حزب العمال الكردستاني… الحرب وفلسفة الحياة

جهاد حسن

حزب العمال الكردستاني… الحرب وفلسفة الحياة

كيف تجاوز أوجلان الدولة وأعاد اختراع العصرانية الديمقراطية؟

في زمن تتصدّع فيه النماذج التقليدية للسلطة ويتحوّل معنى “الانتصار” من الحسم العسكري إلى القدرة على البقاء الأخلاقي والتجدّد السياسي، تبرز تجربة حزب العمال الكردستاني (PKK)، لا كحركة تحرّر وطنية فحسب، بل كمشروع فلسفي لإعادة تعريف الحياة السياسية ومكانة الدولة ودور المجتمع.

لكن؛ كيف يتحوّل تنظيم مسلّح إلى حامل مشروع حضاري يتجاوز الحدود؟ وهل يمكن للسلام أن يكون أكثر راديكالية من الحرب؟

وهل التجارب العالمية تثبت أنّ ما فعله الحزب ليس استثناءً بل امتداد لمسار تحرّري عالمي بديل عن الدولة القومية والعنف المؤسسي؟

فلسفة التحوّل: من الحرب إلى مشروع الحياة

منذ 2009 وحين أطلق عبد الله أوجلان من سجنه مشروع الحل السلمي، كان واضحًا أنّ الرؤية تتجاوز مجرّد وقف إطلاق النار؛ حيث كانت دعوته تحوي تفكيكًا جذريًا لمفهوم السياسة كصراع على السلطة نحو فهم جديد للمجتمع كذات فاعلة، والدولة كوظيفة لا قداسة لها.

كتب أوجلان من عزلة جزيرة إيمرالي لا عن هدنة مؤقّتة بل عن أفق حضاري بديل يتجاوز النموذج القومي والحداثة الرأسمالية، مطلقًا مفهوم “الأمة الديمقراطية” كإطار جديد للعيش المشترك والتعدّدية.

لكن هذا التحوّل الجذري في الفكر والممارسة هل هو محلّي فقط؟ أم أنّه يجد صداه في تجارب عالمية كبرى أعادت أيضًا تعريف السلام والسيادة والدولة؟

في جنوب أفريقيا ما بعد نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) كان الخيار سهلًا ظاهريًا؛ إمّا الثأر وإعادة إنتاج الحرب!!! أو المصالحة والاعتراف المتبادل!!! اختار نيلسون مانديلا المسار الأصعب؛ فأنشأ لجنة الحقيقة والمصالحة؛ حيث لم يكن الهدف هو “العفو المجاني”، بل كان الهدف تأسيس ذاكرة مشتركة تُبنى عليها شرعية سياسية جديدة.

وكان السؤال: هل يمكن معالجة ماضٍ دموي دون عدالة انتقامية؟

والجواب جاء بالاعتراف” بالحقيقة” وتحويلها إلى أساس لتعايش مستقبلي.

وهذا ما يحاكيه طرح أوجلان؛ الاعتراف بالألم لا يعني دوام العداء، بل ضرورة ولادة وعي جديد بالأخلاق السياسية.

 وضمن هذا السياق؛ نستطيع أن نتناول التجربة في أيرلندا الشمالية؛ حيثُ أُنهك المجتمع بصراع مسلّح طائفي طويل بين القوميين الكاثوليك والاتحاديين البروتستانت، ولم يكن اتفاق الجمعة العظيمة 1998 مجرّد صفقة سياسية، بل كان إعلان كسرٍ لنمط “العدو الأبدي”. دخلت فيه قوى المقاومة المسلّحة مثل الجيش الجمهوري الإيرلندي (IRA) في مسار سياسي تحوّلي، يقبل التعايش ويؤسّس لثقافة ديمقراطية تشاركية رغم الجراح.

والسؤال هنا: هل يمكن لمَن كان يحمل السلاح أن يتحوّل إلى شريك سياسي؟

الجواب الواقعي: نعم.. إن توفرت الشجاعة لنسف الثنائيات، ولبناء منظومات جديدة من الثقة والاعتراف.

وهذا ما يفعله حزب العمال الكردستاني اليوم؛ وهو تحويل الكفاح المسلّح إلى طاقة مجتمعية تؤسّس لفعل سياسي أخلاقي.

وبالإمكان أن نتطرّق إلى التجربة الرواندية؛ أي التحوّل من المجازر إلى البناء، وذلك بعد واحدة من أبشع المجازر في التاريخ الحديث عام 1994م، حيث قُتل نحو مليون رواندي خلال مئة يوم، لم يكن أمام رواندا خيار الاستمرار في منطق الإبادة، اختارت الدولة بقيادة بول كاغامي تأسيس عدالة انتقالية من خلال محاكم “غاشاشا” الشعبية لتجاوز الانقسام العرقي الحاد بين الهوتو والتوتسي.

السؤال الصعب هنا كان: هل يُمكن لمجتمع أباد نصفه النصف الآخر أن يتوحّد مجدّدًا؟

الإجابة جاءت عبر بناء دولة المواطنة… وليس الانتقام، وعبر دستور يقوم على اللاعرقية والعدالة المجتمعية.

وهذا يلتحم بمفهوم أوجلان في مرافعاته حول “أخلاقية السلام”، حيث تتفوّق الذاكرة والمشاركة على الدولة القومية ومفاهيم النصر القسري.

فكل هذه التجارب، كما تجربة حزب العمال الكردستاني، تشترك في لحظة وعي فلسفي؛ أي الدولة هي الحل أم هي المشكلة ذاتها؟

لقد عرفت الحداثة الغربية الدولة كأداة لتنظيم المجتمع، لكنّها في كثير من الأحيان والواقع أصبحت أداة لإقصائه ومحو تنوّعه. وأوجلان من خلال مرافعاته يذهب إلى أبعد من نقد الدولة بل إلى تفكيك بنيتها المعرفية نفسها، ويؤكد إنّه “لا يوجد فصل بين الإنسان والطبيعة، أو بين الأخلاق والسياسة إلّا في فكر الدول المركزية.”

لذا؛ فإنّ تأسيس بديل حقيقي يتطلّب “ثورة في المفاهيم” تبدأ من المجتمع.

حزب العمال الكردستاني… اللحظة الكردستانية وحضارة الديمقراطية المجتمعية

حين اجتمع المؤتمر العام للحزب منذ عدّة أيام في أيار 2025 بحضور تقنيّ لأوجلان، لم يكن هدفه إعادة هيكلة تنظيمية، بل إعلان بداية عصر جديد، عصر الذاكرة الجمعية للشعوب لا المركز… ثقافة التعايش لا البندقية.

وفي ذلك نجد انعكاسًا لما يمكن وصفه بأنّ “العقل القادر على التحوّل هو وحده من يصنع التاريخ.”

فالحزب الذي بنى قوته من المقاومة يبني الآن شرعيته من الفلسفة، لم يكن ولم يعد مجرّد فاعل كردي، بل بات حاملاً لمشروع تحرّري عابر للحدود، وهنا جوهر المعادلة؛ أي” السلام ليس استسلامًا بل أرقى أشكال القوة”.

أي إعادة تعريف النصر هو الدرس الأعمق من كل هذه التجارب؛ فمن جنوب أفريقيا إلى أيرلندا إلى رواندا، ومن كردستان إلى كل المجتمعات التوّاقة للحرية، وبالتالي: مَن يجرؤون على إعادة تعريف المعركة هم مَن يصنعون المستقبل.

ليس النصر العسكري هو ما يُعلي الصوت… بل القدرة على تحويل الجراح إلى فلسفة… والخصوم إلى شركاء… والحدود إلى جسور.

وحزب العمال الكردستاني اليوم في فلسفة أوجلان لا يقاتل الماضي فقط، بل يفتح بابًا لمستقبل مختلف قد يكون أحد أجرأ محاولات اختراع عصرانية ديمقراطية بديلة عن الحدود القومية الضيّقة في القرن الحادي والعشرين، ويكون قاعدة ارتكاز لتحويل الشرق الأوسط إلى ولادة حضارة إنسانية بدلاً من أن يبقى مرهوناً للاقتتال والتناحر والتفرقة.

زر الذهاب إلى الأعلى
RocketplayRocketplay casinoCasibom GirişJojobet GirişCasibom Giriş GüncelCasibom Giriş AdresiCandySpinzDafabet AppJeetwinRedbet SverigeViggoslotsCrazyBuzzer casinoCasibomJettbetKmsauto DownloadKmspico ActivatorSweet BonanzaCrazy TimeCrazy Time AppPlinko AppSugar rush