الهجوم الإرهابي على المركز الثقافي الكردي وسط باريس هل هو وليد الصدفة أم أنّ “وراء الأَكَمة ما وراءها”؟

الهجوم على مركز “أحمد كايا” الثقافي الكردي في الدائرة العاشرة وسط باريس يوم الجمعة 23/كانون الأوّل، والذي نفّذه رجل فرنسي يبلغ من العمر تسعة وستين عامًا قد شغل العالم بأسره، كما أنّه أصبح حديث الساعة لوسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، هذا الهجوم الذي أقلّ ما يُقال عنه أنّه ” هجوم إرهابي” استهدف أشخاصًا محدّدِين في مكان وزمان محدّدَين.

أثار هذا الهجوم غضب الجالية الكردية في فرنسا، وهو ما دفعها إلى الخروج فورًا في تظاهرات عارمة في مكان الهجوم، للتعبير عن استنكارهم لما حصل هناك؛ وربّما دفع الغضب بالمتظاهرين إلى القيام ببعض ردود الأفعال الآنية مثل إشعال النيران وكسر حاويات القمامة وغير ذلك، وهذا ما دفع قوات الشرطة الفرنسية إلى التدخّل ومحاولة تفريق المتظاهرين.

فما هي الأسباب التي دفعت بالرجل السبعيني إلى القيام بذلك الهجوم؟

بعد التحقيقات الأولية مع المجرم الذي أقدم على الهجوم اعترف وبشكل فوري بأنّه أقدم على فعلته بدوافع “عنصرية” وبسبب كرهه للأجانب.السلطات الفرنسية قالت وعلى لسان وزير الداخلية جيرالد دارمانان: “إنّ التحقيق كشف حتى الآن أنّ مُطلِق النار تحرّك بمفرده وأراد “مهاجمة أجانب”

أمّا مؤسّس حزب “فرنسا الأبية” اليساري الراديكالي (جان لوك ميلانشون)والذي حضر المؤتمر الصحفي فقد قال إنّه: لا يؤمن “بالصدفة عندما يتعلّق الأمر باغتيال أكراد في باريس” بعد نحو عشر سنوات على قتل ثلاث ناشطات كرديات في الدائرة العاشرة بباريس، في عملية يؤكّد المجلس الديمقراطي الكردي أنّ للاستخبارات التركية يدًا فيها.

السلطات الفرنسية قد أعلنت أنّ المهاجم يبلغ من العمر تسعة وستين عامًا، وقد غادر السجن منذ أيام بعد حبسه بسبب تنفيذه اعتداءً عنصريًا العام الماضي على مخيّم للمهاجرين غير النظاميين.

إلى مَن تتّجه أصابع الاتّهام ؟

أبدى المجلس الديمقراطي الكردي في فرنسا عدم رضاه عن تصريحات السلطات الفرنسية، وأوضح أنّه من “غير المقبول” عدم وصف حادث إطلاق النار بأنّه “هجوم إرهابي”.

(أجيت بولات) المتحدّث باسم المجلس صرّح خلال مؤتمر صحفي في مكان غير بعيد عن موقع الهجوم “من غير المقبول عدم الحديث عن الطابع الإرهابي ومحاولة الإيحاء بأنّه مجرّد ناشط يميني متطرّف جاء لارتكاب هذا الاعتداء على مقرّنا”.

وأضاف “الوضع السياسي في تركيا فيما يتعلق بالحركة الكردية يدفعنا بشكل واضح إلى الاعتقاد بأنّ هذه اغتيالات سياسية”.

الرواية الرسمية الفرنسية تحاول بشكل أو بآخر إبعاد التهمة عن تركيا ودفع سبب الهجوم باتّجاه آخر على أنّه مجرّد تصرّف فردي عنصري ولا تقف خلفه أيّة جهة أو جماعة.

أمّا إذا قرأنا الهجوم من زوايا مختلفة استنادًا إلى (المكان، الزمان، الضحايا) فإنّنا ربّما نتوصّل إلى استنتاجات مغايرة للرواية الرسمية الفرنسية. أوّلًا من حيث المكان المُسْتَهدَف، فإنّ نفس المكان وقبل حوالي عشر سنوات كان قد تعرّض لهجوم مماثل، وقد وجّهت التهمة حينها إلى رجل تركي لكنّه توفّي قبل محاكمته عام / 2016 / وهو ما أثار العديد من إشارات استفهام. ثانيًا من حيث الزمان، فإنّ الهجوم الذي وقع قبل حوالي عشر سنوات كان قد حدث في شهر كانون الثاني من / 2013 / أي؛ نفس الشهر الذي وقع فيه الهجوم الأخير.

ثالثًا: الضحايا، إنّ القارئ والمتابع إذا ما قارن طبيعة وصفات الضحايا الثلاث للهجوم الأوّل مع الضحايا الثلاث للهجوم الأخير في باريس سوف تتولّد لديه تلقائيًا فكرة أوّلية عن الجهة المستفيدة من الهجوم، ففي العاشر من كانون الثاني عام 2013م. تمّ اغتيال ناشطات كرديات ثلاثفي الدائرة العاشرة من وسط باريس، وهنّ المناضلات (ساكنة جانسيز، وفيدان دوغان، وليلى سويلمز) وكنّ مناهضاتٍ للدولة التركية و سياساتها تجاه الكُرد،وفي الهجوم الأخير أيضًا كان من بين الضحايا مناهضين للدولة التركية وسياساتها تجاه الكرد، فأحدهم (مير برور) وهو مغنٍّ وفنّان كردي ولاجئ سياسي “ملاحَق في تركيا بسبب فنّه”، والرجل الثاني (عبدالرحمن كيزيل) هو مواطن كردي عادي يتردّد على الجمعية يوميًا، أمّا الضحية الثالثة فهي كما نقلت صحيفة لوموند الفرنسية عن مصادر كردية في باريس قولها، إنّها “ناشطة كردية اسمها (إيمين كارا) كانت ترأس “حركة النساء الكرديات في فرنسا”.كما كانت (كارا) في الصفوف الأولى أثناء المعارك التي استهدفت تحرير الرقة من تنظيم “داعش” في صيف / 2017/، ثم طلبت اللجوء السياسي في فرنسا، لكن سلطات الهجرة رفضت طلبها، واستأنفت القرار وبقيت في فرنسا.

بالتأمّل والتدقيق في معطيات الحادث سيجد القارئ أنّ الجهة المستفيدة والتي تدور حولها أصابع الاتّهام، وتكاد تكون الجهة الوحيدة المستفيدة ممّا حدث هناك وهي الدولة التركية وأجهزة استخباراتها (الميت التركي)، وهي التي تحارب الكُرد ورموزهم وأعلامهم في كلّ مكان وزمان، حتى ولو كان في صحراء قاحلة.

ردود الأفعال الدولية:

لقد أثار الهجوم على المركز الثقافي الكردي في باريس ردود أفعال دولية ومحلّية تندّد بالهجوم وتتعاطف مع الضحايا وتدعو إلى حماية الجالية الكردية وجمعياتها في فرنسا من أيّة هجمات محتملة مماثلة.

الرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون) عبّر عن استنكاره -في تغريدة على تويتر- لما وصفه بالهجوم “الشنيع” الذي استهدف الكُرد في قلب باريس، كما أبدى تعاطفه مع الضحايا والأشخاص الذين يكافحون من أجل العيش وأسرهم وأحبائهم.

وزير الخارجية الأميركي (أنتوني بلينكن)عبّر – من خلال تغريدة له على “تويتر” – عن تعازيه للضحايا، فقال:

“أتقدم بأحرّ التعازي لضحايا الهجوم على المركز الثقافي الكردي في باريس. أتعاطف مع أعضاء الجالية الكردية وشعب فرنسا في هذا اليوم المحزن.

المستشار الألماني (أولافشولتس)عبّر عن تضامنه مع ضحايا الهجوم الذي وصفه بـ ” الفظيع”

عمدة باريس (آن هيدالغو) قالت:”إنّ استهداف المجتمع الكردي، هو استهداف لجميع الباريسيين”وكتبت(هيدالغو)في تغريدة على (تويتر) “يجب أن يتمكّن الأكراد، أينما كانوا، من العيش في سلام وأمن أكثر من أي وقت مضى،وشدّدت على أن “باريس إلى جانبهم في هذه الساعات المظلمة”.

أعمال الشغب والاعتداء على الممتلكات العامّة والخاصّة أثناء التظاهرات، مَن يقف خلفها؟

رافقت المظاهرات الغاضبة أعمال شغب وتحطيم للممتلكات العامّة والخاصّة وإشعال النيران في الشارع، للوهلة الأولى ربّما يتصوّر المرء أنّ المتظاهرين الغاضبين هم الذين يقومون بمثل هذه الأعمال، وفي الواقع وأمام مرأى عيون المشاهدين والمتابعين لقنوات الإعلام هذا ما حدث فعلًا.

لكن ماذا جرى خلف الكواليس؟ ومَن كان يقوم بتلك الأعمال التخريبية؟

المتظاهرون كانوا غاضبين جدّا ممّا حدث، ولكن يبدو أنّ هناك جهات قد استغلّت ذلك الغضب وأرادت تحويل المظاهرات السلميّة إلى وجهة أخرى؛ من خلال زرع أيادٍ خفيّة لها بين المتظاهرين،لدفع بعض الشباب المنفعل إلى القيام بأعمال شغب وتحطيم لواجهات المحلّات ولوحات الإعلانات،وتحطيم وإحراق السيارات المركونة في الشارع ـ والتي ربّما يمتلكها بعض المتظاهرين الكرد- لكنّ بعض المتظاهرين الكرد قد انتبهوا إلى ما يحدث، وفهموا أنّ المظاهرات ربّما تأخذ منحىً آخر وقد تنعكس سلبًا على صورة المتظاهرين الكرد، و كذلك ينعكس على العلاقة الطيّبة للكُرد مع الدولة الفرنسية، لذلك قاموا بإبعاد تلك العناصر المخرّبة وأعلنوا عبر وسائل الإعلام أنّ أعمال الشغب والتخريب لا تمثّلهم” كما دعا المحتجّون إلى إخلاء مكان التظاهر.

الجالية الكردية في فرنسا وفي محاولة منها لتدارك الوضع وإصلاح ما حاولت الأيادي الخفيّة إفساده في الشارع، قامت تلك الجالية يوم الإثنين 26/12/2022 بمسيرة هادئة تضامنًا مع ضحايا الهجوم الإرهابي، تحت شعار “بثورة المرأة سوف ننتقم” حاملين صور الضحايا وآلاتٍ موسيقية، وهذا ما شكّل ارتياحًا لدى السلطات الفرنسية التي بيّنت في أكثر من موقف أنّ الكُرد لايعرفون التخريب وهذه ليست من صفاتهم، وقد شاركت في المسيرة التضامنية مع ضحايا جريمة “باريس” رئيسة بلدية الدائرة العاشرة في باريس (ألكسندرا كوردبار)

أخيرًا …الموقف التركي:

يبدو أنّ مظاهرات الجالية الكردية وتصريحات مسؤوليها في فرنسا قد أحرجت تركيا ولم ترقْ لها تلك التصريحات، وهذا ما دفعها إلى استدعاء السفير الفرنسي في أنقرة لتعبّر له عن انزعاجها من الاتّهامات التي توجّه إليها خلال المظاهرات،فقد نقلت وكالة (فرانس برس) عن مصادر دبلوماسية قولها إنّ تركيا استدعت السفير الفرنسي لديها، اليوم، الاثنين، على خلفية “دعاية مناهضة لتركيا” بعد هجوم باريس الذي وقع الأسبوع الماضي وأودى بحياة ثلاثة أكراد.وقال المصدر “لقد عبّرنا عن عدم رضانا عن الدعاية السوداء التي أطلقتها دوائر حزب العمال الكردستاني ضد بلدنا، ولأنّ الحكومة الفرنسية وبعض السياسيين يتم استخدامهم أداة في هذه الدعاية.

إنّ هذا الموقف التركي المتسرّع وغير المتّزن يؤكّد مرّة أخرى وبما لا يدع مجالًا للشكّ أنّ تركيا ليست ببعيدة عن دائرة الاتّهام، إن لم نقل إنّها متورّطة بشكل أو بآخر،وربّما يكون الاتّهام مزدوجًا هذه المرّة، مرّة في الهجوم على المركز الثقافي الكردي بشكل مباشر، ومرّة أخرى في أعمال الشغب والتخريب خلال تظاهرات الجالية الكردية بعد الهجوم، في محاولة منها لتشويه صورة الكُرد المتظاهرين وإفساد علاقتهم الطيّبة مع السلطات الفرنسية ومؤسّسات الدولة الفرنسية.

زر الذهاب إلى الأعلى