إبادة عفرين في الاستراتيجية التركية

بقدر ما تتصاعد حدة التدخلات التركية في دول المنطقة، يتجه الوضع الداخلي في هذه المناطق التي تحت هيمنة تركيا نحو مزيد من القمع والديكتاتورية والانتهاكات بحق المجتمعات المسيطرة عليها، وفي ظل هذا المناخ السياسي السائد جراء سياسات العدالة والتنمية، فمن يدقق في طبيعة السياسية التركية بشقيها السياسية والعسكرية ، سوف يجد أنه أمام هوية قومية لنظام سياسي يريد ضبط ديناميكيات التماثل الأهلي الموجود في المجتمعات وفقاً لذهنية هذه الهوية، وسيجد أنه أمام حالة ظلامية مستحدثة بالصبغة العثمانية الجديدة، وبعيدة كل البعد عن الحقيقة الثقافية والتاريخية للمنطقة ومعادية لها حتى النخاع، ويمكن استشفاف ذلك من خلال متابعة ورصد المجريات السياسية والعسكرية والحالة الملتبسة التي فرضت على بقع الجغرافية والتي تدار من قبل سلطة العدالة والتنمية وحليفتها الحركة القومية المتطرفة، وتريد تركيا أردوغان اليوم بهذه (الروح) إعادة تأهيل المجتمعات والشعوب وفق ذهنيتها الجديدة والانتقام من كل من وقف ضد الهوية القومية المتطرفة لتركيا منذ تأسيسها، من خلال عمليات التغيير الديمغرافي الممنهج، والإبادة الجسدية والثقافية وحتى إبادة الطبيعة التي تغذي الهويات الحرة لإنهاء حالة الاكتفاء الذاتي المادي وانتشال الآثار التاريخية وتخريب الأثار الكبيرة في حجمها لطمس الهوية الكردية الرصينة، ليصل الحد إلى تصفية المسنين والعجائز من أهالي المنطقة ويقصد بذلك السكان الأصليين في مدينة عفرين الكردية السورية، فما يجري هناك من ممارسات لا تنطبق على أية مدينة سوريا أخرى وحتى في ليبيا، وما يؤكد ذلك ما قاله دولت بهجلي رئيس حزب الحركة القومية المتطرفة MHP خلال العملية العسكرية في عفرين عام 2018 ” نحن لن نخرج من عفرين وإن خرجنا سنقوم بحرقها”، فهذا التصريح ليس عادياً ضمن سياق المعارك الكلامية المعتادة بين الخصوم، فيجب التركيز دائماً وأبداً على هذا التصريح في حال تحليل واستقصاء الحقائق لدى تناول قضية عفرين المحتلة، لماذا قيل هذا الكلام على العلن؟ ولماذا عفرين؟ ولماذا كل هذا العمليات التي ترتقي إلى جرائم حرب وبشكل يومي وعلى مرأى منهم.
لدى التعمق في ذهنية هذه الهوية التركية تاريخياً وممارستها بحق الكرد الذين وقفوا في وجه هذه الذهنية الإقصائية، بعد تأسيس الدولة التركية الحديثة بدءاً من المجازر التي حصلت في هذه المناطق والتغيير الديمغرافي الذي حصل بعد إقرار قانون إصلاح الشرق الذي صدر إبان تأسيس الجمهورية، سوف يرى بكل وضوح لماذا تمارس تركيا حملة الإبادة في عفرين، وبناءً على الحقائق التي حصلت طيلة مئة عام الماضية، سنجد أن هناك العاملان السياسي والثقافي يكمنان خلف هذه السياسات:
العامل الثقافي:
جغرافيا تقع عفرين ضمن المناطق الكردية في غربي الفرات سواء ضمن سوريا أو حتى بالنسبة لتركيا، ومن المعروف أن المناطق الكردية التي تقع في غربي الفرات من الجغرافية الكردية، مورست بحق تلك المناطق كافة أشكال الصهر والانحلال بعد تأسيس الدول القومية في الشرق الأوسط، وبقيت مدينة عفرين طيلة الفترة الماضية محافظة على جذورها الثقافية واللغوية، فالمناطق الكردية المحاذية لعفرين ضمن حدود الدولة التركية بدءاً من ديلوك (عنتاب) ووصولاً إلى أنطاكيا أو هاتاي، سكانها الأصليون من الكرد ولكن لا تجد في تلك المناطق ما يرتبط بالثقافة الكردية، بسبب سياسيات الصهر والانحلال النابعة من هذه الهوية التركية العنصرية وضمن سوريا بقيت عفرين كماهي، مدينة كردية خالصة.
رغم سياسات الدولة السورية من إسكان بعض العشائر العربية إبان قانون الإصلاح الزراعي 1958 والإصلاح الزراعي لنظام البعث 1968 وتوزيع الأراضي العائدة أصوليتها للكرد على هذه العشائر ( عميرات، وبوبنه )، ومحاولة الاستيلاء على الأراضي الزراعية المتاخمة للحدود مع تركيا من خلال عمليات البيع المغرية إلا أن تلك المحاولات والسياسات باءت بالفشل، وحتى كثير من العوائل من ذوي الأصول العربية أنحلت ضمن الثقافة والعادات الكردية وخاصة في القرى الواقعة ضمن ناحية شران وشيروا، فالثقافة الجبلية والسهلية للمدينة حافظت على وجودها التاريخي الرصين ثقافياُ ولغوياً ومع وجود الزراعة الغنية، بقيت عصية على الانحلال والصهر، كون المجتمع الزراعي يعتمد على قوته الذاتية في الإنتاج، ولا يقبل بالهيمنة الثقافية والسياسية بسهولة، وستعبر دائماً عن هويتها الذاتية حالما سنحت لها الفرصة، وهذا ما حصل في عفرين بالضبط أثناء ظهور الصراع السياسي والعسكري على السلطة في سوريا أو ما تسمى بالثورة السورية، لذلك ما يمارس اليوم بحق المسنين والعجائز المتبقيين هناك وتدمير الطبيعة والأثار التاريخية يؤكد على هذه الحقائق التي ذكرناها ضمن هذا البند، في تصفية الثقافة والطبيعة الكردية.
العامل السياسي:
يتداخل العامل السياسي مع الثقافي ويرتبط به بشدة، فلدى توافر المقومات المادية والمعنوية في أي مجتمع يعتمد على قوته الذاتية في الإنتاج، لن يتوانى في أية فرصة سانحة في التعبير عن إرادته أو المساند للثورات التي تعبر عن إرادته، فمع ظهور ثورة حركة حرية كردستان في باكور كردستان ووجودها في سوريا كمركز للعمل السياسي واللوجستي، أنخرط الكرد في عفرين بجميع إمكانياتهم المادية والمعنوية والبشرية في صفوف هذه الثورة التي فتحت مرحلة جديدة ومختلفة كلياً عن السابق في السياق التاريخي للقضية الكردية التي تنكرها تركيا على الدوام، فتركيا تعلم جيداً ماذا يعني وجود الكرد على أرض كردستان التاريخية والعيش بثقافتهم والاعتماد على الذات والرغبة في الحرية، لذلك تنتقم تركيا وبشكل مدروس وممنهج من عفرين، وأمام أعين القوى العالمية وكأن عفرين تقع خارج كوكبنا، وبكل تأكيد لهذه القوى المصلحة في إبقاء الوضع كما هي عليه الآن، لوجود مصالح مشتركة بين هذه الدول وتركيا.
وفي المحصلة نرى أن دراسة كل العمليات الإجرامية ضمن سياق تاريخي سيكون أكثر تنويراً وإفادةً، وما عجزت عنه سلطات البعث خلال العقود الماضية تمارسها تركيا على قدم وساق، وتنتقم من الكرد الذين ساندوا الثورة الكردية في باكور كردستان، من خلال هذه الإبادة والاغتصاب البشري والتاريخي.

زر الذهاب إلى الأعلى