أزمة الطاقة وانعكاساتها على أوروبا وروسيا

أزمة الطاقة وانعكاساتها على أوروبا وروسيا

يبدو أن شتاءً قاسياً ينتظر أوروبا نتيجة نقص إمدادات الطّاقة وبالأخص الغاز، التي ستلقي بظلالها على الشعوب الأوروبية، مما قد يؤثر على المستوى المعيشي فيها من خلال ارتفاع أسعار السلع وتكاليف المعيشة وقد تنعكس سلباً على حكومات الدول الأوروبية في عدم قدرتها على إيجاد حلول سريعة للخروج من هذه الأزمة حيث تستورد أوروبا من روسيا عبر عدة خطوط حوالي 40 % من الغاز الطبيعي الذي تستهلكه، أي ما يعادل 175 مليار متر مكعب.
فبعد قيام روسيا بغزو أوكرانيا سعت الدول الغربية لإتّباع سياسة العقوبات كإجراءات عقابية تجاه روسيا لتدخلها العسكري في أوكرانيا وسعياً منها إلى تحييدها من النظام العالمي “كقطب ثان” من خلال فرض عقوبات قاسية عليها والبحث عن بدائل لغازها للخروج من تبعيتها لها، هذه السياسة أدت بروسيا لاتخاذ إجراءات عقابية تجاه الدول الأوروبية من خلال تخفيض إمدادات الغاز إليها حتى وصل بها إلى وقف الإمدادات بشكل كامل في بعض الخطوط “كنورد ستريم”، جعلت من الدول الأوروبية تتخذ خطوات سواء أكانت تقشفية من خلال ترشيد استهلاك الطاقة أو إعادة تشغيل المحطات النووية المتوقفة وزيادة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة والاعتماد على الغاز الأمريكي لملء خزاناتها من الغاز لتغطية نقص إمدادات الغاز الروسي قبيل فصل الشتاء. هذه الإجراءات على الرغم من أهميتها إلا أن تأثير وقف روسيا الكامل لإمدادات الغاز إلى أوروبا سيكون أكبر على القارة، حيث كانت هناك محاولات من الدول الغربية لإيجاد بدائل للغاز الروسي منذ عام 2014 بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، إلا أن محاولاتها فشلت، بل زادت من وارداتها من الغاز الروسي وإنشاء خطوط جديدة “نورد ستريم2”.
ويبدو أن الدول الأوروبية مُصرّه في البحث عن بدائل للخروج من تبعية الغاز الروسي، وقد يحاول الاتحاد الأوروبي إلى إحياء أو تطوير بعض المشاريع منها مشروع نابوكو – تطوير مشروع تاناب الذي يقوم على نقل الغاز الأذري إلى أوروبا عبر تركيا من خلال زيادة سعة إنتاجية خط أنابيب الغاز ‌- غاز شرقي المتوسط “منتدى غاز شرق المتوسط” والذي قد يتحول إلى مشروع لنقل الغاز من شرقي المتوسط إلى أوروبا عبر انشاء خط يربط غاز مصر وإسرائيل وقبرص باليونان ومن ثم إلى أوروبا – مشروع “الأنبوب العابر للصحراء” من حقول الغاز جنوب نيجيريا، مروراً بدولة النيجر وصولا إلى الجزائر باتجاه أوروبا – مشروع لنقل الغاز عبر الساحل الأطلسي من دول غربي أفريقيا “نيجيريا”.
إلا أن روسيا ليست بعيدة عن هذه المشاريع فهي تدرك مدى خطورة هذه المشاريع على إمداداتها من الغاز إلى أوروبا، لذا تحاول التمدد في إفريقيا إما عن طريق تقوية علاقاتها مع الدول التي قد تكون مصدراً بديلاً لغازها كالجزائر التي انضمت مؤخراً إلى مجموعة بريكس ومصر وإيران تحت بند المصالح المشتركة وتشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب يضعف الهيمنة الغربية، أوعن طريق عقد اتفاقيات بين شركة غازبروم الروسية والدول الإفريقية وتمتين علاقتها مع تركيا التي تحاول أن تصبح مركزاً لنقل الطاقة من الشرق الأوسط إلى أوروبا. ويأتي التدخل الروسي لتضييق الخناق على الأوروبيين الذين يحاولون إيجاد بدائل لغازها.
كما أن الأمر لا يتعلق بإيجاد بدائل للغاز الروسي فهناك مشكلات كثيرة قد تنتظر أوروبا في حال تم الاستغناء عن الغاز الروسي القريب منها بشكلٍ كامل:
1- التسابق والتنافس بين الدول الأوروبية على المصادر القريبة منها “الشمال الأفريقي وبالأخص الجزائر” مما قد يخلق خلافات بين هذه الدول كما هو الحال بين إيطاليا وإسبانيا على الغاز الجزائري وبين فرنسا وألمانيا على مشروع ميد كات حيث تعارض فرنسا خطة ألمانية لبناء خط غاز مع إسبانيا، هذا إلى جانب الخلافات بين الدول الأوروبية حول العقوبات على روسيا وتأثير هذه العقوبات على اقتصاداها.
2- الفرق الكبير بين أسعار الغاز الروسي والأمريكي في حال تم الاعتماد على الغاز الأمريكي بشكلٍ كبير وعدم وجود مصادر قريبة قد تؤثر على ارتفاع أسعار المنتجات الأوروبية وبالتالي عدم تمكنها من منافسة المنتجات الأجنبية نتيجة لارتفاع أسعارها مما يعني تعرض الكثير من الشركات الأوروبية للإفلاس، ما لم توجد سياسة دعم حكومي لإنقاذ شركاتها من الإفلاس وهذا يعني تخصيص جزء من موازنتها العامة لدعم الشركات. إلى جانب انعكاس ارتفاع الأسعار والنقص في الامدادات على المستوى المعيشي للسكان.
3- قدرة روسيا على التلاعب بأسعار الطاقة من خلال تقليص صادراتها من الغاز والنفط إلى الأسواق العالمية كونها إحدى أكبر الدول المصدرة للغاز والنفط في العالم.
4- عودة الحرب الباردة وزيادة التسليح في القارة الأوروبية لمواجهة الخطر الروسي، وعودة الوصاية الأمريكية على أوروبا.
على الرغم من تأكيد المفوض الأوروبي لشؤون الاقتصاد باولو جنتيلوني في وقت سابق، أن الاتحاد الأوروبي “على استعداد جيد” في حال الوقف الكامل لإمدادات الغاز الروسي، بفضل التخزين وإجراءات اقتصاد الطاقة. ومع استمرار فرض العقوبات على روسيا لغزوها أوكرانيا وتوجه الاتحاد الأوروبي إلى حظر استيراد النفط الخام من روسيا والمنتجات المكررة ومحاولة مجموعة الدول السبع لفرض حد أقصى لسعر النفط الروسي بهدف تقليص العائدات لحرب موسكو على كييف، ستبقى الدول الأوروبية تعتمد في هذه المرحلة على إمدادات الغاز الأمريكي وشرق المتوسط وإقامة مشاريع لتسييل الغاز لتغطية جزء من احتياجاتها وملء خزاناتها من الغاز قبل فصل الشتاء، لذا فإن إمدادات الغاز إلى أوروبا لن تكون مستقرةً في ظل عدم وجود بدائل كافية لتغطية حاجة القارة من الغاز مما يعني مزيداً من التدهور الاقتصادي “زيادة التضخم وزيادة معدلات البطالة وتدهور في قيمة اليورو والجنيه الإسترليني”. وبالمقابل بدأت العقوبات الغربية تلقي بظلالها على موسكو وفي ظل استمرار حربها على أوكرانيا ستسرع من تأثير العقوبات الغربية على اقتصادها. وعلى الرغم من قدرة موسكو على إيجاد بدائل للسوق الأوروبية بالأخص في الصين والهند وغيرها من الدول لكنها ستكون تحت تبعية تلك الدول من جهة ومن جهة أخرى ستقوم ببيع غازها بأسعار مخفضة أقل بكثير من الأسعار العالمية مما سيؤثر على اقتصادها، كما أن فقدان هيمنتها على أسواق الغاز الطبيعي الأوروبية، سيؤثر على ثقلها السياسي في العالم.
وفي هذا السياق فإن كلا الطرفين أمام أزمات اقتصادية، وللخروج من هذا المأزق وقبل الوصول إلى نقطة اللا عودة لا بد من البدء بإجراء محادثات سلام بين روسيا وأوكرانيا وإجراء مصالحة بين روسيا والدول الأوروبية والجلوس إلى طاولة مفاوضات لإنهاء الأزمة والوصول إلى حل وسط كانسحاب من بعض المناطق التي احتلتها في أوكرانيا وعدم إجراء استفتاء في مقاطعتي “دونيتسك ولوهانسك” في حوض الدونباس لضمهما وعودة ضخ الغاز إلى أوروبا مقابل رفع العقوبات عنها ووقف الدعم العسكري لكييف. إلا أن المشكلة تكمن في مَن المنتصر ومَن الخاسر كون ذلك له تأثير كبير على الداخل لكلا الطرفين ويجعل من المصالحة أمر صعباً في الوقت الحالي. أما في حال تجاوزت الدول الأوروبية مشكلة الغاز في فصل الشتاء وإصرارها على وقف امدادات الغاز الروسية، ولم تستطع روسيا إيجاد حل للخروج من هذا المأزق وفي ظل استمرار العقوبات الغربية وعدم وجود أفق لأي حل ينهي الأزمة فلن يبقى أمام روسيا سوى الخيار العسكري وتوسيع عملياتها في أوكرانيا، لزيادة الأعباء الغربية في إمداد كييف بالسلاح والمال “حرب استنزاف” في النهاية فإن المجتمع الدولي أمام أزمة اقتصادية قد تؤدي إلى حدوث ركود اقتصادي وكساد، وزيادة التسلّح ما لم يتم التوصل إلى حلٍّ ينهي الصراع القائم بين الغرب والروس.

زر الذهاب إلى الأعلى