أردوغان  واستراتيجية الإبتزاز

غدت السياسة الأردوغانية مضرباً للمثل في  البراغماتية التي انتهجها الرئيس التركي خلال العقدين الماضيين، في التلوّن والتغيّر والأهواء وفق ما تقتضيه المصلحة الشخصية والحزبية  على حساب الفكر والأيديولوجيا، مازجاً  ما بين الإسلام السياسي والولاء القومي الطوراني، منقلباً على رفاقه في الحزب كعبدالله غول رئيس الجمهورية السابق، وكذلك ووزير خارجيته أحمد داوود أوغلو، وقبل ذلك انشق عن معلّمه فتح الله غولن، كما أنّه انقلب على معظم حلفائه، بمعنى أنّه لم يكن وفيّاً معهم حتى النهاية، ولسنا هنا في مجال التنقيب عن سيرته السياسية منذ تولّيه الحكم بواسطة حزب العدالة والتنميه، وانقلابه على النظام البرلماني وتغييره إلى النظام الرئاسي، وانقلابه على الجيش والقضاء والإعلام والتعليم، وزجّ المعارضين في السجون، وتغيير الدستور واتباع السياسة الشعبوية تجاه المعارضين واللعب بأصوات الناخبين والمعارضين، واتباع سياسة داخلية قائمة على الرشوة وشراء الأصوات وبثّ أعوانه في المدن والأرياف، وتوجيه الإعلام والصحافة لخدمة مساره وفوزه بالانتخابات، رغم كوارث الزلزال الذي دمّر المدن وشرّد الملايين من الشعب التركي في الداخل، وحرمان جيرانه من مياه دجلة والفرات مخالفاً بذلك القوانين والأعراف الدولية التي تتعلّق بالأنهار العابرة كنهري دجلة والفرات في العراق وسورية، مهدّداً الحياة بكل أنواعها في الدول المذكورة، غير آبهٍ بحياة ملايين البشر ناهيك عن الزراعة والجفاف التي تسبب الهجرة وغيرها من المشاكل الاقتصادية، واحتلال أراضٍ عراقية وإنشاء القواعد العسكرية التي بلغت أكثر من 30 قاعدة، واحتلال أراضٍ سورية في عفرين ورأس العين وتل أبيض، وممارسة التغيير الديمغرافي والتطهير العرقي وممارسة الإعادة القسرية للاجئين السوريين إلى رأس العين وتل أبيض، وهم من أهالي حلب وإدلب ويريدون العودة إلى مناطقهم الأصلية، والكل يعلم كيف ابتزّ الرئيس التركي الغرب لقيامه بوقف تدفّق اللاجئين السوريين وغيرهم إلى أوربا مقابل 6مليارات من الدولارات الأمريكية، ولايزال يبتز بهذه الورقة.

صار الرئيس التركي يُعرَف بهذه السياسة البراغماتية؛ فبالأمس كان صديقا مقرّبا من الرئيس السوري بشار الأسد ثم انقلب عليه، على أثر أحداث الأزمة السورية، وانقلب على المملكة العربية السعودية وذلك باتّهام وليّ العهد السعودي بمقتل الصحفي جمال الخاشقجي في السفارة السعودية، ثم تراجع عن الموقف ساعياً إلى تحسين العلاقات وإعادة التوازن مع العربية السعودية، وانقلب على جمهورية مصر العربية أثناء إطاحة الجيش المصري بالرئيس الإخواني محمد مرسي، والآن يسعى إلى إعادة العلاقات على مستوى السفراء، وهناك زيارة متوقّعة للرئيس السيسي إلى تركيا في أواخر هذا الشهر في يوليو، ناهيك عن خلافاته مع دولة الإمارات العربية المتحدة على خلفية دعم الجماعات المسلّحة الإخوانية في ليبيا، ثم تراجع عنها وحسّن من علاقاته بالقيام بالزيارات المتبادلة مع رئيس دولة الامارات العربية المتحدة محمد بن زايد آل نهيان، للتخلّص من أزمات تدهور الليرة التركية والتضخّم الذي تجاوز أكثر من ثلاثين بالمئة، وقبل عشرة أيام من الآن في شهر يوليو/ تموز انقلب على صديقة فلادمير بوتين رئيس روسيا الاتحادية التي تقود حرباً مصيرية في أوكرانيا، وسلّم خمسة من القادة الأوكرانيين لبلادهم، مخالفاً بذلك الاتفاق الذي أبرمه مع بوتين، والذي ينصّ على أن لايسلّموا حتى تضع الحرب أوزارها، وهو ما اعتبرته روسيا بمثابة طعنة في الظهر، ولا ننسى ابتزاز رجب طيب أردوغان لروسيا في ممارسة الضغط على الولايات المتحدة لتغيّر موقفها من قوات سوريا الديمقراطية وشنّ هجمات على شرق الفرات وإغراء الروس بعلاقتها للحصول على الصواريخ الروسية  (س 400) بدلاً من صواريخ (باترويت) الأمريكية، والانقلاب الجديد الأردوغاني على الروس تمثّل بموافقة تركية على انضمام السويد لحلف شمال الأطلسي، ورغم تفهّم الروس لدوافع ذلك، إلّا أنّ ذلك سوف يكلّفهم الكثير؛ فقد صار الناتو على الحدود الروسية المباشرة وأصبح بحر البلطيق ذا نفوذ أطلسي بامتياز، هذه استدارة جديدة في السياسة التركية البراغماتية، وكان محطّ ترحيب قوي من الرئيس الأمريكي جو بايدن ومن رئيس حلف الناتو ستولتنبرغ ورئيس وزراء السويد أولف كريسترسون،  الذين رحّبوا بإحالة بروتوكول انضمام السويد إلى البرلمان التركي مؤكّدين ضمان التصديق عليه، ووصفوا هذه بالخطوة التاريخية بالنسبة للغرب بأنّ الناتو بات أقوى من ذي قبل وأكثر أمناً، كما أبدى الرئيس الامريكي استعداده لدعم كلّ الأسطول التركي وتحديثة وتزويده بصفقة طائرات (اف 16) وابتزاز الرئيس التركي لايقف عند هذا الحد، بل جدّد مطالبه بانضمام تركيا  إلى الاتحاد الأوربي في ظلّ التأييد  الأمريكي ودعمه، ولعلّ هذه الاستدارة التركية تأتي في محاولة لحلّ الازمة الاقتصادية العاصفة بتركيا؛ من تدهور الليرة التركية والتضخّم الكبير في الاقتصاد التركي، وحلّ أزمته منوط بالغرب والولايات المتحدة الامريكية؛ لأنّه ورغم علاقاته المتقدّمة مع روسيا فلا تزال أغلب الاستثمارات غربية وأوربية، كما طال الترحيب بخطوة انضمام السويد إلى الناتو كلاً من بريطانيا وألمانيا والممثّل الأعلى للاتحاد الأوربي على خلفية انعقاد القمة في العاصمة الليتوانية فيلنيوس. فالغالب أن هذه الاستدارة التركية نحو الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، ستكون لها آثارها الاقتصادية دولياً وإقليمياً وداخلياً، وربما تميل تركيا إلى المرونة أكثر في تحدّي الولايات المتحدة في سوريا، وتحسّن وتطوّر من علاقاتها أكثر مع الدول العربية الخليجية الموالية في سياستها للغرب، وربّما تترك آثارها ايجابيا على شرقي الفرات والادارة الذاتية الديمقراطية، وتخفّف الخناق على حصار القائد أوجلان وعلى المعارضة الكردية داخل تركيا، ويبقى التفاؤل رهن التوقّعات التي نأمل أنّها تجنح للسلم.

زر الذهاب إلى الأعلى