتداءات في سجونها، وتُضاف إلى ذلك مشاركة عناصر من فصائل الجيش الوطني المناهض لها في الاحتجاجات.

تشير الاحتجاجات إلى وجود غضب شعبي واسع ضدّ هيئة تحرير الشام، والذي لا يرتبط فقط بقضية عملاء التحالف، والتي أدّت إلى الأحداث اللاحقة، بل يعكس أيضاً رفض شريحة كبيرة من السكان لحكم الهيئة في المنطقة؛ حيث يُنظَر إليها على أنّها سلطة أمر واقع غير مرحّب بها لا محلياً ولا دولياً، وكذلك لا مستقبل لها في أيّة تسوية في سوريا. وبرغم محاولاتها لتجميل صورتها أمام العالم وتبنّي خطاب أكثر اعتدالًا، إلّا أنّ ذلك لم يغيّر من الواقع الاقتصادي المتدهور الذي تعاني منه تلك المناطق، من نقص شديد في الخدمات الأساسية مثل: الكهرباء والماء والرعاية الصحية، خصيصاً مع ارتفاع أسعار المواد الأساسية مثل: الغذاء والوقود وارتفاع معدّلات البطالة، وكذلك في ظلّ تفشّي الفساد المالي واستغلال الموارد الاقتصادية لصالح قيادات الهيئة، ما يحرم المواطنين من الاستفادة من تلك الموارد ولو بالحدّ الأدنى.

الثابت أنّ الاحتجاجات لن تقف عند سقف معيّن من الحراك الشعبي؛ حيث كان للسياسات القمعية والتسلّطية لهيئة تحرير الشام، والاعتقالات التعسّفية ضدّ المعارضين والناشطين أن زادت من حالة السخط بين السكان كما زادت من التضييق على الحريات؛ حيث فرضت الهيئة قيودًا صارمة على حرية التعبير والتجمّع، ما جعل الناس يشعرون بالاختناق السياسي والاجتماعي، كلّ ذلك أدّى إلى فقدان الحاضنة الشعبية وتزايد الانتهاكات والضغوط الاقتصادية، في المقابل بدأت الحاضنة الشعبية بالتقلّص، خذ بالاعتبار زيادة الوعي السياسي؛ حيث أصبح السكان أكثر وعياً بقدرتهم على التغيير والضغط على الهيئة، من خلال الاحتجاجات والمطالبة ببعض الحقوق، خاصة  عندما يقارنون مناطقهم بمناطق الإدارة الذاتية و يلاحظون الانجازات المتحقّقة في شمال وشرق سوريا.

تشير الوقائع إلى فجوة عميقة بين هيئة تحرير الشام والمحتجّين الذين يرونها نموذجاً للحكم غير الرشيد، وسلطة عسكرية فرضت نفسها على أرض الواقع بسبب سوء إدارة الموارد، حيث تفتقر الهيئة إلى التخطيط السليم في تنفيذ المشاريع التنموية، ما أدّى إلى إهدار الموارد المتاحة. بالإضافة إلى ذلك، تستغلّ الهيئة المساعدات الإنسانية لصالحها، لتعرقل وصول هذه المساعدات إلى السكان المحتاجين بسبب سياساتها المتفرّدة، ما زاد من حالة الاستياء الشعبي. فضلاً عن تفاقم التوتّرات بين الهيئة وفصائل الجيش الوطني، ما أدّى إلى اندلاع اشتباكات متكرّرة تتسبّب في زعزعة الاستقرار المحلّي.

ثانياً. سيناريو شمال غربي سوريا في ظلّ الاحتجاجات:

يطالب المحتجّون -على اختلاف شرائحهم-؛ بتنحّي “الجولاني” عن قيادة الهيئة، وتفكيك جهاز الأمن العامّ، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.  ويعتقد هؤلاء أنّ تعامل الهيئة يشبه إلى حدّ ما تعامل النظام السوري مع المظاهرات السلمية في الأيام الأولى لما تُسمّى بالثورة السورية. في المقابل حذّرت الهيئة من أنّ أي مساس بالمصالح والقواعد العامة وأيّ تجاوز للخطوط الحمراء ضمن المنطقة يعني أنّها ستتحرّك لمواجهة هذا الأمر بحزم وقوة؛ لذا أمام هذا الواقع تتعدّد السيناريوهات المحتملة لتطوّر الاحتجاجات بين المحتجّين وهيئة تحرير الشام، وكلّ منهما يحمل في طيّاته تداعيات مختلفة على مستقبل المنطقة، خاصة مع استعداد الهيئة لتغيير طريقة تعامُلها مع الأحداث بشكل علني.

1-السيناريو الأول:

بالتوازي مع الاحتجاجات والأزمة الداخلية المتصاعدة، يقوم “الجولاني” بجهود لاحتواء الوضع وإيجاد حلول للمشاكل المطروحة؛ حيث قام بتنظيم اجتماعات مع نشطاء، وسياسيين، وإعلاميين، ووجهاء محلّيين، وقادة عسكريين، بهدف التواصل المباشر وسماع مطالب الشارع. خلال هذه الاجتماعات قدّم “الجولاني” وعوداً بالاستجابة لمطالب المحتجّين؛ حيث تشمل إصلاحات داخلية في صفوف هيئة تحرير الشام، مثل إجراء تعديلات في قيادتها أو إحداث تغييرات في البنية التنظيمية ووعود بمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وتعزيز حقوق الفرد والحريات العامة. من خلال هذا الحراك، يسعى “الجولاني” إلى استعادة الثقة والتفاهم مع السكان وتهدئة الأوضاع. كما يهدف أيضاً إلى المحافظة على الاستقرار في المنطقة الخاضعة لسيطرته.

2- السيناريو الثاني:             

في هذا السيناريو يسعى “الجولاني” لاحتواء الأزمة مع الجناح العسكري مؤقّتاً؛ ليستطيع بذلك توسيع خياراته في التعامُل مع الاحتجاجات الشعبية ذات المطالب المرتفعة؛ خاصة تلك التي تطالب بتنحّيه والعمل على تنفيذ المطالب الدنيا، حيث سيلجأ إلى تفكيك جهاز الأمن العام أو إعادة تشكيله ضِمن حكومة الإنقاذ، وتغيير مرجعية الحكم الحالية في منطقة إدلب؛ باختيار مجلس شورى جديد يمثّل المنطقة والسُّكّان بشكل واضح، والإفراج عن المعتقلين. في المقابل إن لم ينجح هذا السيناريو في تهدئة المحتجّين فسيلجأ “الجولاني” إلى تصعيد القمع تجاههم للقضاء على أيّة مظاهر احتجاجية بالقوة، واعتقال العديد من الناشطين، وبالرغم من أنّ هذا السيناريو قد يؤدّي إلى تراجع الاحتجاجات على المدى القصير إلّا أنّه قد يفاقم السخط الشعبي ويؤدّي إلى اندلاع موجات احتجاجية أكثر عنفًا في المستقبل.

  1. السيناريو الثالث:

في هذا السيناريو يكون مستقبل المنطقة مفتوحاً على عدّة احتمالات، بما في ذلك إمكانية تدخّل جهات محلّية أو إقليمية لإعادة الاستقرار، بما في ذلك قوات سوريا الديمقراطية، لا سيّما مع استمرار الفوضى وتصاعد الاحتجاجات وانتشارها على نطاق واسع، ما يؤدّي إلى تفاقم الضغط على هيئة تحرير الشام. ومع تزايد عدد المحتجّين وتنوّع مطالبهم، تجد الهيئة نفسها مضطرّة لمواجهة واقع جديد يتطلّب تغييراً جذرياً في طريقة تعاملها مع الأوضاع، في حال لم تتّخذ إجراءات فورية وملموسة لتهدئة الأوضاع، فقد تجد نفسها أمام خيار استخدام السلاح على نطاق تدريجي ومحدود بالرغم من محاولتها تجنّب هذا الخيار حتى الآن، أو من خلال تمرّد داخلي من خلال انشقاقات كبيرة داخل صفوفها، الأمر الذي يزيد من ضعفها ويعرّضها لخطر الهجمات من الفصائل المعارضة والقوات الحكومية السورية ومحاولات استعادة السيطرة على هذه المناطق، وهو أمر وارد قد يهيّئ لانهيار داخلي؛ ما قد يؤدّي إلى إعادة رسم خريطة السيطرة والحاكمية في شمال غرب سوريا.

خلاصة القول تبدو منطقة شمال غربي الفرات أمام خيارين أحلاهما مرّ؛ الأول: يمتدّ تأثير الاحتجاجات إلى المجالات العسكرية والسياسية والاجتماعية، ما يلقي بظلاله على مستقبل المنطقة في ظلّ تصاعد العنف، وهو ما قد يكون له تأثير كبير على الأمن والاستقرار.

أمّا الخيار الثاني: فهو السيطرة الكاملة على المنطقة من قبل هيئة تحرير الشام، ما يعني حدوث تغيير جذري في قيادتها، وتهيئة مساحة لتغيير هيكليتها وتحقيق توازن جيوسياسي وسط هامش كبير لتحرّك الكثير من القوى والمفاعيل في الأحداث القائمة.

زر الذهاب إلى الأعلى