من يقف وراء مزاعم إحياء عملية السلام مع السيد أوجلان؟
تحدث في الآونة الأخيرة تطوّرات كثيرة ومتسارعة في الشرق الأوسط، ويتّضح لنا من طبيعة هذه التطوّرات أنّ هناك متغيّرات جادة وكبيرة على مستوى الشرق الأوسط، وهذه التطوّرات ستحدّد مصير الشرق الأوسط خلال مئة عامٍ القادمة، ستشمل هذه التغيّرات بعض الدول المحافظة في المنطقة. إنّ الدول التي تشكّلت بعد الحرب العالمية الأولى، وخاصةً تلك التي لم تعد تؤدّي واجباتها السياسية وتتصرّف وفق أجنداتها الخاصة، هي في عين هذه العاصفة جراء المتغيّرات.
إنّ القوى المهيمنة عالمياً والتي رفعت من وتيرة عملها وسارعت إلى تشكيل الشرق الأوسط الجديد؛ عبر التدخّل في لبنان “حزب الله” وإضعاف حركة حماس، وكذلك من خلال الضربات الصاروخية المتبادلة بين إسرائيل وإيران، فهي بذلك قد وضعت الشرق الأوسط أمام مرحلة جديدة؛ ودول المنطقة التي تئِنّ تحت وطأة الأزمات الخانقة قد باتت تتخوّف من أن تعصف بها رياح التغير.
تسابُق القيادات التركية على الإدلاء بتصريحات حول القضية الكردية:
إحدى هذه التطوّرات هي التصريحات الصحفية التي أطلقتها الأحزاب التركية الثلاث بخصوص الحلّ المفترض للقضية الكردية، وهي أحزاب ” حزب الشعب الجمهوري (CHP) وحزب الحركة القومية (MHP) وحزب العدالة والتنمية (ِAKP)”. إذًا؛ لماذا في هذا التوقيت بالذات يقوم رئيس حزب الحركة القومية دولت بخجلي بمصافحة رئيس حزب الديمقراطية والمساوة (تونجر بكرهان) في البرلمان؟ حيث قال: “إنّنا ندخل مرحلة جديدة، فكما نسعى إلى تحقيق السلام في الخارج، سنسعى لتحقيقه على المستوى الداخلي أيضاً.” كما دعا بخجلي السيد عبدالله أوجلان لإلقاء الخطاب أمام البرلمان. لماذا تطلق الأحزاب الثلاث في تركيا التصريحات لحلّ القضية الكردية وكأنّها في سباق؟ هل توصّل القادة الأتراك إلى تلك القناعة بأنّه يجب حلّ القضية الكردية من جذورها أم أنّها خدعة كالعادة؟
يقول دولت بخجلي رئيس حزب الحركة القومية: “إنّ الشعب الكردي والتركي متّحدان من الناحية المادية والمعنوية، ومَن لا يحبّ الكرد ليس تركياً”، فدولت بخجلي الذي يتحسّس بمجرّد سماع كلمة الكرد، لماذا يتحدّث الآن بهذه الطريقة؟ أمّا أوزكول أوزال، رئيس حزب الشعب الجمهوري، فقد ذهب إلى أبعد ممّا ذهب إليه بخجلي في هذا السياق، وقال “يوجد في تركيا أكثر من ستة وعشرين مليون كردي، ومن حقّهم المشاركة في إدارة تركيا.” وآخر تصريحاته في هذا الموضوع كان يوم الأربعاء 30\10\2024 أمام كتلته البرلمانية حيث قال: “منذ مدّة هناك محاولات لتغير الحدود في منطقتنا، لذا؛ يجب علينا حماية التآخي مع الشعب الكردي.” ويتابع قائلاً: “إنّ هذه الجمهورية (تركيا) هي للكرد والترك ولكلّ مَن يعيش على أرضها”.
إذًا؛ ما الذي تغيّر في هذه السنوات العشر الماضية؟ ولماذا لم تستمرّ مفاوضات السلام بين تركيا والقائد أوجلان؟ ومن يتحمّل مسؤولية إجهاض عملية السلام تلك؟ إنّ النداءات التي تطالب بحلّ القضية الكردية وبإعطاء الفرصة للسيد أوجلان للتحدّث أمام البرلمان إنّما هي من دواعي السرور، وهذا هو رأي السيد أوجلان نفسه، فهو يرى أنّه لابدّ من حلّ القضية الكردية تحت قبّة البرلمان، وكان قد عبّر عن ذلك في لقاءاته المدوّنة مع محاميه في سجن إمرالي.
وفي هذا السياق؛ إذا ما أبدى الساسة الأتراك نوايا صادقة، وامتلكوا يقيناً جازماً بأنّ الكرد جزء من الدولة، ووصلوا إلى القناعة التامّة بأن يُصبح الكرد والترك شركاء في الجمهورية ويتولّون إدارتها معاً، فحينها ستنجح محاولات إعادة إحياء عملية السلام المرتقَبة، أمّا إذا لم تكن نواياهم صادقة بهذا الخصوص، فلن نتوصّل إلى أي نتائج إيجابية؛ ولكي ندرك هذه الحقيقة ونجيب عن الأسئلة المطروحة أعلاه، سوف نقوم بتقييم الأحداث المنصرمة وسنُجري سرداً تاريخياً إلى أن نصل إلى يومنا هذا.
الشعب الكردي دائماً ما يُخدَع بالكلام المعسول:
إنّ التصريحات الرنّانة التي يُطلقها الآن رؤساء الأحزاب الكبرى في تركيا، والذين يسمّون القضية الكردية بـ”الإرهاب” ويصفون ذلك بـ “إطلاق عملية السلام”، إنّما هي تصريحات تكرّرت مراراً من قبل قيادات تركيا قديماً، هناك أقوال لمصطفى كمال أتاتورك موجّهة للكرد قبل الجمهورية التركية الحديثة، ومن أقواله آنذاك: “هذه الجمهورية مشتركة وسوف يُديرها الكرد والترك معاً، يستطيع الكرد أن يَحضُروا إلى البرلمان بزيّهم القومي”، بل ذهبوا أكثر من ذلك؛ فقد أقر البرلمان التركي في عام 1921م – وبأغلبية الأصوات – إقامة حكم ذاتي في المناطق الكردية، ولكنّ التطوّرات التي حدثت بعد تأسيس الجمهورية التركية قد جلبت معها مأساةً كبيرة للشعب الكردي. وكذلك عندما تولّى رجب طيب أردوغان القيادة في تركيا، قال: “القضيّة الكردية هي قضيّتي”. كما قيل أيضاً: “طريق الحلّ يمرّ من ديار بكر”. كل هذا الكلام جيّد ومُرحّبٌ به؛ لكن لم يقم أحد بأي خطوة ملحوظة باتجاه الحلّ، وهناك بعض القادة ممّن أرادوا القيام بشيء ما ولكن الدولة العميقة قد أوقفت ذلك؛ فقد كانت لتورغوت أوزال محاولة لحلّ القضية الكردية، وكان السيد جلال الطالباني آنذاك يقوم بدور الوسيط، ووصلت المفاوضات إلى حدّ مناقشة النظام الفيدرالي لتركيا، إلّا أنّ تلك المحاولات لم تثمر ولم تكتمل.
إنّ محاولات السيد أوجلان بعد عام 1999 من أجل السلام تمثّلت باتّخاذ خطوات جريئة؛ مثل إعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد ودعوة مقاتلي حزب العمال الكردستاني للانسحاب من الداخل التركي، إلّا أنّ تركيا قد قابلت هذه الخطوات بالاستمرار في الحرب وتسبّبت باستشهاد 500 عضوٍ من الكريلا أثناء انسحابهم خارج الحدود، كما قام القائد أوجلان عدّة مرّات خلال أعوام التسعينات بإعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد، لكن الحكومة التركية كانت دائماً ما تحاول إنهاء القضية الكردية من خلال الحسم العسكري، ومؤخّراً كانت هناك عملية السلام ومباحثات من طرف الدولة التركية مع القائد أوجلان في عام 2013 ولكنّها توقّفت وبدأت الحرب من جديد، فلماذا لم تنجح تلك العملية آنذاك؟
كانت لأردوغان حساباتٌ سياسية في سوريا؛ فقد كان يعتقد أنّه سيتمكن من السيطرة على السلطة في سوريا من خلال حركة الإخوان المسلمين، لذا؛ قام باحتضان جميع التنظيمات المتطرّفة، وأوعز بشنّ الحرب على سوريا – وخاصة على مناطق روج آفا (غربي كردستان)، وممّا لاشكّ فيه أنّ حزب الحركة القومية كان له دورٌ كبيرٌ في شنّ تلك الحرب، لقد ازدادت الهجمات على الشعب الكردي، خاصة بعد تحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية؛ حيث ازدادت وتيرة الهجمات على مستوى القضية الكردية في روج آفا، ولقد فشل أردوغان في إقامة توازنٍ بين المكاسب التي حقّقها الشعب الكردي في غربي كردستان وبين الوعود التي قطعها أمام الدولة العميقة حول تصفية حركة حرية كردستان، وبذلك تلاشت أحلام أردوغان بالسيطرة على سوريا شيئاً فشيئاً. إنّ التطوّرات التي حدثت في غربي كردستان، وخاصة إعلان تأسيس الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، قد جعلت حسابات القيادة التركية في حالة من التشتّت، رأوا إذا استمر الوضع على المنوال سيحصل كرد روج آفا على حقوقهم. لذا؛ فقد قرّرت تلك القيادات إنهاء عملية السلام مع القائد أوجلان والبدء بمرحلة احتلال روج آفا عسكرياً، لكنّهم فشلوا أيضاً في إسقاط الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، ومنذ ذلك الحين وحتى الآن حدثت تطوّرات كثيرة؛ فقد سقط مشروع الإخوان المسلمين في سوريا وعموم المنطقة، وبعد أن فشلت الدولة التركية في الوصول إلى أهدافها بدأت تطلب التصالح مع النظام السوري بهدف إسقاط الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا.
عندما يقع الأتراك في ضائقة ويشعرون بالخطر يستنجدون بالشعب الكردي:
إذا ما قلّبنا صفحات التاريخ فسنجد أنّه كلّما شعر الأتراك بالخطر وتعرّضوا للأزمات فإنّهم يستنجدون بالكرد. وعلى سبيل المثال: عندما عجز الأتراك العثمانيون في الدفاع عن أنفسهم أمام البيزنطيين، اضطروا لعقد تحالفٍ مع الكرد؛ حيث أدّى ذلك إلى انتصارهم في معركة ملاذكرد 1071م، ومقتل إمبراطور البيزنطيين رومانوس الرابع. وفي صفحة أخرى من صفحات التاريخ يُذكَر أنّه عندما أيقن العثمانيون أنّهم لا يستطيعون مواجهة الصفويين لوحدهم في حربهم، استعانوا بالشعب الكردي عبر الأمير إدريس البدليسي الكردي؛ فانتصر العثمانيون عبر تحالفهم مع الكرد في معركة جالديران 1514م. وفي حرب التحرير الوطنية 1919-1922 قام مصطفى كمال أتاتورك بجولة على زعماء ووجهاء العشائر الكردية وطلب منهم المؤازرة، فلبّى الكرد النداء وأُقِيم التحالف الكردي – التركي، وانتصر مصطفى كمال في حربه على اليونان؛ وعلى أثر ذلك أقرّ البرلمان التركي في عام 1921 قانون الحكم الذاتي للكرد في تركيا، ولكنه أُلغي بعد عام واحد فقط في 10\02\1922، أمّا الآن فإلى جانب شعور السلطة التركية بالخطر المحدِق بها هناك أزمات سياسية واقتصادية عميقة تعيشها تركيا، فقد اضطرّت الحكومة التركية في أكتوبر المنصرم لطلب قرضٍ ضخم من صندوق النقد الدولي، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الاقتصاد التركي يتّجه نحو الانهيار، إلى جانب تقدّم حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات مقابل تراجع سلطة حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية. نظراً للظروف السابقة التي ذكرناها، قامت الحكومة التركية مؤخّراً بطرح موضوع السلام من جديد، وكعادتها؛ تريد القيادة التركية تجاوز أزماتها، وهنا يكمن سرّ تسابُق أحزاب تركيا الرئيسية للمطالبة بحلّ القضية الكردية.
إنّ كفاح الشعب الكردي ومقاومة القائد أوجلان في سجن إمرالي وقدرة قوات الكريلا على الاستمرار لأكثر من أربعين عامًا، بالإضافة إلى نجاح قوات سوريا الديمقراطية في محاربة تنظيم داعـش الإرهابي، قد أجبرت القوى الدولية لإعادة النظر في سياساتها حيال القضية الكردية وضرورة حلّها. إنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد تولّى السلطة عبر اتفاق مع الدولة العميقة في تركيا مفاده القضاء على حزب العمال الكردستاني؛ ولكنّه فشل في الوفاء بوعوده رغم الدعم المقدّم له من الناتو والقوى المهيمنة في العالم، إذًا؛ هو مضطرّ للجلوس إلى طاولة الحوار بعد عجزه وفشله عسكرياً في القضاء على الثورة التاسعة والعشرين.
عندما سُئِل المسمار: كيف تثقب الجدران؟ أجاب: اسألوا المطرقة.
إنّ المتغيّرات التي تحدث في إطار بناء الشرق الأوسط الجديد، والتي تقودها القوى الدولية الكبرى، تُعَدُّ سببًا هامّاً من أسباب تهافت السياسة التركية على الحوار مع الكرد؛ فأردوغان هو الذي دفع دولت بخجلي للإدلاء بتلك التصريحات، وأردوغان لديه حسابات؛ إنّه يريد استقطاب الكرد إلى جانبه في سبيل البقاء في السلطة لدورة أخرى للاستمرار في مشروعه (الإسلام المعتدل)، وإذا ما ذهبنا إلى أبعد من ذلك، فإنّ هناك ضغوطات أمريكية وغربية على أردوغان، وإذا ما أمعنّا النظر فسنجد أنّ تركيا قد فقدت أهمّيتها الجيوسياسية والجيوستراتجية في العقدَين الأخيرين؛ فسياسة حزب العدالة والتنمية، بزعامة أردوغان، اتجاه القوى الدولية ودول الجوار قد أدّت إلى عزلة تركيا، حيث قامت سياسته على دعم حركة حماس والحركات الإسلامية المتطرّفة بكافة أصنافها، وكذلك على التقرّب من روسيا إلى حدّ المطالبة بالانضمام إلى مجموعة بريكس؛ وهو ما أثار الشكوك لدى حلفاء تركيا التقليديين في حلف الناتو حول نوايا تركيا الحقيقية، وهذا ما دفع الناتو – بالتزامن مع قمة دول البريكس – إلى طلب مناقشة عضوية تركيا في الحلف. نظراً للأسباب آنفة الذكر ولأسباب أخرى؛ يرى الساسة الأتراك أنفسهم تحت الضغوط، فهم مضطرّون لاختيار أحد الطريقَين: إمّا التحالف مع روسيا والصين وإيران، وعند ذلك سيواجهون خطر تقسيم البلاد، أو أن يختاروا العودة إلى صفوف حلف الناتو؛ وحينها عليهم أن يغيّروا من سياساتهم بما تتناسب مع مصالح أمريكا وإسرائيل وأوروبا ومع السياسات الأمريكية الهادفة إلى بناء الشرق الأوسط الجديد، وعندها أيضًا عليهم أن يُجروا الإصلاحات اللازمة بشكل طوعي. فهناك مقولة دارجة تقول:” سُئل المسمار: كيف تخترق الجدار؟ فأجاب: اسألوا المطرقة التي تدقّني.” فتركيا إذا لم تبالِ بكلام حلفائها (أمريكا وإسرائيل وأوروبا) وإذا ما رفضت التغيّرات المطلوبة منها فإنّ الدولة التركية ستذهب إلى مزيد من التعقيد والتأزّم؛ وفي هذه الحالة ستكون تركيا عُرضةً للاضطرابات الداخلية (مثل إيران وباقي دول ربيع العربي). وبالتالي؛ فهي مقبلة على سيناريوهات مختلفة. فإذا أخذت تركيا بنصائح حلفائها في القيام بالتغيّرات والإصلاحات الديمقراطية، وإبداء المرونة حيال القضية الكردية في تغيير ذهنيتها الإقصائية، والتصالح مع الكرد والاعتراف بحقوقهم المشروعة؛ حينئذ بإمكان تركيا أن تصبح دولة إقليمية قوية. وهناك خيار ثالث أمام تركيا؛ ألا وهو التعنّت والاستمرار في الأسلوب العسكري كطريقة حلّ للقضاء على الكرد؛ وحينها ستُسال الكثير من الدماء وسيسقط عشرات الآلاف من الضحايا من كلا الطرفَين، وعلى الكرد أن يستعدّوا لهذا الحرب أيضاً.
مآرب تركيا من بثّ الإشاعات حول حلّ القضية الكردية:
يدرك الأتراك تماماً أنّ للشعب الكردي موقعاً في إطار بناء الشرق الأوسط الجديد، وهم يعلمون أنّ الفيتو الدولي الذي فُرِض على الشعب الكردي منذ مئة عام سوف يُلغَى تدريجياً، وسوف يكون للشعب الكردي دورٌ في رسم الشرق الأوسط الجديد أسوةً بالشعب (العربي والتركي والفارسي). ودعوة بخجلي رئيس حزب الحركة القومية بخصوص حضور أوجلان إلى البرلمان لحل حزبه وإنهاء الكفاح المسلح في تركيا إنما اعترافٌ بأنه هناك مشكلة كردية في البلاد. فالنداءات والدعوات الأحزاب التركية الرئيسية الأخير حول هذا الموضوع تأتي في إطار الضغوطات الخارجية. لذا تسعى تركيا الخروج بأقلّ الخسائر الممكنة من حملة التغيّرات التي ستطال الشرق الأوسط، وهم يطمحون في أن تبقى خيوط حلّ القضية الكردية في أيديهم فقط، وألّا تصبح قضية دولية، فهم يخطّطون لأن تجري تلك التغيّرات تحت إشرافهم، ليس فقط في شمال كردستان (باكور)، بل في عموم أجزاء كردستان، فالأتراك (السلطة في تركيا) يلاحظون أنّه يتم إضعاف نفوذ إيران في المنطقة عبر الضربات الإسرائيلية، لذلك يريدون استغلال الأمر لصالحهم، وتأمل تركيا أن تُحَلّ القضية الكردية وفق مصالحها، وذلك لضمان تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، لكن؛ هل ستنجح في ذلك؟ لا يمكننا التكهّن بأنّها ستنجح أو ستفشل، فهذا الأمر مرتبط بمدى جدّيتها ودرجة تغيير ذهنيتها المعادية للكرد.
من جهة أخرى؛ فإنّ تركيا، وعن طريق الإيحاء بأنّها تريد الحوار مع الكرد، تريد أن تبعث برسالة إلى النظام السوري وتقول لبشار الأسد، “إن لم تستجب لنداءاتنا بالمصالحة فإنّنا سوف نتصالح مع الكرد”. تهدف تركيا من ذلك تشكيل مزيد من الضغط على النظام السوري لإجباره على تقديم التنازلات؛ فيحقّق الأتراك أكبر قدر ممكن من مصالحهم. إنّ القصف التركي باستخدام الطائرات المُسّيرة على إقليم شمال وشرق سوريا لا يتوقّف، ولو توفّرت الإمكانية لدى الجانب التركي للقضاء على الإدارة الذاتية لما تردّدت لحظة في ذلك.
تركيا تستنزف قدراتها العسكرية والاقتصادية، وهناك قضايا عالقة تنتظر حلولاً عاجلة، فهل بإمكان تركيا – في وضعها الحالي – أن تقوم بانفتاح سياسي واقتصادي كما يدّعي الساسة الأتراك؟ باعتقادنا: لن تتمكّن تركيا من القيام بانفتاح سياسي واقتصادي، ولا من القيام بدورها الإقليمي طالما أنّها ترفض حلّ مشاكلها الداخلية وتصرّ على الانخراط في عملٍ مسلّحٍ ضدّ الكرد في المنطقة.
الآن تدرك تركيا أنّها إذا لم تبادر إلى حلّ القضية الكردية من الداخل التركي فإنّ الملف الكردي سيخرج من بين أيديها وستفقد تركيا السيطرة عليها، ستأخذ القضية أبعاداً إقليمية ودولية يصعب على تركيا مواجهتها. لذا؛ تريد تركيا كسب الشعب الكردي إلى جانبها في هذه الصراعات الإقليمية، وتهدف كذلك إلى إبعاده، قدر الإمكان، من مواكبة التطوّرات والتغيّرات المحتمَلة التي تضمّ في أجندتها القضية الكردية في المنطقة. إنّ التصريحات الرنّانة التي يطلقها الساسة الأتراك وادّعاءات المصالحة مع الكرد، لايزال من المبكّر وصفها بأنّها بداية لعملية السلام وحلّ القضية الكردية في تركيا، وجميع تلك المساعي، حتى الآن، ما هي إلّا مجرّد محاولاتٍ لا أكثر ولا أقل؛ فالأحزاب الثلاثة الرئيسية في تركيا لا زالت غير واضحة بشأن تسمية القضية الكردية، فهي (تلك الأحزاب) لاتزال تنظر إلى الأمور من منظور مكافحة الإرهاب، والمستجدّات والتطوّرات المقبِلة كفيلة بكشف النوايا الحقيقية للساسة الأتراك.
هل الجمهورية التركية الحديثة، التي تأسّست على إنكار وجود الشعب الكردي، باتت اليوم مهيّأةً لقبول الشعب الكردي كشريك في إدارة الدولة؟ هل أصبحت مستعدّةً لتثبيت حقوق الشعب الكردي في الدستور؟ هل الأتراك مستعدّون لتغيير اسم الجمهورية؟ ممّا لا شكّ فيه أنّه إذا لم تجرِ السلطة التركية إصلاحات إيديولوجية فإنّه من غير الممكن أن تفضي النقاشات الحالية حول عملية السلام إلى أية نتائج ملموسة.
إذا ما نظرنا إلى الأمور من زاوية أخرى وتساءلنا: مَن الذي قام بتأسيس جمهورية تركيا الحديثة؟ فالجواب هو: إنّ بريطانيا العُظمى، التي كانت تتربّع على عرش السيادة في العالم، إلى جانب يهود الدونمة، هي التي قامت بتأسيس الدولة التركية. باختصار؛ نستطيع القول إنّ الدولة التركية وجميع الدول التي تأسّست في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى جاءت لخدمة مصالح القوى العالمية الكبرى آنذاك، لذا؛ فإنّ القضية الكردية بمقدار ارتباطها بالأتراك فهي مرتبطة أيضًا بالقوى المهيمنة في العالم بنفس المقدار، وعلى رأسها بريطانيا، فهذه القوى مسؤولة عن وضع الشعب الكردي، وهي التي قسّمت كردستان وحرّمت الشعب الكردي من الحصول على حقوقه طوال قرن كامل من الزمن وحالت دون إقامة كيان باسم كردستان، فقبول الهوية الكردية وفتح الطريق أمام السياسة الكردية في الشرق الأوسط أمر يتجاوز صلاحيات الدولة التركية، وإذا لم توافق القوى الكبرى فإنّ تركيا وحدها لن تستطيع أن تخطو في هذا الطريق أية خطوة، لأن دول المنطقة مصطنعة من قبل قوى الهيمنة العالمية وحكامها أدوات بيدهم، فدور تركيا في هذا الموضوع دورٌ سنوي.
إنّ فشل الثورات الكردية المطالبة بحقوق الشعب الكردي في التاريخ الحديث يعود سببه إلى الفيتو المفروض من قبل الدول المهيمنة عالمياً، والحقيقة إنّ تركيا لو لم تكن محميّةً ومدعومة من قبل تلك الدول لدُمّرت عن بِكرةِ أبيها؛ فأمريكا وإسرائيل قد اعترفتا علناً أنّهما قد ساعدتا في اعتقال السيد عبد الله أوجلان وتسليمه إلى الدولة التركية. لذا؛ يمكننا أن نستنتج أنّ السيد أوجلان ليس أسيراً لدى تركيا فحسب، وإنّما هو أسيرٌ لدى تلك القوى الدولية، وهنا تكمن المعضلة الحقيقية، فهذه القوى هي التي تقف خلف حرمان الشعب الكردي طوال قرن من الزمن من إقامة أي كيان مستقلّ، وهي التي أبقت القضية الكردية معلّقةً دون حلّ، فمصلحة قوى الرأسمالية العالمية بعد الحرب العالمية الأولى كانت تقتضي إبقاء الشعب الكردي بلا وطن وتقسيم أرضه بين أربع دول، وكان الهدف من تقسيم الشعب الكردي وأرض كردستان بهذه الطريقة هو إبقاء تلك الدول الناشئة رهينة بيد الرأسمالية العالمية؛ لتحقيق التوازن في الشرق الأوسط، والإيحاء دائماً لتلك الدول بأنّ إقامة كردستان قادمة لا محالة.
إنّ الذين سيحيون عملية السلام مع السيد أوجلان ليسوا قادة تركيا بل قوى الهيمنة العالمية التي أبقت القضية الكردية مُعلّقة طيلة مئة عام:
إذا ما أرادت قوى الهيمنة العالمية أن تضع حلّاً للقضية الكردية في الشرق الأوسط فإنّها قادرة على ذلك لا محالة، وبإمكانهم الضغط على تركيا لإرغامها على قبول إيجاد حلّ للقضية الكردية، وما نسمعه ونشهده من الساسة الأتراك اليوم بخصوص ادّعاءاتهم حول حلّ القضية الكردية إنّما جاء نتيجة تغيير قوى الهيمنة العالمية سياساتها حيال الكرد، فالمنطقة مقبلة على مرحلة جديدة، ومصالح قوى الهيمنة تتطلّب أخذ الكرد بعين الاعتبار في التشكيلة الجديدة في الشرق الأوسط. إنّ الدولة القومية هي التي أفرزت العنصرية وتسبّبت في إراقة دماء كثيرة، والدولة التركية الحديثة دولة قومية قِوامُها العنصر التركي فقط، وقد تأسّست على يد القوة العالمية الحاكمة ونتج عن ذلك إبادة الشعوب في الشرق الأوسط، ومن المهم جداً إصلاح ذلك الخطأ التاريخي، فالذين أسّسوا تركيا وفق هذا النمط العنصري هم وحدهم يستطيعون المساس بمقدّساتها (الدولة التركية) كالعَلَم واسم الجمهورية وغيرها. لذا؛ فإنّ الذين سيقومون بإحياء عملية السلام مستقبلاً مع السيد أوجلان ليسوا قادة تركيا وساستها، بل هي قوى الهيمنة العالمية التي أبقت القضية الكردية عالقة طيلة مئة عام.
يقول السيد عبد الله أوجلان في مرافعته الخامسة بهذا الخصوص: “إن إرسالي إلى السجن الانفرادي في جزيرة إمرالي المنعزلة كان بإشراف الاتحاد الأوروبي، وأول شخص قابلته هناك كانت ممثّلة الاتحاد الأوروبي” ويكمل السيد أوجلان قائلاً: “اعترف رئيس الوزراء التركي آنذاك بولند أجاويت قائلاً: لا أعرف لماذا تم تسليمنا أوجلان، ولا أدري لماذا أعادوه إلى تركيا”. إنّ المستجدّات في القضية الكردية في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين تختلف عمّا حدث في الربع الأول من القرن العشرين؛ ففي بدايات القرن العشرين ارتأى قسم من المستشرقين والمختصّين أنّ الكرد ليسوا بذلك المستوى الذي يؤهّلهم لإدارة الدولة، وهناك عامل آخر ألا وهو أنّ معظم الكرد آنذاك قد اختاروا التحالف مع الأتراك، وأرادوا إحياء الخلافة العثمانية؛ وهو ما أغضب القوى الغربية، أمّا القلّة القليلة من الكرد فقد وقفوا إلى جانب القوى الغربية ولم يكن لهم أي تأثير كبير في تغيير مجريات الأحداث لصالح القضية الكردية، إلّا أنّ السبب الرئيسي وراء حرمان الكرد من حقوقهم هو أنّه تم وضع مصالح القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى فوق كل الاعتبارات، واستغل الأتراك ذلك الموقف وأثّروا على الكرد من الناحية الدينية والقومية واستطاعوا استغلال الكرد من أجل تحقيق المصالح الخاصة للأتراك مقابل وعود زائفة.
أمّا الآن فإنّ وضع الكرد مختلف تماماً عمّا كانوا عليه في بداية القرن العشرين؛ فقد خطا الكرد خطوات كبيرة من الناحية السياسية والتنظيمية والإدارية والعسكرية بالمقارنة مع الماضي، حيث باتوا الآن يمتلكون معرفة سياسة وعسكرية وإدارية عميقة، فقوات الكريلا أصبحت أكثر تمرّساً ومهارة في فنون القتال، وتقاتل ثاني أكبر قوة في الناتو منذ 40 عامًا، ويمتلكون كذلك قوة عسكرية ضاربة يُقدَّر قِوامها بحوالي مئة ألف مقاتل في إقليم شمال وشرق سوريا، هذا عدا عن قوات البيشمركة الموجودين في جنوب كردستان، كما أنّ قوات سوريا الديمقراطية، التي تعمل في أطار التحالف الدولي، يتم التعامل معها كجيش مستقلّ، وهناك مرونة ملحوظة وواضحة تجاه الكرد تبديها تلك القوى التي قسّمت كردستان سابقاً، فالكرد يمتلكون قوة ديناميكية، وبإمكانهم نشر الديمقراطية في الدول التي يتواجدون فيها، فمثلما أستطاع الكرد حماية الإنسانية والمنطقة من خطر تنظيم داعش الإرهابي والجماعات الإسلامية المرتبطة به فإنهم يستطيعون كذلك أن يكونوا عنصراً هاماً وفاعلاً لنشر الأمان والاستقرار في عموم المنطقة.
إنّ هذا الكلام لا يعني أنّ الأمور تسير على ما يُرام، وأنّ الرياح ستجري بما تشتهيه سفن الكرد، فهذه المرحلة بقدر ما هي فرصة مواتية لتحقيق مكاسب كبيرة، فإنّها في الوقت ذاته لا تخلو من مخاوف تعرّضِ الكرد لمجازر كبيرة؛ فقُبَيل القيام بعملية توساش ضدّ شركة تصنيع الطائرات المسيّرة (درون) للصناعات الجوية في أنقرة كان هناك تصريح لأردوغان قال فيه:” بعد لبنان ستتّجه إسرائيل إلى بلادنا.” وأشار إلى قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهذا التصريح يحوي العديد من المعاني، فعلى الرغم من أنّ روجافا لا علاقة لها بتنفيذ عملية أنقرة (لا من قريب ولا من بعيد)، ومع ذلك استهدفت تركيا البنية التحتية لروجافا وشنّت هجمات ضدّ أكثر من ألف موقع، ولم تكتفِ تركيا بذلك ولم تتوقّف عند ذلك الحدّ؛ بل أقالت رؤساء ثلاث بلديات (خلفتي وماردين وباطمان (إيله) من مناصبهم؛ وبذلك تعقّدت الأمور أكثر. إذا ما كانت تركيا فعلاً جادّة في بدء عملية السلام فلِمَ استولت على البلديات التي فاز بها الكرد عبر الانتخابات؟ الأيام القادمة كفيلة بمدى جدّية الأتراك في مسألة حلّ القضية الكردية، لكن كما يبدو ومن خلال طريقة تعاطي الأحزاب الرئيسية في تركيا واختلاف آرائها حول القضية الكردية فإنّه يتم التحضير لحبك المؤامرات ضدّ الكرد ولكن بطريقة مختلفة هذه المرة، فأردوغان وشريكه دولت بهجلي يسعيان إلى حل القضية الكردية وفق مفهومهما الخاص.
في ظل انعدام الثقة فإنّه قد تطول عملية السلام المزمع البدء بها بين تركيا والكرد هذه المرة، ستكون مخاضًا عسيراً تتضمّن عملياتٍ دامية بين الطرفين كعملية توساش في أنقرة التي تبنّاها حزب العمال الكردستاني. إنّ مبادرات وقف إطلاق النار من طرف واحد، والتي أعلنها حزب العمال الكردستاني مراراً، لم تلقَ آذاناً صاغية، فعدم وفاء تركيا بالوعود التي قطعتها على نفسها قديماً وحديثاً قد خيّب آمال الكرد، لذا؛ إنّ عامل الثقة مهمّ جداً في موضوع الحوار، الكرد لا يثقون بتركيا، وإنّ ضمان عملية ناجحة لوقف إطلاق النار والدخول في عملية السلام يستلزم دولة ضامنة تتحمّل مسؤولية ما يترتّب على الطرفين. جدير بالذكر تصريحات الساسة الأمريكيين حول التصالح بين الكرد وتركيا بين الحين والآخر خلال السنوات العشر الماضية. وهنا نُذكر تصريحاً لمسؤول أميركي في بدايات خريف 2024 خاطب فيه تركيا قائلاً: “ينبغي أن نجري نقاشًا استراتيجيًا حول سوريا والمنطقة عموماً في نهاية العام الحالي”. ومن هنا يتّضح لنا أنّ مساعي ودعوات الأحزاب التركية الرئيسية حول مزاعم حلّ القضية الكردية في تركيا ليست منفصلة عن الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، ومن مصلحة أمريكا أن يتصالح الكرد والترك؛ باعتبار أنّ أمريكا تعتبر كلا الجانبين حليفًا لها، كذلك هناك رغبة أمريكية في أن تتوحّد مناطق شمال غرب سوريا مع مناطق شمال وشرق سوريا. إذًا؛ تركيا الآن أمام مفترق طرق: فإمّا أن تقبل التغييرات المحتملة في المنطقة وتخطو خطوات جريئة وعملية نحو حلّ القضية الكردية في تركيا لتخرج كدولة إقليمية قوية، أو أن تمضي قُدُماً عكس التيار، وهذا من شأنه أن يؤدّي إلى إضعاف وتقسيم تركيا.
الخلاصة:
إنّ أكثر ما يخيف الأتراك هو أن يتحوّل الكرد إلى لاعب مؤثّر في سياسة الشرق الأوسط والعالم، بحيث يتولّون زمام المبادرة وتعتمد عليهم القوى العظمى في المنطقة، لذا؛ فإنّ القادة الأتراك يعيشون حالة قلق وتوتّر شديدَين نتيجة التطوّرات محتمَلة الحدوث، وهذا هو سرّ إسراعهم للمطالبة بحلّ القضية الكردية؛ فهم يسعون، من خلال التقرّب من الكرد ووضع القضية الكردية على جدول أعمالهم، إلى إطالة عمرهم في السلطة. ولا يبدو واضحاً مدى قبول أو رِضى الكرد عن الخطوات التي سوف يُقدِم الأتراك عليها، ولكن ما هو معلوم هو أنّهم (الأتراك) مرغمون على إبداء المرونة واتّخاذ بعض الخطوات بهذا الاتجاه.
إنّ كفاح الشعب الكردي من خلال التضحيات التي قدّمها على مدار مئة عام، قد أجبرت القوى الدولية على البحث عن إيجاد حلّ للقضية الكردية المعلّقة منذ قرن من الزمن. إنّ مصلحة القوى المهيمنة تكمن في أن يكون للكرد دور ومكانة في الشرق الأوسط الجديد، شأنهم شأن العرب والترك والفرس، فالكرد يشكّلون عامل توازان في المنطقة، وليست لديهم نزعات توسّعية كإيران وتركيا، بل إنّ أقصى ما يطمحون إليه هو العيش بكرامة على أرضهم التاريخية، لذا؛ من المهم أخذ تطلّعات الشعب الكردي بعين الاعتبار، وبدون تصحيح الخطأ التاريخي الذي وقعت فيه قوى الهيمنة العالمية في بداية القرن العشرين في إنكار حقوق الشعب الكردي، لن تسود العدالة والسلام المجتمعي بين المكوّنات في الشرق الأوسط.