الحرية والكرامة السورية في ذكراها السنوية

اشرقت شمس ما بات يعرف بالربيع العربي من مغربه,فلم يعد خافياً على أحد المخطط البياني لهذه الثورات التي بدأت بشرارة اشعلها بوعزيزي في تونس رداً على الحياة التعيسة التي يعيشها المواطن في هذه الأوطان. فكانت هذه الشرارة هي القشة التي قسمت ظهر الأنظمة التي حكمت المنطقة لعقود, انتقلت هذه الشرارة كما النار في الهشيم من تونس إلى ليبيا, فمصر, فاليمن فسوريا. هذه الأنظمة التي كانت قد استلمت الحكم في فترات متقاربة وتحمل ذات النفس الايديولوجي والنزعات العروبية والقومية, وذات الشعارات التي تناهض الامبريالية, وتدعو إلى الاشتراكية العالمية وإلى ما هنالك من شعارات كانت موضتها في تلك الحقبة الزمنية.

سوريا كما باقي البلدان التي اجتاحتها هذه الاحتجاجات السلمية والعارية الصدور بدأ شبابها في الخامس عشر من اذار بالمطالبة بأبسط الحقوق من حرية وكرامة في العيش, فكان رد النظام البعثي واضحاً وصريحاً منذ اليوم الأول من هذه الاحتجاجات, القمع والقوة وعدم تقبل الآخر بأي شكل من الأشكال, دامت هذه الاحتجاجات بصورتها السلمية لأكثر من ستة أشهر وعلى مرأى ومسمع من الجميع, (الدول الكبرى التي تعتبر نفسها الشرطي المحافظ على الاستقرار العالمي, وهيئات ومنظمات الأمم المتحدة والتي تعتبر نفسها المسؤولة عن الأمن والاستقرار العالمي).

الانشقاقات التي حصلت في الجيش السوري كانت هي اللبنة الأولى لعسكرة الثورة, إلى جانب الفكر المتطرف المتهيئ أصلا, وبطبيعة الحال النظام كان له ذات الهدف كي يثبت للعالم نظريته التي تمسك بها ولغايته وهي: إنها مؤامرة كونية وأصابع خارجية وتحريض على الوحدة واللحمة الوطنية, فكان له ما أراد وكانت عسكرة الثورة رصاصة الرحمة على المواطن السوري البسيط الذي لا يملك شيئاً سوى هواء الوطن وبيت بسيط يستره من غدر الزمان, من التناقضات التي عشناها منذ بداية الأزمة السورية صورة تعبر عن مدى تهاون النظام ونظرته الدونية للمواطن العادي بأنه كتب على إحدى دباباته (الوحدة الوطنية)؟ هل يعقل أن يصدق عاقل أو حتى مجنون بان الدبابة هي التي ستأتي بالوحدة الوطنية, وهل الوحدة الوطنية بالضرورة ان يكون الحزب الواحد والعلم الواحد والرئيس الأوحد الذي لا شريك له, مفروضاً دون اي احتمال أو خيار أو حتى تفكير بالبديل؟

مع تشكيل فصيل مسلح هنا وآخر هناك أصبحت التهم تتبادل بقتل المتظاهرين الذين كانوا يموتون من الأمام ومن الخلف, واختلط الحابل بالنابل على الساحة في أرض الميدان, وكان عدم الاستقرار الأمني للجار العراقي دور مهم في تدخل تنظيم القاعدة لبلاد الشام “حسب التسمية المحببة للتنظيم”, جبهة النصرة, ومن ثم داعش الولد العاق والأكثر شراسة ودموية من الأخ (النصرة), والأم (القاعدة), فكانت بمثابة الانقلاب الداخلي فيما بينهم, وليدفع الشعب السوري الثمن الباهظ للحرب الإقليمية والدولية الدائرة على أراضيه, ولم يكن نصيبه فقط دور المتفرج بل أصبح هو نفسه محور اللعبة, فكل طرف يركله باتجاه وكيفما شاءت الأهواء, وأصبح الشعب السوري نفسه منقسماً بين المتحيز لهذا المحور أو ذاك الطرف, تم تطبيق جميع التجارب التي قامت بها ثورات الجوار على النمط السوري, من تشكيل مجلس وطني للمعارضة إلى تشكيل كتل ومحاور ومنصات وائتلاف …..الخ. دون أي جدوى, فلم يعد خافياً على احد أن تشرذم قوى ما تسمى بالمعارضة السورية وتضادها في كثير من المواقف, وعدم تماسكها فكرياً أو وضوح في برنامجها ونظرتها المستقبلية لسوريا الغد, من إحدى واهم الأسباب التي أدت إلى ما آلت إليه الأوضاع كما هي عليه اليوم.

في خضم كل تلك الفوضى بزغ خط ثالث وفكر جديد, في التاسع عشر من شهر تموز 2012م. انطلقت الشرارة من مدينة كوباني,وقادتها وحدات حماية الشعب, واتبعت هذه الثورة منهجية واضحة وصريحة وهي تبني فكر الأمة الديمقراطية المستندة إلى قيادة الشعب نفسه بنفسه, فتم تشكيل اللبنات الأولى للمؤسسات الشعبية مثل دور الشعب والمؤسسات الثقافية ومؤسسات اللغة وتشكيل قوى الاسايش (قوى الأمن الداخلي), للمحافظة على الأمن والاستقرار في خضم الفلتان الأمني الحاصل نتيجة حالة الفراغ.قوبل هذا الفكر أو النهج أو الخط الثالث بالرفض المطلق من قبل التيارات الشوفينية والمتزمتة, هذا الفكر الذي اثبت مع مرور الوقت انه لا يمكن حل الأزمة السورية من خلال المنظور القومي أو الديني أو السلطة الضيقة.

كانت الساحة السورية بعيدة كل البعد عن القوى الخارجية الدولية ولو شكلاً فكانت القوى الإقليمية العربية (الخليجية حصراً) والمتمثلة بالمملكة السعودية ودولة قطر, بالإضافة إلى إيران وتركيا, هي التي تتحكم بالملف السوري, كل حسب هواه ومصالحه, فتمادت القوى الإسلامية الراديكالية (القاعدة, النصرة, داعش) بممارساتها اللا إنسانية وترهيب الشعب, مما اسفر عن تدخل التحالف الدولي لمكافحة الارهاب بقيادة الولايات المتحدة, كأول المنخرطين بالدخول على الخط بشكل مباشر وعلني عسكرياً في مدينة كوباني (عين العرب) ومساندتها للقوى الثورية الفاعلة على الأرض, والتي كانت بمثابة بذرة انكسار التنظيم بشكل متتالي وسريع فيما بعد, وكانت ايضاً بمثابة الحجة والتشجيع لدخول الروس لمساندة النظام في حسمها العسكري للقضاء على الفصائل العسكرية المعارضة. وبتخلي معظم القوى والمحاور الاقليمية عن حلفائها في الداخل, اصبحت الخارطة السورية على ارض الواقع تتغير بين اليوم والاخر, واصبحت القوى العسكرية تنحصر شيئاً فشيئاً في فرز جغرافي ضيق.عدا المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد), المكونة اصلاً من ابناء المنطقة لحمايتها وحماية اهلها, فكانت هذه القوات تزداد عدداً وتتوسع مساحةً معتمدةً على الحاضنة الشعبية الراغبة اصلاً باستقبالها, (ربما لأنها وجدت فيها الخلاص من حالة الفوضى والفلتان الامني).

مع نهاية العام 2018م وتغيير الإدارة الأمريكية السابقة في نهجها وتحالفها أحيانا و تغاضيها أحيانا أخرى عن الملف السوري, لتكون بمثابة ضربة قوية للخارطة المتواجدة لغايته, فكان الدور التركي وبالتوافق مع التوجه الروسي هو الأبرز, وتتالت خسارات المزيد من الأراضي السورية لصالح الاحتلال العثماني والمرتزقة السوريين الذين ينسقون معها تحت مظلة ما بات يعرف بالجيش الوطني, فكانت خسارة عفرين ومن ثم سري كانيه (رأس العين) وكري سبي (تل ابيض ).بمثابة ضربة لمشروع الإدارة الذاتية, التي تضم جميع المكونات السورية في شمال وشرق سوريا و تتبنى مشروع الأمة الديمقراطية (كما أسلفنا سابقاً), المعتمد على احتواء جميع المكونات والأعراق والأديان في عملية تشاركية لقيادة وتنظيم المجتمع.

تتزامن الذكرى السنوية الثانية عشر,مع تغيرات عالمية على جميع الأصعدة بداية من جائحة كورونا التي تضرر منها جميع دول العالم وما زال, والحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها على الدول الأوروبية سياسياً واقتصادياً, مروراً بالزلزال الأخير الذي عرا كل من النظامين التركي والسوري على حقيقته اللا إنسانية, فهل ستحمل هذه الذكرى بصيص أمل لأهل المخيمات في دول الجوار أو حتى المخيمات في الداخل السوري, ومدى رخص الإنسان والمواطن والاستهتار بحياتهم والذين يعيشون أسوأ الحالات الإنسانية من نقص في كل شيء, فهل ستكون المعضلة السورية على رأس جدول أعمال الدول الكبرى, أسئلة كثيرة يطرحها المواطن السوري.

زر الذهاب إلى الأعلى