التقارب التركي السوري ورقة انتخابية ميّتة قبل أن تولد

ما من شكّ أنّ تقارب النظامين التركي والسوري تمّ تناوله في هذه الآونة أكثر مّما يلزم على وسائل الإعلام، وحظي بقراءات واسعة لاعتبارات تتعلّق بأنّه الموضوع الأهمّ المدرَج في القائمة السورية حاليًا. وعنيت هذه القراءات بالاستدارة التركية نحو إجراء مصالحة مع سوريا، مع العلم أنّها من المفترض أن يتمّ تناولها من حيث انتهت لا من حيث بدأت الآن.

جميع التقارير الاستخباراتية والإعلامية تحدّثت عن علاقات غير مباشرة بين النظامين التركي والسوري، في السابق تجلّت تلك العلاقة في المستوى الأمني، وربّما ما يدلّل على ذلك هي تحرّكات القواعد التركية بحرّية كبيرة بالقرب من مناطق تواجد قوات الحكومة السورية دون أن تلقى أيّ ردّ فعل منها، رغم أنّ الأخيرة تعدّها قوّة احتلال صارخ. ومع الوقت أخذ هذا الطرح يبدو في الواجهة الإعلامية وليس في الخفاء، وصار أيضًا يحمل بُعدًا إستراتيجيًا إلى حدّ كبير للدولة التركية، لا سيّما أنّه تحدّدت معه معالم تموضع حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان ومستقبله السياسي في تركيا.

وإذا نظرنا إلى غير بعيد من هذا، فسلسلة الدعوات من قبل المسؤولين الأتراك تجاه إجراء مصالحة مع الحكومة السورية لم تكن يومًا لصالح المعارضة السورية، التي يدّعي أردوغان فيها دفاعه عنها وحمايته لها؛ لا بل كان حريصًا على تحقيق مصالحه الخاصة من خلالها، بالاستيلاء على الثروات السورية المختلفة من آلات المعامل السورية المسروقة ونهب الآثار في عفرين المحتلّة من جهة، وعلى تحقيق استدامة للحكومة السورية لبقائها في الحكم في أبرز مواضع ضعفه في عام /2015/ حيث شكّل له طوق نجاة من سقوطه المحتوم، بعد وصول هذه المعارضة إلى بُعد كيلو مترات من العاصمة السورية من جهة أخرى.

ومن هذا المنظور فقد سهّلت الدولة التركية عملية سيطرة الحكومة السورية على مناطق المعارضة السورية بمساندة روسية باتّفاقيات خفض التصعيد، والتي كان من شأنها إجراء تغيير ديموغرافي في مناطق سيطرة المعارضة سابقًا في العاصمة السورية دمشق والجنوب السوري بإدخال ميليشيات إيرانية، في المقابل تلقّت مدينة عفرين المحتلّة تغييرًا ديموغرافيًّا هو الأكبر على مستوى الخارطة السورية؛ وذلك من خلال توطين مرتزقة المعارضة السورية المسلّحة الذين خرجوا من العاصمة دمشق وريفها إليها. ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ بل إنّ المعارضة السورية لمّا رهنت نفسها للدولة التركية لم تحقّق أيّ تقدّم على مستوى العملية السياسية السورية محليًّا ودوليًّا، بل كانت مكروهة دومًا من قبل الشعب السوري؛ لأنّها لم تحصل – ولو لمرّة واحدة- على “بحصة لتسند الجرّة” بل وقعت لقمة سائغة في كثير من الأوقات في ظلّ تنامي دور هيئة تحرير الشام التي أُسنِد لها دور الكومبارس، لتتحرّك بإمرة الدولة التركية حين الطلب خاصة أثناء دخولها مدينة عفرين المحتلّة. رغم أنّ الدولة التركية أعلنت أنّه ليست لديها شروط مسبقة لأيّة مباحثات مع الحكومة السورية، وبإمكانها مناقشة الانسحاب الجزئي أو الكامل من الأراضي السورية فلأنّها تدرك أنّ المعارضة السورية ورقة خاسرة، ولم يعوّل عليها إذا ما قورنت بفوائد الداخل التركي على صعيد كسب رهان الانتخابات. أمّا الحكومة السورية فاشترطت على الدولة التركية انسحابها من الأراضي التي تسيطر عليها دون أن يحظى برفض الدولة التركية، بالإضافة إلى الانسحاب من طريق m4)) الذي سينعكس تأثيره على فكّ عزلة الحكومة السورية؛ ما يعني أنّ الدولة التركية ومشروعها بإنشاء منطقة آمنة بعرض /35 / كم أي إلى طريق m4)) سيُدار من قبل الحكومة السورية، وهو أمر وإن لم تباركه -لضرب مشروع الإدارة الذاتية- إلّا أنّها ترتضيه أيضًا.

ومهما يكن اتّجاه هذه المقاربات بين النظامين السوري والتركي التي تحدث – على الأقل – على المستوى الأمني حاليًّا بوساطة روسية، فإنّ الدول المعنية بالشأن السوري أبدت مواقف مخَتلفة إزاءها. فروسيا التي تدعو إلى مثل هذا الإجراء تحاول أن تمنح الدولة التركية ورقة انتخابية في شهر مايو، فيما تمارس الحكومة السورية ضغوطًا سياسية على المعارضة لعزلها عن داعمها التركي وتحقيق نصر جديد، أمّا روسيا فتحاول وبكافّة السبل أن تستأثر بحصّة الأسد من المكتسبات إن حدث هذا بالفعل. أمّا إيران فهي تؤيّد هذه المقاربات على اعتبار أنّ ذلك لو حدث سيحقّق لسوريا انفتاحًا اقتصاديًا وعسكريًا سيساهم بالتخفيف نوعًا ما من الضائقة الاقتصادية، ما يعني أنّها لن تضطرّ إلى دعم الحكومة السورية مالياً بالقدر الكافي، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ اقتصادها هي الأخرى يعاني من العقوبات المفروضة من الغرب.

في المقابل، تبدو الولايات المتحدة الأمريكية هي الوحيدة من الدول الرافضة لهذه المقاربات بين الدولة التركية والحكومة السورية بأيّ شكل من الأشكال، بل هي ترفض أيّ دور للحكومة السورية في التطبيع مع محيطها الإقليمي أو العربي. ويعود المنطق الأمريكي لهذا الرافض هو أنّ النظام السوري لا يزال غير مؤهّل بعدُ لقبوله واندماجه مع محيطه، خاصة وأنّه مسؤول عن كثير من المجازر الدموية لشعبه فضلًا عن تهجير نصف شعبه إلى داخل وخارج سوريا. وإذا كان لابدّ من قبوله بالتطبيع – كما يريد- فسيتعيّن عليه البدء بإجراء حوار سوري شامل مع كلّ أطياف الشعب السوري وفق بنود اتفاقية جنيف، وهو أمر لم ولن يحدث طالما أنّه بهذه العقلية الشوفينية.

ولعلّ السؤال المطروح، لو افترضنا جدلًا بأنّ هذه المقاربات وبخلاف ما هي عليه الآن من لقاءات لم ترتقِ إلى هذا البُعد حتى الآن، أنتجت اجتماعًا على مستوى رؤساء الدولة التركية والحكومة السورية، فما مستقبل العلاقة بينهما؟

يواجه أردوغان تحالفًا قويًّا يهدف بشكل رئيسي إلى قطع طريق الرئاسة عليه، وهو ما أطلق عليه “تحالف الستة” الذي تأسّس في فبراير/ شباط / 2022/ ويضمّ ستّة أحزاب ليست جميعها علمانية أو قومية فقط، بل يضم أحزابًا محافظة كذلك. وأعلنت المعارضة التركية نيّتها تعديل الدستور، والعودة إلى النظام البرلماني في حال الفوز بالانتخابات، كما تعّهدت بالرجوع إلى مسار تركيا العلماني، وطرح موضوع إعادة اللاجئين السوريين في البلاد؛ ما يعني أنّ الانتخابات ستحدّد مستقبل السياسة التركية برمّتها، وليس مستقبل قيادات البلاد فقط. وعليه يحاول أردوغان إنهاء كلّ الملفّات الشائكة التي تعيق إعادة انتخابه من جديد. في المقابل تشترط الحكومة السورية قبول التقاربات على مستوىً أعلى إذا وفَت الدولة التركية بالتزاماتها بالانسحاب من الأراضي السورية وإعادة اللاجئين وإنهاء دعمها للفصائل التي تسمّيها دمشق بالإرهابيين، وفتح طريق m4 بين حلب واللاذقية، وتسليم المطلوبين من المعارضة أيضًا.

إنّ الحكومة السورية تدرك تحرّكات أردوغان جيّدًا ولن تغامر في الارتماء بالحضن التركي لولا ضغوط موسكو وطهران، ناهيك عن كونها مساعٍ تُرسَم في الوقت الضائع في ظلّ عدم اكتراث الحكومة السورية بها حاليًا رغم أنّ جميع مؤشّرات التقارب تدلّ على أنّه ميّت قبل أن يحدث على مستوىً دبلوماسي كبير، لكن إن حدث فإنّه سيكون بعد انتهاء الانتخابات التركية وسط تكهّنات بوصول المعارضة التركية لسدّة الحكم، ما يعني خيارًا أفضل للتقارب بالنسبة للحكومة السورية.

زر الذهاب إلى الأعلى