الأحداث التي تشهدها المنطقة وتبعاتها على إقليم شمال وشرق سوريا

أحمد بيرهات   

تشهد منطقة الشرق الأوسط تصاعداً كبيراً في العمليات العسكرية الإسرائيلية على جبهتَي غزة وجنوب لبنان، والأخيرة طغت على المشهد مع استهداف قيادات الصف الأول لحزب الله وعلى رأسهم الأمين العام للحزب حسن نصر الله.

فالشرق الأوسط يضجّ بالقضايا المتشابكة والأجندات المتصارعة، ويبدو أنّنا أمام تطوّرات جديدة وأنّه قد آن الأوان لاستبدال المراكز والأطراف فيه، وما يحدث اليوم من تطوّرات سيكون تأثيرها كبيراً على المنطقة، بل قد تتجاوز حدود هذه الجبهات المشتعلة وقد تشمل مستقبلاً اليمن والعراق وإيران وسوريا ومناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا أيضاً.

التصعيد الإسرائيلي في مواجهة حركة حماس وحزب الله:

 بعد استهداف حركة حماس لإسرائيل في 7 تشرين الأول 2023 وحتى الآن في ما سمتها بـ”عملية طوفان الأقصى” تزداد الخسائر في البنية التحتية والأرواح البشرية التي تجاوزت عشرات الآلاف من المواطنين الأبرياء، إضافة إلى آلاف الجنود والمقاتلين من الأطراف المتقاتلة، وهُجّر غالبية السكان من مناطقهم؛ فاعتمدت إسرائيل في ردّها على توجيه ضربات عنيفة ومركّزة على أهداف في غزة وجنوب لبنان، وهذه العمليات تأتي ضمن سياق الصراع المستمر مع حركة حماس وحزب الله، تهدف إسرائيل من خلالها إلى إضعاف القدرات العسكرية لهاتين القوتين وتقويض نفوذها، بل حتى إمكانية إنهائها، وقد حقّقت تفوّقاً وتقدّماً كبيراً في ذلك، بعد أن تمكّنت من تصفية غالبية قيادات حركة حماس وحزب الله تحديداً، ولكنّها تواجه تحدّيات كبيرة في ذلك؛ بسبب الطبيعة والتركيبة التنظيمية والعقائدية لحركة حماس وحزب الله ذوا العقيدة والأيديولوجية الإسلامية، وإن اختلفا في المذهب، وكونهما يمتلكان قدرات قتالية ولوجستية و”تقنية بعض الشيء” بالإضافة للدعم والرصيد الشعبي الداخلي والخارجي الكبير اللذين يمتلكانها، وإلى جانب التوتّر العسكري، هناك تصعيدٌ سياسي ودبلوماسي في التعامل مع هذه الجبهات، حيث تسعى إسرائيل إلى تأمين غطاء دولي لتحرّكاتها العسكرية، وهذا ما حصلت عليه بشكل مباشر من الدول الكبرى كأمريكا، وغير مباشر كروسيا وغالبية البلدان الأوربية وبعض الدول العربية كالسعودية والإمارات، فيما تحاول كل من حماس وحزب الله خلق ردع من خلال تطوير صواريخ بعيدة المدى وتهديد العمق الإسرائيلي، وهذا هو واقع الحال في الحرب الدائرة الآن في لبنان وفلسطين وشظاياها المبعثرة في كل المنطقة.

تأثيرات التطوّرات الأخيرة على سوريا:

تأثّرت سوريا بهذه التطورات بشكل كبير، خاصةً وأنّها تشكّل ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، فأي تصعيد إسرائيلي ضدّ حزب الله في لبنان قد يتسبّب في استهداف مواقع عسكرية داخل سوريا، وهذا ما حصل ويحصل حالياً، لا سيّما تلك المواقع التابعة لحزب الله أو للقوات الإيرانية المتواجدة هناك، وإسرائيل سبق وأن شنّت العديد من الغارات الجوية ضدّ مواقع عسكرية في سوريا، بحجّة منع نقل أسلحة متطوّرة إلى حزب الله، أو الحيلولة دون تعزيز النفوذ الإيراني فيها، علاوةً على ذلك، فأي تصعيد عسكري مفرط وخارج السيطرة في المنطقة يمكن أن يؤدّي إلى حرب إقليمية بين إسرائيل وإيران وأطرافهما، وبالتالي؛ إلى تقويض جهود إعادة الاستقرار في سوريا، وسيزيد من معاناة الشعب السوري الذي يعاني من تداعيات الأزمة التي يعيشها منذ عام 2011م والمستمرة في ظلّ غياب أفق حل سياسي قريب.

تداعيات المستجدات الأخيرة في المنطقة على الإدارة الذاتية الديمقراطية

تُعتبَر تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم شمال وشرق سوريا تجربة رائدة ونوعية في المنطقة، تعتمد هذه الإدارة على مبدأ المشاركة الديمقراطية في الشؤون الداخلية للمنطقة التي تديرها، والمشكّلة فعلياً في خضم الأزمة في سوريا ومن رحمها ولاقت قبولاً نسبياً من المكوّنات الموجودة ضمن مناطق هذه الإدارة وحتى خارجها، لكن بالرغم من ذلك فإنَّ هذه الإدارة تواجهها تحدّيات كبيرة في ظلّ التهديدات المستمرة من تركيا من جهة، ومن داعش والخلايا النائمة التابعة لها من جهة أخرى.

والتصعيد الإسرائيلي الأخير، وإن كان بعيداً جغرافياً عنها، إلّا أنّه يؤثّر على الأجواء العامة في سوريا ويزيد من تعقيد الأوضاع الأمنية؛ فأيّ انهيار أمني أو تفاقم للصراع في المنطقة قد يشجّع تركيا على توسيع عملياتها العسكرية ضدّ الإدارة الذاتية الديمقراطية، بحجّة الحفاظ على أمنها القومي، وبالأساس تهديداتها لهذه الإدارة لا تتوقّف؛ فهي شبه يومية.

إذاً؛ فالتصعيد الإسرائيلي في غزة وجنوب لبنان سيزيد من هشاشة الوضع الإقليمي، ويهدّد بتوسّع دائرة الصراع لتشمل سوريا بشكل أكبر بسبب الوجود المكثّف لإيران وحزب الله فيها، وسوريا بدورها قد تشهد مزيداً من التدخّلات الخارجية والضغوطات العسكرية، خاصةً إذا تفاقمت المواجهة بين إسرائيل وحركة حماس وحزب الله المدعومتين من إيران، وإذا لم تتدخّل القوى العظمى لإيقافها، فالمنطقة معرّضة لخطر كبير لا يمكن تصوّر نهايته.

وضمن هذه الأحداث المتسارعة يظلّ مستقبل الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا معلّقاً في واقع التوتّرات الموجودة؛ حيث تواجه ضغوطاً متزايدة على مختلف الجبهات، ما يجعلها في موقف حسّاس.

ووسط هذا الصراع المعقّد، ولحماية نفسها من التهديدات المتزايدة عليها في هذه الفترة، وخاصةً من جانب تركيا التي تعتبر الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا تهديدًا لأمنها القومي، ولمواكبة التطوّرات في المنطقة، يمكن للإدارة اتباع مجموعة من الاستراتيجيات السياسية والاجتماعية والعسكرية والاقتصادية التي تساعدها على تعزيز استقرارها واستدامتها في ظلّ التوتّرات الإقليمية، ويمكن توضيح هذه الخطوات ببعض النقاط التالية:

  1. تعزيز التحالفات الدولية والإقليمية:

هناك حاجة ماسّة للإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا لتعزيز علاقتها مع الدول المؤثّرة في العالم، كالولايات المتحدة وروسيا؛ فهما قوّتان مؤثّرتان وبشكل مباشر على الأوضاع السياسية والعسكرية في المنطقة وفي سوريا تحديداً، وأيضاً هناك ضرورة لبناء علاقات دبلوماسية متينة مع الدول الأوربية كفرنسا وإنكلترا؛ فهذه العلاقات يمكن أن تشكّل مكسباً وتمنع التدخّلات العسكرية التركية (الخطر الدائم على الإدارة الذاتية الديمقراطية)، كما أنّها قد تمنحها شرعية قانونية ودولية أكبر على الساحة الدولية مستقبلاً.

ولابدَّ من التعاون مع الحكومات الإقليمية؛ كتوثيق العلاقات مع الحكومة العراقية ومجلس التعاون الخليجي ومصر، وتصحيح مسار العلاقات مع الجميع قد يكون مفيداً وجيّداً في خلق نوع من التوازن في العلاقات الإقليمية وتعزيز التنسيق في مواجهة التهديدات المشتركة خاصةً من تنظيم داعش وربيبتها، وأجندات السياسة التركية الكثيرة، والتي تشكّل هاجساً لدى بعض الدول كمصر والإمارات والسعودية، والأخيرة يجب التركيز عليها بشكل كبير.

  1. الحكمة السياسية في إدارة التعامل مع تركيا:

بالرغم من أنّ تركيا ترى في الإدارة الذاتية الديمقراطية تهديداً لأمنها؛ بسبب ما تدّعيه من “الروابط التاريخية مع حزب العمال الكردستاني”، إلّا أنَّ الإدارة يمكن أن تسعى إلى فتح قنوات للحوار غير المباشر مع أنقرة، عبر وسطاء من شخصيات سياسية واعتبارية أو دول كروسيا أو الولايات المتحدة الامريكية، وهذا قد يساعد في تخفيف التوتّرات وخلق مساحات للتفاهم حول بعض القضايا الأمنية؛ فتصريحات قائد قوات سوريا الديمقراطية السيد مظلوم عبدي  بين الفينة والأخرى في هذا الشأن، إضافة للتصريح الأخير للرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية الديمقراطية إلهام أحمد لمركز روجآفا للدراسات الاستراتيجية، تمهّد لما أشرتُ إليه آنفاً.

فهذه التصريحات تعتبر تأكيدًا على عدم تهديد الأمن القومي التركي من قبل الإدارة الذاتية الديمقراطية، والأخيرة بهذه الرسائل الموجّهة إلى تركيا تؤكّد فيها أنّها لا تسعى لتشكيل تهديد على أمن تركيا، وأنَّ الهدف الرئيسي لها هو حماية مناطقها من تنظيم داعش والميليشيات والفصائل المتشدّدة والمتطرّفة؛ فمثل هذه المبادرات يمكن أن تساهم في خفض التصعيد بعض الشيء، لكن علينا أن نشير إلى أن تركيا أيضًا مطالَبة باتّخاذ بعض الخطوات الإيجابية في هذا الشأن إذا ما أرادت تجاوز هذه المرحلة العصيبة من تاريخ المنطقة، وذلك عبر خطوات وإجراءات فعلية نحو التحوّل الديمقراطي داخليًا، وفي علاقاتها الخارجية لتخطّي الفوبيا التي تعيشها منذ تأسيسها عام 1923م.

  1. تقوية مؤسّسات الأمن الداخلي و”الدفاع الذاتي”:

 الإدارة الذاتية الديمقراطية  مطالَبة بضرورة تحسين القدرات الدفاعية وتعزيز القوات العسكرية لقوات سوريا الديمقراطية، من خلال التدريب واستحضار المعدّات المتطوّرة، ويمكن أن يوفّر ذلك للإدارة الذاتية الديمقراطية وسيلة فعّالة للدفاع عن مناطقها والمكوّنات القاطنة على أراضيها في حال أي تصعيد تركين أو ضغوطات من قوات حكومة دمشق، أو هجمات من تنظيم داعش والفصائل التابعة لتركيا، وبالطبع فإنّ القيام بكل ذلك يكون بالتنسيق مع التحالف الدولي وبشكل رسمي، والتركيز باحترافية على التكتيكات والتحصينات الدفاعية، واستخدام التكنولوجيا المتطوّرة قد يساعد في الحدّ من الأضرار الناجمة عن أي هجوم محتمَل من الأطراف المذكورة.

 كل ذلك سيصعّب المهمّة أمام القوات التركية، خاصةً في حال محاولتها شنّ هجمات جوية أو أي اجتياح برّي بالرغم من استبعاد الأخيرة وفق الحسابات الموجودة لدى الأطراف المتصارعة في المنطقة.

  1. بناء اقتصاد شبه مستقل ومُستدام (الاكتفاء الذاتي):

 تكمن أهميته في احتمالية تقليل الاعتماد على الدعم الخارجي، ويجب على الإدارة الذاتية الديمقراطية تعزيز اقتصادها المجتمعي عبر تطوير الزراعة والصناعة الإيكولوجية وتقوية وتمتين البنية التحتية؛ فالاقتصاد القوي يعني استقلالية أكبر في القرارات التي تخصّ المنطقة، ويجعل الإدارة أقل عُرضة للضغوطات الخارجية أو الرضوخ لها.

فالإدارة الذاتية الديمقراطية تمتلك بعض الموارد الطبيعية، مثل النفط والغاز في مناطقها وينبغي استخدامها بحكمة وواقعية، وأن تأخذ ظروف الحرب بعين الاعتبار سيكون سابقة واقعية جداً، إضافة لتوفّر القمح والقطن وغيرها من الموارد الأساسية في مناطقها، والذي قد يساهم في تأمين الموارد المالية اللازمة للحفاظ على الاستقرار وتطوير مناطقها في مجالات عديدة.

  1. تعزيز التعاضد بين المكوّنات المجتمعية:

الإدارة الذاتية الديمقراطية تعتمد على نموذج ديمقراطي يضمّ مختلف المكوّنات والقوميات والأديان، ويجب تعزيزها من خلال مشاركة كافة المكوّنات: كالعرب والكرد والسريان  وغيرهم، في إدارتها للمنطقة من خلال إجراء انتخابات عامة (بسبب الظروف التي تمرّ بها المنطقة تم تأجيل انتخابات البلدية لإقليم شمال وشرق سوريا)، يمكن أن  يزيد ذلك من تعزيز الاستقرار الداخلي ويقلّل من فرص التوتّرات الداخلية، كما يتم استغلال بعض الشخصيات والعشائر لخلق فتن وإثارة النعرات؛ كما حصل مؤخّراً في ديرالزور، وقبلها في الحسكة، وسيزيد تحسين الخدمات الاجتماعية، كالتعليم والصحة، من شرعية الإدارة في أعين السكان المحلّيين ويعزّز استقرارها.

  1. التعامل بحذر مع الأوضاع والأحداث الإقليمية:

الإدارة الذاتية الديمقراطية في هذه المرحلة بحاجة إلى تبنّي سياسة حيادية قدر الإمكان وعدم التورط في الصراعات الإقليمية، مثل التصعيد بين إسرائيل وحركة حماس وحزب الله المدعومتَين من إيران، والوقوف على الحياد قد يقلّل من احتمالية تحوّلها إلى ساحة مواجهة، وتكسب بعض النقاط في ظلّ الفوضى الحالية، والإدارة بأمسّ الحاجة إليها.

وللعمل على التوازن بين القوى الدولية والإقليمية؛ على الإدارة الذاتية الديمقراطية أن تتبنّى سياسة التوازن والتعاون مع القوى المختلفة دون الانحياز الكامل لأي طرف، أي رؤية التوتّرات الإسرائيلية – الإيرانية من جهة، والمنافسة الروسية-الأمريكية من جهة أخرى، وكل التطوّرات التي تشهدها المنطقة وفق قراءة صائبة وواقعية لها.

وباختصار واقتضاب شديد؛ يمكننا القول أنَّ الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا تواجه تحدّيات كبيرة، لكن من خلال تعزيز التحالفات الدولية، والاستمرار بإرسال الرسائل الإيجابية إلى العالم، وتحسين القدرات الدفاعية والقتالية لديها، والعمل على بناء مقوّمات الاكتفاء الذاتي، وتنظيم المجتمع وإشراك كلّ المكوّنات الموجودة في إدارة المنطقة، والتواصل مع القوى والأحزاب والفعاليات المدنية والشخصيات الثقافية والاعتبارية، يمكنها بذلك تعزيز استقرارها وحماية نفسها من التهديدات الداخلية والخارجية، والسير نحو عقد مؤتمر وطني سوري شامل؛ ومن خلالها التأسيس لجمهورية سوريا الديمقراطية.

زر الذهاب إلى الأعلى