مستقبل سوريا بين اللامركزية والتقسيم
منذ بدايات تشكيل الدولة السورية تعاقبت عليها أنظمة حُكم عدّيدة، وكانت بمجملها أنظمة تعدّدية ذات توجّه ديمقراطي حقيقي، غير أنّها تعرّضت لانقلابات متكرّرة، إلى أن وصل حزب البعث الشمولي ذو التوجّه المتطرّف والفاشي بكل ما للكلمة من معنى إلى سدّة الحكم؛ حيث تولّت عائلة الأسد حكم دولة البعث لأكثر من نصف قرن، ذاق الشعب السوريّ خلال تلك الحقبة كلّ أنواع القهر والاضطهاد تحت هيمنة حكم دكتاتوري مقيت، في المرحلة الأولى تمّت تصفية جميع قيادات ومؤسّسي حزب البعث لتحلّ مكانهم عصابة من المجرمين وقطّاع الطرق الذين عاثوا فسادا في جسم الدولة السورية، ونسجوا خيوط الديكتاتورية بأسلوب مُحكَم؛ حتى ظنّت الشعوب السورية أنّ واقعها بات من المُسلَّمات وغير قابل التغيير.
التوجّه العَلماني ومحاربة الفكر السلفي في سوريا:
عقب تولّي حزب البعث مقاليد الحكم في سوريا بدأ أولى خطواته نحو ترسيخ أركان حكمه؛ من خلال ما سمّيت آنذاك بالحركة التصحيحية في 16/نوفمبر / 1970، واتّخذ الحزب اتّجاهه اليساري العَلماني وارتبط مع المعسكر الاشتراكي ليصطدم مع الفكر الإخواني السلفي الذي بدأ بالانتشار في منطقة الشرق الأوسط آنذاك، وفي سوريا منذ عام 1940، وقد تولّت الأفرع الأمنية والمخابرات الحكم في سوريا، وتم إلقاء القبض على كلّ شخص يقترب من الدين وزجّه في السجون، كما تم توجيه خطباء الجوامع إلى تمجيد النظام البعثي والدعاء له، فمن غير المسموح لأي شخص أن ينتقد الحاكم أو الحزب، وانتشرت المخابرات في جميع أرجاء الدولة السورية. وتمّ رفع شعار “لا إله إلّا الوطن ولا رسول إلّا البعث”، كانت أحداث حماة 1976-1982 هي الفيصل في قمع التمرّد الإخواني وكبح جماحه، حيث تدخّلت سرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد شقيق الرئيس الراحل حافظ الأسد، واللواء 47 دبابات، واللواء 21 ميكانيك، والفوج 21 إنزال جوي (القوات الخاصة )، وقد جاءت تلك العملية ردّاً على محاولة اغتيال الرئيس حافظ الأسد بتاريخ 26/يونيو/ 1980 لدى استقباله رئيس دولة مالي، وارتكب الحزب مجازر مروّعة بحقّ سكّان حماة راح ضحيّتها أكثر من ثلاثين ألف شخص، أمّا البقية فقد باتوا ملاحَقِين ومنهم من قضى في سجون النظام البعثي وظلّوا محتجزين حتى سقوط نظام البعث على يد هيئة تحرير الشام السلفية في 8/ ديسمبر / 2024 وللمرّة الأولى تمّ الكشف عن محتويات السجون والعثور على سجون سرّية لم يكن يعرفها أحد قبل ذلك.
بناء جبهة الصمود والتصدّي المزعومة وتأسيس محور المقاومة:
ليكمل نظام البعث مشروعه في السيطرة على جميع مفاصل الدولة السورية انضمّ إلى ما سُمّيَت بجبهة الصمود والتصدّي، التي دعا لتأسيسها الرئيس الليبي الراحل معمّر القذافي في نوفمبر 1977 وهي حلف ضمّ كلًا من ليبيا والجزائر وسوريا والعراق ومنظمة التحرير الفلسطينية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وكانت الجبهة ردّاً على اتفاقية كامب ديفيد التي أبرمها الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات مع إسرائيل بوساطة أمريكية، وقد حاولت تلك الدول عزل الجمهورية المصرية عن الجامعة العربية، ولكن سرعان ما انحلّت تلك الجبهة بعد اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية عام 1980 وتأزّمت العلاقة بين سوريا والعراق بعد تلك الحرب لتنضمّ سوريا إلى “محور المقاومة” الذي بدأ من إيران مروراً بسوريا إلى لبنان، حيث كان الجيش السوري قد اجتاح لبنان بحجّة إيقاف الحرب الأهلية فيها، “حزب الله” يمثّل المحور في لبنان، وفي اليمن يمثّله “الحوثيون”، وفي العراق “الحشد الشعبي”، وفي فلسطين حركتا “حماس والجهاد الإسلامي”.
ومع بداية حرب غزة في 7 أكتوبر عام 2023 تعرّض محور المقاومة لضربات كبيرة حيث تمّت تصفية أغلب قيادات حزب الله وحماس، وأعقبها إسقاط نظام الأسد في سوريا بتاريخ 8 ديسمبر 2024م.
الحراك السوري والانضمام لما سُمِّيَت بثورات الربيع العربي:
بدأ الشعب السوري بثورته السلمية في 15 مارس 2011 وكانت ثورة سلمية تدعو إلى تعديل بعض مواد الدستور السوري وإطلاق الحريات وإزالة قانون الأحكام العرفية، لكن قابلها النظام السوري البعثي بالعنف المسلّح، وقامت الدولة التركية، بزعامة أردوغان وحكومة العدالة والتنمية، بتقديم الدعم العسكري والإعلامي واللوجستي؛ فبدأت عسكرة الثورة السورية وتحريفها عن مسارها السلميّ، ونتيجة تضارب مصالح الدول الإقليمية والعالمية حول مصير الشعب السوري فقد طالت مدّة الحراك السوري وتعرّضت سوريا، خلالها، لجميع أنواع التدخّلات؛ فتدخّلت العديد من الأطراف والقوى الإقليمية والعالمية إلى الساحة السورية، حيث نزح وهاجر أكثر من نصف سكان سوريا، وتدخّلت إيران وحزب الله اللبناني وروسيا بدعوة من الحكومة السورية، كما تدخّلت أمريكا وقوات التحالف الدولي عقب ظهور تنظيم داعش الإرهابي الذي واجهته وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة ومن ثم قوات سوريا الديمقراطية التي قضت عليه ودكّت عاصمته المزعومة في الرقة، أمّا تركيا، ونتيجة لأطماعها التاريخية في المنطقة، فقد تدخّلت عبر مرتزقتها في البداية، وفي مرحلة لاحقة تدخّلت بشكل مباشر لتحتلّ مساحات واسعة من الجغرافيا السورية؛ كل هذا المشهد أنذر بمستقبل غير مستقرّ للدولة السورية في ظلّ هيمنة نظام البعث، وقد سُلبت إرادة الشعب السوري وجميع حقوقه المشروعة في تقرير مصيره ومواجهة محاولات القوى الإقليمية والعالمية في تفتيت النسيج السوري وتجزئة الجغرافيا السورية وفقاً لأجنداتها ومصالح الدول الإقليمية.
السيناريوهات التي تنتظر مستقبل سوريا إذا لم تتسلّم القاعدة الشعبية زمام المبادرة:
معظم المعطيات التي تم سردها من قبل تؤدّي لنتيجتين إذا لم تسعَ الفئات الشعبية في سوريا إلى استلام زمام المبادرة وقيادة دفّة العملية الانتقالية في سوريا:
السيناريو الأول: هو العودة بسوريا إلى نقطة اللاحل وقيام نظام مركزي شمولي ذي ميول وتوجّهات دينية مذهبية واضحة؛ وبشكل طبيعي سيصطدم بالكتلة الشعبية في سوريا خاصة، بسبب ما وصل إليه العالم من التقدّم العلمي والتكنولوجي وتنوّع وسائل التواصل الاجتماعي والحريات الليبرالية التي غزت معظم المجتمعات، بما فيها المجتمعات المحافظة أيضاً.
أمّا السيناريو الآخر: فيتوافق مع مشروع الشرق الأوسط الكبير – الجديد وهو مشروع التقسيم وتغيير الخارطة السياسية للدولة السورية وتفتيتها لعدّة دويلات متباينة في المجالات العرقية والدينية والمذهبية، ولكن هذا السيناريو أيضاً لا يخدم توجّهات النخبة السورية؛ حيث تميّزت وتقدّمت سوريا بتنوّعها العِرقي والديني والمذهبي؛ ومثل هذا السيناريو سوف يفتّت المجتمع السوري المتكامل، ويقود المنطقة إلى صراعات مستقبلية ذات نتائج كارثية وعواقب وخيمة على القوميات والمذاهب.
حلّ الأمّة الديمقراطية والإدارة الذاتية لسوريا عوضاً عن المركزية والتقسيم:
لا شكّ أنّ النسيج الاجتماعي السوري هو نسيج متباين لدرجة كبيرة، وقد أثّرت الدول والقوى الإقليمية على بنيته بشكل كبير؛ ممّا أدّى إلى التنوّع المذهبي والطائفي وظهور النعرات في هذا السياق، فإيران وأذرعها في المنطقة تغذّي نعرات الطائفة العلوية، والسّنّة تتحكّم بهم تركيا والأزهر وفكر الإخوان المتطرّف إضافة إلى بعض دول الخليج العربي، والطائفة المسيحية، على اختلاف مذاهبها، تتلقّى الدعم والتأييد من الأسرة المسيحية الدولية (كلّ حسب انتمائه)، أمّا الشعب الكردي فإنّه وبلا شكّ يدفع ضريبة التبايُن بين تلك المذاهب والإثنيات، وتعامله جميع أطياف المجتمع السوري بالتهميش والإنكار والإقصاء، وإذا ما حلّلنا التطوّر السوري بنظرة علمية واقعية وأخذنا بعين الاعتبار التنوّع الفسيفسائي السوري وعلى مدى تاريخ سوريا المعاصر فسنجد أنّه لا بدّ من نظام متكامل قادر على إدارة سوريا بمختلف الأطياف، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وأن يكون الجواب للتطوّر العالمي (العولمة) الراهن نظامٌ يضمن الحقوق المشروعة لجميع أبناء سوريا ويحترم إراداتهم الحرّة، ويكون ذا حساسية كبيرة للتوجّهات الفكرية البراغماتية للشعب السوري، ويدافع في الوقت نفسه عن الاستقرار والأمان داخل وخارج الجغرافيا السورية، وذلك النظام لن يكون موجوداً إلّا في براديغما الأمّة الديمقراطية ونظام الإدارة الذاتية الديمقراطية، حيث أثبت النظام المركزي الشمولي عدم جدواه؛ وقاد سوريا إلى الدمار الفكري والأخلاقي وانهيار جسم الدولة السورية.
فكرة التقسيم على أسس مذهبية هي أيضاً لا تقلّ خطورة من المركزية، وبالتالي؛ وكما ذكرنا في البداية، فإنّ حلّ اللامركزية والاتحاد الفيدرالي – أسوة بالعديد من الدول (أمريكا، روسيا، فرنسا، سويسرا، الإمارات … وغيرها الكثير) والتي لها ثقل ودور كبير في موازين القوى العالمية – هو الحلّ الأمثل لسوريا الجديدة، وهو الكفيل باحتواء التبايُن الواضح في النسيج الوطني السوري.