الموقف العربي تجاه السياسة الأمريكية في المنطقة بعد الحرب الروسية- الأوكرانية

خضر الجاسم

إن الغزو الروسي لأوكرانيا خلط مواقف الدول العربية من الحرب سواء بالضد أم بالتأييد، وهو ما أبداه بالدهشة والذهول بهذا الخصوص أكثر من مسؤول وسياسي دولي. ومن نافل القول بإن الحرب لا تعني العرب من قريب أو بعيد إذا استثنينا الجانب الاقتصادي والتسليح والسياحة وأسواق المال والبورصة العالمية، فإن العرب معنيون بها في ظل عولمة طبيعة النظام العالمي الراهن.

ولعل من نتائج الحرب الروسية-الأوكرانية في منطقة الشرق الأوسط أنها ستشهد ميلاد تحالفات وتوازنات مختلفة عما ألفناه خلال العقود الثلاثة الماضية، ومن المرجح أنها ستعيد قراءة المشهد السياسي العام.

ولفهم موقف الدول العربية تجاه السياسة الأمريكية أو لنقل العلاقة الثنائية بعد الحرب الروسية-الأوكرانية وفيما يجري في الوقت الراهن من التشبيك الحاصل بينهما على المستويات الاقتصادية والسياسية وحركة التجارة والسلع والمواصلات وبالأخص أسواق النفط، لذا لا يمكن التغاضي أو التغافل أيضاً عن المحركات الأكثر أهمية بالنسبة لهم وهي وضوح المحددات والرؤية فيما بينهما على المستوى الإقليمي والدولي والتي كانت ولا تزال إحدى أهم البواعث والوشائج لتأصيل العلاقة أو انفتاحها أو تحييدها بين الطرفين. على أن هذه السياسة التي كانت منذ أكثر من نصف قرن في أفضل حالاتها وتقوم على أكثر من مجال سياسي أو عسكري أو أمني أو اقتصادي، فأنها في ظل الحرب الروسية- الأوكرانية تتسم بحذر شديد لشدة العلائق وقوة المصالح المختلفة بين طرفي الصراع نفسيهما من المنطقة بشكل عام وبين طريقة التعاطي مع الموقف الأمريكي مما تفرض حالة من التوازن والتجاذب على الأقل في المجال الاقتصادي. 

ويمكن تصنيف موقف غالبية الدول العربية، بأنه موقف محايد بشأن الحرب الروسية على أوكرانيا، وإذا استثنينا سوريا التي عبرت عن دعمها لروسيا، فإن معظم الدول العربية نأت بنفسها عن الانخراط في موقف مؤيد لأحد الطرفين. وعلى الرغم من تصويت 15 دولة عربية لصالح قرار الأمم المتحدة الذي يدين الغزو الروسي لأوكرانيا ويطالبها بالانسحاب منها، وامتناع كل من الجزائر والعراق والسودان وغياب المغرب، فإن ذلك التباين يظل شكلياً. وانطلاقاً من ذلك يمكننا استخلاص عدد من المقاربات والمفارقات المتنوعة وفق مؤثرين أحدهما عربي وآخر أوكراني تختلف معها درجة التعاطي الأمريكي لكل واحد منهما عن الآخر، إذ لا ينفصل الموقف العربي من الناحية السياسية عن مواقف الدول الأخرى في التباين الحاصل في تناول الأزمة الأوروبية الأخيرة. فمثلاً الخليج العربي لا سيما المملكة العربية السعودية والإمارات اللتان تمتلكان خيار إدارة وتغيير خريطة التوازن الدولي، تستطيعان فعل التغيير، وهو ما حدث حين رفضتا العرض الأمريكي في زيادة إنتاجهما من النفط لتغطية نقص الغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروبي، ولتصبح الدولتان حجر عثرة أمام السيطرة الأمريكية على العالم.

وبالنظر إلى مصالح العرب من الحرب الروسية- الأوكرانية، فإن الحسم العسكري في الوقت الحاضر لم يعد ذا أهمية بالغة بل يمكن التركيز على عوامل أخرى كالعامل الاقتصادي. ورغم امتلاك العرب لأراض خصبة ووفيرة إلا أنهم لم يستفيدوا منها وظل الأمن الغذائي العربي على الارتهان بدول أخرى. فمصر على سبيل المثال تستورد 80 في المائة من حاجياتها من الحبوب، مع أنها تمتلك أخصب الأراضي الزراعية، في مقابل الفشل في تحقيق الاكتفاء الذاتي في مادة الحبوب بسبب مشكلة ارتفاع الكلفة مقارنة مع كلفة الاستيراد. إن الأمن العربي في فترة العقدين الأخيرين أمسى أشبه بريشة في مهب الريح ولطالما كان محل شك وريبة بسبب التدخلات المباشرة أو غير المباشرة في شؤون الدول العربية. ومنذ غزو العراق في عام 2003 وقيام الربيع العربي في عام 2011 وانعكاس ثوراتها على شعوبها لا قياداتها وبات مسار الديمقراطيات بعيد المنال وأبعد ما يكون عن الحقيقة أو الواقع. وبحكم الاستبداد القابع في الأنظمة العربية في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا فقامت بحرب معاكسة على شعوبها التي طالبت بمزيد من الحريات والعدالة الاجتماعية وتحقيق مستوى مقبول من الحياة الكريمة وأحالت العيش في البعض منها إلى جحيم مدقع لا تزال تداعياته الخطيرة جارية حتى الآن. ولنأخذ سوريا مثالاً، ذلك البلد المنكوب منذ عشر سنوات بفعل ثورة عام 2011 التي اتجهت إلى مسارات مختلفة من الصراعات السياسية والعسكرية. وارتكبت روسيا منذ تدخلها إلى جانب رأس النظام السوري بشار الأسد في عام 2015 العديد من الفظائع والمجازر في حلب والغوطة الشرقية، وبالأخص التواطؤ على احتلال الدولة التركية لعفرين.

إن سيناريو الغزو الروسي لأوكرانيا بكل فظاعاته ومآسيه من التدمير والخراب والضحايا والخسائر إجمالاً يتكرر تكرار سابقاً في الخارطة السورية، فبينما النظام السوري لا يلقي بالاً لتطلعات الشعب لأي دعوات من الداخل للجلوس إلى طاولات المفاوضات، والتهرب من كافة الاتفاقيات الدولية بهذا الخصوص، فإن الدولة التركية تمارس حرب إبادة وانتهاكات لا إنسانية ضد الشعوب في مناطق شمال وشرق سوريا منذ تأسيس مشروع الأمة الديمقراطية من خلال دعمها للفصائل المسلحة التي تقاتل بالوكالة عنها على مرأى من المجتمع الدولي الذي أقام الدنيا ولم يقعدها للوقوف مع أوكرانيا فيما يتغافل عن نداءات المواطنين المدنيين الأبرياء الذين يتعرضون لتغيير ديموغرافي ممنهج في عفرين وسري كانيه وكري سبي. لذا كان حرياً بالمجتمع الدولي عدم التعامل بازدواجية في المعايير والقوانين الدولية التي تفرضها سياسة المصالح التي تنظر للملفات من الجانب البراغماتي فحسب بل من الواجب الأخلاقي النظر إليها من خلال السياق الإنساني الذي يعبر عن جملة أخلاقية بشكل محض. وبما أنّا أخذنا المثال السوري نموذجاً للتعريف الحاصل في طريقة التعامل مع العلاقة العربية- الدولية، فإن هذا التمثيل الكبير ينطبق بصورة مستنسخة ضمن الخارطة السورية التي يحتدم فيها الصراع بين الحكومة السورية والمعارضة منذ سنوات وسط تجاهل المجتمع الدولي بشكل صريح عن الدلالات الكامنة في قوة مشروع الأمة الديمقراطية كنموذج ديمقراطي حي بشكله المرن وقابل للتحقيق بغض النظر عن كل الشكليات أو المشاريع الجوفاء أو التسميات الأخرى، سواء كانت منتجة من الداخل أم من الخارج السوري أيضاً.   

تجدر الإشارة إلى أنه من الضروري توحيد الرؤية السياسية والاقتصادية والعسكرية لكل شعوب المنطقة عما يحدث في العالم ليس فقط في المسألة الروسية- الأوكرانية بل في كل المتغيرات الدولية المختلفة، وأن تستجيب الأنظمة العربية لكل التحولات التي تفرضها المتغيرات الدولية والعمل على الاستفادة من كل الأحداث العالمية وبالأخص الحرب الروسية-الأوكرانية من أجل تعزيز الحضور الديمقراطي الشعبي والاستماع لتطلعات الشعوب في تكوين نظم سياسية فاعلة تقبل التعددية وتداول السلطة على حساب انحسار المسار الاستبدادي المتهالك. ومن الطبيعي أن تأخذ النظم الجديدة بعين الاعتبار حالة التجدد والتغيير السلمي الحقيقي وأن تكون الرؤية فيها منفتحة لا مغلقة وأن تكون على سلم أولوياتها احترام الشعوب في رغباتها المشروعة ببناء مجتمع ديمقراطي أخلاقي يحترم حقوق كل المكونات والطوائف والأعراق ودون أي تفرقة أو عنصرية على أساس النهوض بالمجتمع وفقاً لمصالحه الاستراتيجية.

المقالة تعبر عن رأي الكاتب

زر الذهاب إلى الأعلى