مسار العلاقات الروسية ـ التركية

بين التقارب و الانحسار

تمرّ العلاقات الروسية التركية بمرحلة حساسة حيث تتسم هذه العلاقة بالازدواجية (تجاذب وتنافر) وكلما طالت هذه الحالة ازدادت حدة الخلافات بينهما، سواء أكانت في إدلب أو في شمال وشرق سوريا أو ليبيا، ويعود ذلك إلى الأسس الهشّة التي بنيت عليها هذه العلاقة. ومن الممكن أن تأخذ التناقضات التي رافقت هذه العلاقة منذ البداية مساراً يغير من مجرى هذه العلاقة كلياً بين الاستمرارية بهذه الوتيرة الحالية أو انفجار التناقضات والاختلافات التي رافقت مسار هذه العلاقة. كذلك فإن العقوبات الاقتصادية المفروضة على تركيا بسبب تغريدها خارج السرب الأوربي والأمريكي أثرت على هذه العلاقة في إحداث تقارب حذر ومحدود حسب طبيعة تلك العقوبات، وتعود إحدى العوامل الرئيسية للضغوطات التي تتعرض لها تركيا من قبل أوربا وأمريكا, اعتقاد تركيا بأن بهذه العلاقة ستمكنها من خلق نوع من التوازن تستطيع تركيا من خلاله الالتفاف على تلك الضغوطات وعدم الرضوخ لمطالب الناتو بشكل كامل وبما يتوافق مع سياسة أردوغان والاستفادة من التناقضات الأمريكية الروسية ، ويعود أسس إرساء العلاقة الروسية التركية منذ البداية على قاعدة تقاطع الحسابات المرحلية والتكتيكية التي تناقض صلب الهدف الاستراتيجي لكلا الدولتين، والتي انسجمت وتوافقت حول الصراع السوري وبدأت تتبلور إبان إسقاط تركيا للطائرة الروسية في الشمال السوري نهاية عام 2015.

تدخلت روسيا في الصراع السوري على أساس حماية النظام وإعادة تعويمه في المناطق التي فقدت السيطرة عليها لتخلق حالة الاستقرار على الساحل السوري في المتوسط حيث المياه الدافئة والسيطرة عليه كهدف استراتيجي، حيث أوحى هذا التدخل الروسي لتركيا بأن صيغة الرؤية الروسية التي تنطلق منها غير قادرة على وقف زحف الفصائل التابعة بما تسمى بالمعارضة نحو دمشق والمناطق الأخرى التي مازالت تحت سيطرة النظام بغية إسقاط النظام وإقامة حكم إخواني بدلاً من البعث، وقامت بإسقاط الطائرة الروسية كرسالة منها بوقف هجماتها المتصاعدة ضد هذه الفصائل الإرهابية وأن لتركيا اليد الطولى في الملف السوري، ولكن مع الرد الروسي على تلك الحادثة من تكثيف ضرباتها الجوية ضد هذه الفصائل، وتقديم الدعم لقوات سوريا الديمقراطية في مقاطعة عفرين والشهباء الأمر الذي قض مضاجع تركيا، حيث وجدت تركيا  بناءً على ذلك أن الوجود الروسي في سوريا يحظى أولاً بالموافقة الدولية ولو بشكل ضمني، وثانياً  فالاصطدام مع روسيا والعمل خارج مسارها يخلق أرضية جديدة بعيدة كلياً عن أهداف تركيا الأردوغانية في سوريا، وثالثاً أدركت تركيا مدى القوة الروسية والتي ليست في وسعها مجابهتها بشكل مباشر وإن أي مواجهة يعني إنهاء نفوذ وأجندات تركيا.

وبناء على هذه المعطيات والتي برزت على المسار السياسي والعسكري في سوريا، فرضت تقاطعاً في المصالح الخاصة للطرفين على الساحة، حيث دخلت روسيا وتركيا مرحلة التفاهم والتوافق السياسي الناجم عن تغيير في الخارطة العسكرية، وأدركت روسيا جيداً المناخ السياسي في سوريا, سواء المصالح المتضاربة وأهداف كل دولة تتواجد في سوريا واستطاعت تطويع جميع الدول الإقليمية في سياق تدعيم أهدافها الاستراتيجية في سوريا مقابل قيام روسيا بإضعاف أي من القوى المحلية التي تحاول استهداف سيادة الدول المجاورة لسوريا وفقاً لادعاءات تركيا والأردن و إسرائيل ودول الخليج حيث استطاعت روسيا إبعاد تنظيم داعش الإرهابي والفصائل الجنوب من الحدود مع الأردن مقابل إعادة النظام إلى هناك وفتح معبر نصيب بعد إغلاقه وتخلي الأردن عن تلك الفصائل ، وعلى الصعيد الإسرائيلي استطاعت روسيا إبعاد إيران لمسافة 100 كيلو متر من الحدود مع إسرائيل وفتح المجال الجوي لإسرائيل بضرب المليشيات الشيعية مقابل عودة قوات النظام والشرطة العسكري الروسية إلى الحدود الإسرائيلية.

لذا تبلور الانسجام التركي الروسي حول فهم روسيا للهواجس الأمنية التي باتت حينها وإلى الآن لتركيا أكثر أهمية من مسألة مستقبل سوريا السياسي ومن أجنداتها المتمثلة في المعارضة، ومن ثم قيام روسيا بعرض نفسها على أساس أنها الضامنة لمخاوف الأمن القومي التركي التي تدعيها تركيا مراراً وتكراراً، ولتهدئة تلك الهواجس تقوم روسيا بعقد صفقة تمكنت من خلالها تحجيم الهيمنة التركية وتقليصها من خلال تجميع المرتزقة وحصرهم في عفرين وإدلب مقابل فتح المجال الجوي لتركيا والسماح لها باحتلال مقاطعة عفرين وبذلك استطاعت روسيا التخلص من تلك الفصائل من درعا جنوباً إلى حماة شمالاً حينها، وضمن هذا السياق اتبعت روسيا هذه السياسة مع جميع الدول الإقليمية المتواجدة في سوريا منذ تدخلها، من خلال مسار الفاعلية الروسية في الأستانة وسوتشي، والذي مازال مستمراً إلى يومنا الراهن، لذلك فمسار العلاقة التركية الروسية في سوريا تم إرسائها على هذه القاعدة التي ذكرناها، وعليه فإن لغة الدبلوماسية بين الطرفين الروسي ـ التركي، والزيارات المتكررة للطرفين حول مختلف الملفات تفيد ببروز الخلافات والتناقضات أكثر من التوافق والتفاهم، فالتصريحات التركية بعد احتلالها لسري كانيه وكري سبي والتي تحاول من خلالها تسويق شعاراتها الوهمية بخصوص الأمن التركي والتي مفادها بأن قوات سوريا الديمقراطية لم تنسحب من الحدود بمسافة 30 كيلو متراً، يأتي التأكيد الروسي على أن قسد انسحبت من كل تلك المناطق، وفي ملف إدلب ضمن إطار الهدف الاستراتيجي الروسي إبعاد الخطر عن قواعدها البحرية وفي المناطق الساحلية، لذا تحاول التخلص من الفصائل الإرهابية في إدلب ,تركيا من جانبها تؤكد على ان التصعيد  العسكري تسبب بكارثة إنسانية الأمر الذي يقف عائقاً أمام روسيا بسبب الدعم الأوربي والأمريكي لهذه الرؤية التركية، وأمام ذلك تؤكد روسيا بأن تركيا لم تلتزم بوعودها في أستانة حيال مسألة جبهة النصرة وكيفية حلها.

 لذلك من الوارد في ظل الواقع الإقليمي الحالي الذي يتسم  باتساع رقعة الأزمة والتي وصلت إلى ليبيا وتؤثر وتتأثر بشكل أو بآخر بالملف الليبي، وتتحول نتيجة تعمقها إلى عقدة تصعب فكها وحلحلتها كلما طال عمرها، وعندما يصل الصراع إلى ذروته  يكون مرحلة الاحتواء المتبادل للمصالح قد انتهت وباتت علاقة كل طرف بالآخر تتأزم وتستهدف الوجود العسكري والسياسي وتصبح الاستراتيجيات والأهداف على المحك، أن يتحول التفاهم حول ملف إدلب إلى تفاقم يؤدي إلى مزيد من التصعيد العسكري في ظل الأحداث المتسارعة في المنطقة وخاصة أن أمريكا عارضت أكثر من مرة أي هجوم من روسيا والنظام على إدلب، صحيح أن مسار العلاقة التركية الروسية تحسن كثيراً ولكن انحسار هذه العلاقة والعودة إلى الوراء يكون أمراً وارداً‘ في ظل العوامل التي تقف وراء ذلك الانحسارالذي مازال قائماً وترافق مسيرة التقارب الروسي التركي حول سوريا منذ البداية، لذلك نجد في زيارات المسؤولين الأتراك المتكررة خلال الأسابيع الماضية تشير إلى وجود خلافات وظهور بوادر لذلك الانحسار خاصة حول ملف إدلب، بسبب طبيعة التناقضات التي تكمن في صلب تلك العلاقة والمرتبطة بأهداف استراتيجية والتي لا يمكن إخفاؤها منذ أن أرست المسار السياسي بينهما في ساحة الصراع السوري الذي استنزف الجميع  وبرز بشكل واضح في كثير من الأوقات، وبناء على ذلك تبقى قوة العلاقات بين الدولتين حول مختلف الملفات مرهونة بالقدرة على احتواء التغييرات التي تعصف بالمنطقة، للحفاظ على التقارب المستمر بينهما.

                     

زر الذهاب إلى الأعلى