القضية الكردية… الحلول المطروحة والممكنة

ممّا لاشكّ فيه أنّ السياسات العالمية بشكل عام قد تغيّرت وتبدّلت بعد الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2024م، وهنا نقصد بالتحديد وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سدّة الحكم في الولايات المتّحدة الأمريكية لولاية ثانية وغير متتالية، وبالتالي؛ أصبح العالم بأسره يحاول ضبط ساعاته وسياساته حسب المزاج المنطلِق من البيت الأبيض الذي لا شكّ فيه أنّ له تأثيراً مباشراً أو غير مباشر على السياسات في كل بلدان العالم، وهكذا تتالت الأحداث بشكل متسارع وخاصةً في الشرق الأوسط حيث تداعيات حرب السابع من أكتوبر تشرين أول عام 2023م في قطاع غزة ما بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، وامتداها إلى كل من جنوب لبنان وسوريا بشكل مباشر، واليمن والعراق بشكل غير مباشر لحدّ الآن، وكان لمقتل قيادات الصف الأول والثاني للمحور الموالي لإيران تداعياته على السياسات الخارجية لدول المنطقة بشكل عام، والتي غيّرت من أولوياتها وتوازناتها خلال أيام معدودة اختلطت فيها الأمور واختلّ ميزان القوة بين التكتيك والاستراتيجية التي أثّرت بالتالي على نقاط التوازن، وما كان سقوط النظام البعثي في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول من العام المنصرِم إلّا نتيجة حتمية للتضحية ببعض الحلفاء للإبقاء على المركز؛ ويتبيّن كلّ ذلك في خسارة المحور الإيراني أهمَّ حلفائه الاستراتيجيين على الساحة.
استخدام فائض القوة في الشرق الأوسط:
بعد حرب يوليو/ تموز من عام 2006م في جنوب لبنان ما بين إسرائيل وحزب الله اللبناني استوعبت إسرائيل، ومن خلفها القوى الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، أنّ تكتيك المواجهة المباشرة وعلى أراضي الطرف المقابل ربما يكون تكتيكاً خاطئاً و يؤدّي بالضرورة إلى خسائر فادحة في صفوفها وخاصةً العنصر البشري، وعليه؛ فقد حاولت تعديل وتطوير منظوماتها الدفاعية والهجومية، والاعتماد على التكنولوجيا الحديثة في حال حدوث أيّة مواجهة مباشرة، وبالتالي خلق نوع من التوازن أو حتى التفوّق؛ وفعلاً تبيّن كل ذلك من خلال الهجوم الأخير لحركة حماس الفلسطينية على الأراضي الإسرائيلية وخرقها للمنظومة الدفاعية الأقوى في المنطقة، والتي كان ردّها أعنف ممّا كان متوقّعاً؛ حيث استخدمت العنف المفرط تجاه العسكريّين والمدنيين على حدّ سواء (بحسب تقارير دولية مهتمّة بذات الشأن)، وكانت نتيجة كلّ ذلك خسارة القطاع لأكثر من ثمانين بالمئة من بنيته التحتية وعلى جميع الأصعدة والقطاعات؛ وكان للولايات المتحدة الأمريكية الدور الرئيس في كل ما سبق، وذلك من خلال دعمها اللوجستي والعسكري والسياسي لحليفتها الأولى في المنطقة.
الشرق الأوسط في عين العاصفة:
لم يعد خافياً على أحد أنّ الشرق الأوسط قد بات محوراً لإدارة سياسات العالم بشكل عام، وذلك لأهميته الجيو سياسية والجغرافية؛ ففيه معظم عُقَد الوصل والربط ما بين العالمَين الشرقي والغربي، بالإضافة إلى تركيز معظم الطرق والممرّات والمشاريع الطرقية على جغرافيته، ويمكننا ذكر أهمّها بحسب ما هو موجود بالفعل في الخدمة وما هو مشاريع وخطط مستقبلية:
- قناة السويس المصرية كأهمّ ممرّ اصطناعي يوفّر الكثير من الوقت والمال.
- طريق الحزام والطريق الصيني؛ وهو عدّة طرق محدثة لما كان يُعرَف سابقاً بطريق الحرير الصيني.
- مشروع طريق التوابل الهندي؛ ويُعتبَر من أهم وأضخم الطرق التي اعتمد تنفيذه خلال قمة دول العشرين عام 2023م.
- مشروع طريق التنمية؛ الذي يربط ما بين ميناء الفاو في شطّ العرب بتركيا فأوروبا.
- مشروع السكك الحديدية الإيرانية؛ الذي يربط ميناء الخميني بالعراق فسوريا وصولاً للمياه الدافئة على سواحل المتوسط.
- مشروع طريق الشمال – الجنوب؛ والذي يربط روسيا بآسيا الوسطى فإيران ومنها للشرق.
- مشروع حفر القناة الإسرائيلية؛ أو ما تُعرَف بقناة بن غوريون، الموازي لقناة السويس.
- مشروع “ممرّ داؤود” الإسرائيلي.
- مشروع خط الغاز العربي عبر سوريا لأوروبا.
كلّ ما سبق وما هو مخفيّ في دروج الغرف المظلمة الغربية، والتي تحاول الهيمنة على السياسات العالمية، يُعتبَر من أهمّ نقاط الارتكاز لجعل هذه المنطقة من أهم المناطق الجغرافية في العالم، تُضاف لها الخيرات والثروات الباطنية التي تحملها في داخلها.
ما موقع الكرد من كلّ ما يحدث حولهم؟
في خِضَمّ الحرب العالمية الأولى وخلالها وما بعد انتهائها كانت القوى العالمية، وعلى رأسها المملكة المتحدة البريطانية وفرنسا، تقسّم العالم فيما بينها على أساس المصالح والنفوذ والخيرات الاقتصادية، غير آبهة بما هو أخلاقي أو توزّع سكاني واجتماعي أو حتى تاريخي، وعليه؛ فبعد الاتفاقية المبدئية فيما بينهما (بريطانيا وفرنسا) والتي عُرفَت بأسماء ممثلَيهما (سايكس وبيكو)، وتقديم المملكة المتحدة وعداً ليهود العالم عرف فيما بعد بوعد “بلفور” الذي كان فحواه إنشاء دولة دينية ذات جغرافية طبيعية ليهود العالم، والتي أصبحت فيما بعد تُعرَف بإسرائيل، كانت هناك قوميات أخرى تُمحَى من الخريطة بـ”جرّة قلم” أو يتم إلحاقها بدول أخرى بحسب مقتضيات المصالح الدولية آنذاك، وأهم تلك القوميات أو الأعراق كان الشعب الكردي الذي قُسِّم ما بين أربع دول قومية منبثقة أساساً من الإمبراطورية العثمانية المنهارة التي تشكّلت على أنقاض تَرِكة “الرجل المريض”، وبما أنّ الدبلوماسية الكردية وقتها كانت تتمثّل في المشايخ الدينية أو الأغاوات؛ فقد كانت هي الأخيرة تتحرّك ضمن حدودها الجغرافية أو مصالحها الشخصية على حساب باقي الكرد، غير آبهين بمصائر الشعب الكردي وحقوقه القومية والتاريخية، إمّا بقصد في حالات قليلة، أو دون قصد في أكثر الحالات الباقية؛ وتبلور كلّ ذلك بعد انقضاء الحرب بخمس سنوات بالتمام والكمال، خمس سنوات من التعديل والتحصيص والتقسيم، ليتمّ تثبيت كلّ ذلك عام 1923م في مدينة لوزان السويسرية باتفاقية لوزان، لتكون شاهداً على قرن كامل من السحق والمحق لحقوق هذا الشعب المتجذّر أساساً في أرضه.
القضية الكردية… الحلول المطروحة والممكنة:
لم يكن الشعب الكردي وحركاته التحرّرية عشّاقاً للدم يوماً، ولكن على مدار القرن الماضي، وبشكل متعمّد، تم تهميش هذا الشعب وقضيّته سهواً أحياناً وعن قصد في كثير من الأحيان، لكن رغم ذلك فقد كان الكرد دائماً حاضرين ومستعدّين للدفاع عن قضيتهم العادلة؛ لذلك ورغم كلّ أساليب القمع والترهيب فإنّ الثورات الكردية لم تتوقّف يوماً، وكانت تتّسم أحياناً بطابع العنف في بعض الأجزاء، وبطابع السلم والسياسة في بعضها الآخر، وذلك بحسب الظروف الموضوعية والذاتية المترافقة مع المرحلة.
في تركيا تُعتبَر حركة التحرّر الكردستانية، التي يقودها حزب العمال الكردستاني، نقطة تحوّل مهمّة في تاريخ الكرد وتركيا وحتى المنطقة، فقد كانت هذه الحركة، وخلال تاريخها النضالي الذي قارب من نصف قرن على انطلاقتها بشكلها الرسمي، تمرّ بمحطّات مهمّة وتغييرات تكتيكية وجذرية لتتماشى مع المرحلة والظروف التي تحيط بها؛ ونداء السيد عبد الله أوجلان الذي أطلقه أو أعلن عنه وتمّت قراءته في السابع والعشرين من شهر فبراير/ شباط المنصرم، ما هو إلّا خطوة من أصل تسع خطوات سابقة على مدار أكثر من ثلاثين عاماً؛ بدأت أولاها عام 1992م، لكن مع عدم وجود طرف مقابل يستقبل هذه الخطوات بالجدّية المطلوبة كان مصير جميعها الفشل، وفي قراءة للنداء الأخير للسيد أوجلان يتبيّن للجميع أنّه لا يختلف في مضمونه نهائياً عن باقي المبادرات أو النداءات، لكن مع وجود هذا الكمّ الهائل من المحلّلين والمتطفّلين على السياسة، ووجود الكمّ الهائل من منصّات التواصل التي تعمل في شكلها السلبي في كثير من الأحيان، يتم تمييع القضية في إطار ضيّق يتلخّص في أنّ الأخير يحاول اختزال قضية شعب كامل مقابل حريته بعد أن قضى أكثر من ربع قرن في ظروف أقلّ ما يمكن القول عنها أنّها ظروف لا تمتّ للإنسانية بِصِلة. في المقابل؛ يتبيّن للمراقب أنّ ما يجري في غرب الفرات من هجمات، وخاصةً على جسر قرقوزاق وسدّ تشرين، والتي تقودها الفصائل السورية المدعومة تركياً، ما هو إلّا لـ “ذرّ الرماد في العيون” وتقزيم القضية وتحويرها، وبالتالي؛ غضّ النظر بذلك عمّا يجري في الساحات الرئيسية في مناطق الدفاع المشروع، أي زاغروس ومتينا وزاب… إلخ. مع وجود حالة الفوضى التي تعمّ كامل الشرق الأوسط والعالم حالياً يبقى البحث عن الحلول الممكنة هو الهدف الأساسي، مع مراعاة النقاط التالية غير واضحة المعالم التي تقوّض من فرص وجود الحلول المناسبة لكلّ مشكلة، ويمكننا تلخيصها فيما يلي:
- عدم وجود استراتيجية واضحة المعالم للحل لدى القوى الكبرى في الشرق الأوسط، أو أنّ وجودها يكون بحسب مصالحها الاقتصادية والسياسية على حساب شعوب ودول المنطقة.
- وجود شخصية جدلية، كشخصية رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب، في سدّة الحكم وفرض سياساته المزاجية على جميع المحاور الدولية وخلق مزيد من حالات التوتّر مع جيرانه والقارة الأوروبية.
- الدول الإقليمية، وعلى رأسها تركيا وإيران، التي أصبحت أهدافاً واقعية للتقسيم في الغرف السوداء الغربية، سواءً عن طريق التقسيم الجغرافي أو الاجتماعي أو حتى بتقليص أدوارها الرئيسية في الإشراك برسم سياسات المنطقة.
- التخلّي الروسي عن مناطق جغرافية مهمّة في الشرق الأوسط، والتوجّه نحو أوروبا وأفريقيا، وإعادة النظر في استراتيجياتها وتحالفاتها؛ وذلك بالبحث عن حلفاء أقوياء بديلاً عما خسرتهم من الضعفاء، وإنهاء الصراع مع الجار الأوكراني الذي تسبّب بالكثير من الاستنزاف لقوتها العسكرية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية وحتى لعلاقاتها الدولية.
- الانسحاب الجزئي للقوات الأمريكية من سوريا عام 2019م، والانسحاب الكلّي لقواتها من أفغانستان عام 2020م كان بمثابة سقوط لشخصية الشرطيّ المتحكّم في العالم؛ ممّا أدّى إلى إعادة النظر في كلّ ما سبق.
- الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني وعدم إيجاد الحلّ الوسطي الأمثل له، وإهماله لحدّ تراكمه التاريخي وزيادة الشرخ المجتمعي على الجغرافية المشتركة، يُعتبَر السبب الرئيسيّ في استفحالها بالشكل الحالي.
- وجود إيران كقوة إسلامية راديكالية في مواجهة الغرب المنزعج أساساً من الإسلام السُّنّي المتشدّد والمتمثّل بتنظيم القاعدة وتوابعه من داعش وبوكو حرام …إلخ، بحسب توزّعه الجغرافي، والمقارنة مع التشدّد الشيعيّ الذي تقوده إيران وأذرعها في المنطقة.
ممّا لاشكّ فيه وبحسب التجربة التاريخية أنّه لا بدّ من حلول دائمة للقضايا الكبرى من خلال معاهدات أو اتفاقيات دولية أو ثنائية محلّية ما بين الأطراف المتنازعة؛ فالقتال والصراع من أجل الصراع فقط لا يُعتبَر هدفاً بالشكل المطلق، إلّا إذا كانت هذه الجماعات التي تقاتل لا تدرك السبب الذي تقاتل من أجله ولا تعرف الهدف منه، والحلول التي تُقدّم والتي تحقن الدماء وتُرضي الجميع ويخرجون منها بأقلّ الخسائر، بكل تأكيد، هي الحلول والمبادرات الأمثل، وعلى شعوب المنطقة والرأي العام فيها أن تتحلّى بروح المسؤولية وتضغط على الجهات المسؤولة عنها لإيجاد الحلول المناسبة أو خلقها وعدم هدر المزيد من الفرص والوقت.