الهدف التركي من إعادة هيكلة  الشمال السوري

 

تتسارع الأحداث في سوريا على الصعد المختلفة بما يوحي بوجود تغييرات سياسية قادمة قد ترسم ملامح جديدة للأزمة السورية وتحدد مصير سوريا كدولة  , فبنظرة شاملة إلى الأوضاع والتطورات الجارية يكاد يبدو المشهد السوري وقد بات أكثر وضوحاً, خاصة إذا ما تابعنا الخطوات المتسارعة مؤخراً في الشمال السوري  سنلاحظ وكأن تركيا تستدرك شيئا قد فاتها  أو تستشعر تغييرات أو تعلم بوجود مخطط دولي جديد في سوريا وتسعى إلى استغلال كل ثانية من وقتها لتحقيق او لفرض أطماعها في سوريا  وتتحضر للمرحلة القادمة ,  ولكي ندرك حقيقة التحركات التركية مؤخرا في المناطق المحتلة, من فرض اللغة التركية والتعامل بالليرة التركية وتغيير اسماء القرى والمدن والبلدات بأسماء تركية  إلى جانب إعلانها عن تعيين حاكم مدني لكل المناطق المحتلة علينا توضيح بعض التطورات الجارية في الساحة السورية عامة والقراءة التركية لهذه التطورات , فالجنوب السوري وخاصة محافظة السويداء تشهد منذ ما يقارب الأسبوعين حراكا شعبيا واسعا ومظاهرات تدعو بوضوح إلى إسقاط نظام الأسد مما بعث بدماء جديدة في شرايين الشعب السوري الطامح للخروج من أزمة كانت بداياتها ثورة وتحولت بعد صعود الإسلام السياسي  والتدخلات الخارجية  إلى مشاريع للقوى الإقليمية والدولية ومن ضمنها المشاريع التركية الإخوانية وطموح إعادة السلطنة والخلافة العثمانية ,بحيث تم تقاسم المعارضين السوريين من قبل القوى المختلفة , فتركيا احتضنت ما سميت بالمعارضة السورية وأعادت تكريرها لتتناسب ومشروعها العثماني الإخواني بحيث تسيد السلفيون والاخوان قيادة المنصات السياسية والعسكرية وإزاحة القوى الديمقراطية أو العلمانية من الواجهة لتتمحور المعارضة حول ما سمي بالائتلاف الوطني السوري كواجهة سياسية والجيش الوطني المتشكل من عشرات الفصائل الإسلامية كواجهة عسكرية و تحول أهدافها من إسقاط النظام إلى معاداة الشعب الكردي و الأقليات والطوائف غير السنية,  وتحولهم إلى مرتزقة لدى تركيا للقتال ضد الكرد وتدمير التجربة الديمقراطية في غرب كردستان (شمال شرق سوريا ) وتتريك كل الشمال والشمال الشرقي من سوريا تحقيقا لمشروع تركيا في تطبيق الميثاق الملي القاضي باحتلال كل الشمال والشمال الشرقي من  سوريا وصولا إلى الموصل وكركوك في العراق وجنوب كردستان , الحراك الجديد الذي ظهر في السويداء ومن خلال متابعة شعاراتها تشير إلى الرغبة المتولدة عند الأقليات القومية والطوائف الدينية غير السنية في سوريا جديدة لا مركزية بعد أن بات من الصعب جدا زرع الثقة فيهم سواء بالمعارضة الإخوانية السلفية التركية أو بنظام مركزي تسبب في تدمير الشعب السوري عامة , وتتناغم هذه الرغبة المتولدة لديهم في اللامركزية مع المشروع الديمقراطي في شمال شرق سوريا الذ ي أثبت من  خلال نشاطه في سنوات الأزمة السورية  على أنه المشروع الأنسب لسوريا المستقبل والأكثر قابلية للحياة والتطبيق الفعلي على أرض الواقع , ومن خلال رفض الحراك في السويداء للمعارضة الإخوانية المدعومة تركيا فإنها تشير إلى حقيقة انكشاف هذه المعارضة على حقيقتها العنصرية وحقيقة أيديولوجيتهم التي تلغي أي مختلف معها سواء عرقياً أو دينياً أو مذهبياً أو فكرياً وفشلها في تسويق نفسها كمعارضة وطنية بعد أن أثبتت السنوات الماضية من خلال احتلالهم لعفرين وسري كاني وكري سبي و جرابلس والباب  وغيرها من المناطق  وممارساتهم اليومية ضد الشعب الكردي والمكونات في مناطق سيطرتهم وقيامهم بالنهب والسلب وفرض الأتاوات والتغيير الديمغرافي الممنهج على أنهم ليسوا سوى إنكشارية للسلطان التركي أردوغان في تحقيق ميثاقه الملي الاستعماري  ولذلك قد يؤدي استمرار الحراك الجديد إلى جانب وجود المشروع الديمقراطي في شمال شرق سوريا إلى تبلور معارضة وطنية حقيقية تكون المسمار الأخير في نعش الإخوان ومرتزقة تركيا وفقدانهم لأي دور في رسم مستقبل سوريا . وإذا ما قرأنا الحراك الشعبي في السويداء من وجهة نظر المؤامرة أو التخطيط المسبق لها فلا نستبعد وجود رغبة لدى النظام  نفسه في تهيئة الأرضية لفرض إدارة ذاتية في الساحل السوري  عبر الحراك في السويداء ومطالبهم باللامركزية الى وجانب وجود الإدارة الذاتية أيضا التي تتفاوض مع النظام دائما على اللامركزية ولاستشعاره بان سوريا لن تعود إلى ما كان عليه الوضع السّابق.

التحركات الامريكية تتزايد

ومن التطورات في الساحة السورية أيضا تزايد الحراك الأمريكي العسكري والسياسي في سوريا  فزيارة وزير الدفاع الأمريكي السابق كريستوفر ميلر في 20, 8, 2023  الى مناطق الإدارة الذاتية ولقائه مع القيادات العسكرية والمدنية  والدعوة من هناك الى دعم الإدارة المدنية وقوات سوريا الديمقراطية ضمانة القضاء على الإرهاب  في الوقت الذي كان فيه وفد أمريكي آخر بقيادة  الجنرال مايكل إيريك كوريلا في 23-8-2023 يزور شمال شرق سوريا وأكد خلالها على أنه  التقى بـ”قسد” وناقش الحملة ضد داعش وجهود المساعدة الإنسانية في المنطقة علما أن هذه الزيارات وفي هذه الفترة من تزايد الاتهامات الروسية والأمريكية المتبادلة حول المضايقات والتحرشات بين قواتهما ووجود تحشيدات عسكرية في مناطق دير الزور من قبل التحالف الدولي من جهة ومن قبل إيران وحلفائها إلى جانب زيارة أمريكية أخرى خلال هذه الفترة من قبل أعضاء من الكونغرس الأمريكي الى شمال سوريا عبر تركيا وأنباء عن لقاءات أمريكية تركية حول التطورات في المنطقة وسوريا والحرب الأوكرانية كل هذا لا يمكن اعتبارها مجرد زيارات روتينية لتفقد مسائل روتينية وانما مؤشر على تزايد الاهتمام الأمريكي بالمنطقة وبوادر تبلور رؤية أمريكية حول الشرق الأوسط وسوريا وفي  4-3-2023   قال رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال مارك ميلي بعد زيارة لشمال شرق سوريا إن نشر قواتهم في سوريا لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) لا يزال يستحق المخاطرة، ,وبعد الاجتماع الرباعي بين موسكو وطهران ودمشق وأنقرة  في موسكو في  10-3-2023 وتبلور رؤية مشتركة بين هذه العواصم حول ضرورة إخراج القوات الامريكية من سوريا و كان الرد الأمريكي بأرسال المزيد من الدعم العسكري لشمال شرق سوريا وتعزيز قواعدها هناك الى جانب أن الولايات المتحدة  اعلنت أنها أرسلت غواصة تعمل بالطاقة النووية ومزودة بصواريخ، إلى الشرق الأوسط، لتعزز أسطولها البحري في المنطقة، وذلك وسط زيادة التوترات مع إيران. بحسب  صحيفة الشرق الأوسط التي نشرت الخبر في 8-4-2023

وقالت قيادة القوات المركزية البحرية الأميركية المتمركزة في البحرين، إن الغواصة «يو إس إس فلوريدا» القادرة على حمل ما يصل إلى 154 صاروخ «توماهوك» هجوميا بريا، عبرت قناة السويس من البحر الأبيض المتوسط، وستعمل مع الأسطول الخامس لضمان الأمن البحري والاستقرار في المنطقة، بحسب وكالة بلومبرغ للأنباء. حيث أن هذه التعزيزات في جانب مهم منها كانت ردا على المساعي الروسية  في قيادة تحالف معادي لأمريكا في سوريا  وعزز الرأي القائل بعدم وجود انسحاب أمريكي قريب الأجل من المنطقة  وإنما هناك ترسيخ لتواجدها لأهمية الشرق الأوسط كمصدر للطاقة ومن الصعب التخلي الأمريكي عنها . لذلك فإن المؤشرات تدل على ان أمريكا ترتب الأوراق من جديد في المنطقة ومنها ترتيب المواقف بينها وبين تركيا وفقا للاستراتيجية الامريكية لا الرغبات التركية واحتمالية دفعها للابتعاد عن موسكو  مع دعم مواقفها في الشمال السوري في مسالة إعادة اللاجئين الى المناطق التي احتلتها ويبدو ان التحركات التركية الأخيرة في الشمال السوري من خلال تعيين حاكم لكل المناطق المحتلة وإعادة هيكلة ما يسمى بالجيش الوطني والإشراف التركي المباشر على تلك المناطق  هي من ضمن تفاهمات أمريكية تركية .

سوريا نحو التقسيم الداخلي وتثبيت مناطق النفوذ

القوات الدولية والإقليمية التي تدخلت في الأزمة السورية –كلُّ وفقا لأجنداته ومصالحه الاستراتيجة –  ونتيجة لتباين هذه المصالح فقد قسمت سوريا عمليا وفقا لأجندات هذه الدول واعتمادا على القوى السورية المحلية التي وجدت بدورها بان لهم توافقات مع تلك الدول بحسب غاياتهم واهدافهم في سوريا , فما سميت بالمعارضة السورية والتي احتضنتها تركيا كان الهدف المشترك بينهم وبين تركيا إسقاط النظام وبناء دولة إخوانية سنية في سوريا , ونتيجة لفشل تركيا في إسقاط النظام وخشيتها من صعود القومية الكردية تحولت هدفها وهدف معارضتها السورية إلى محاربة الكرد واحتلال مناطقهم الشمالية والشمالية الشرقية وبعمليات الغزو التركية  في سوريا في 2016 و 2018 و2019   استطاعت هذه المعارضة التركوسورية من احتلال مناطق واسعة من الشمال السوري والتي أغلبها مناطق كردية ولأهداف تركية بدأت تتكشف حقيقتها الاستعمارية من خلال السعي التركي إلى إعادة هيكلة تلك المناطق عسكريا وإداريا وثقافيا بما يضمن لها وإن لم تستطع اقتطاعها فإلحاقها فكريا وثقافيا وتوجهاً ونفوذاً بتركيا من خلال تحويلها إلى منطقة شبيهة بالإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا .

إن قوات سوريا الديمقراطية التي تشكلت في 2015 كقوة عسكرية وطنية موحدة لكل السوريين تجمع العرب والكرد والسريان وكافة المكونات الأخرى”. من تحالف قوات كردية (وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة والتحالف العربي السوري وجيش الثوار وغرفة عمليات بركان الفرات وقوات الصناديد وتجمّع ألوية الجزيرة والمجلس العسكري السرياني وجدت توافقها والتقاء أهدافها مع التحالف الدولي لمحاربة داعش وخاصة بعد معارك كوباني 2014  وسعي الطرفين لإنهاء داعش من المنطقة , حيث استطاعت تحرير مساحات شاسعة ضمت محافظات الحسكة والرقة ودير الزور وأجزاء من حلب لتقيم عليها الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا وفقا لعقد اجتماعي تضمن حقوق كافة مكونات المنطقة والتي باتت اليوم أمرا واقعاً يحظى بدعم كبير من المجتمع الدولي رغم المعارضة التركية ,وستكون منطقة للنفوذ الأمريكي والغربي 

وإلى جانب  هاتين المنطقتين فأغلب الظن هناك تفاهمات روسية أمريكية حول سوريا قد تفضي إلى تشكل إدارات جديدة ومنها الإدارة الذاتية في الجنوب السوري (السويداء) تحديدا كمكون درزي بات يجد نفسه وسط محيط سني متشدد لا يتقبل الاخرين وقد تكون من ضمن مشروع أمريكي يوحد بينها ومنطقة التنف وصولاً إلى مناطق الإدارة الذاتية , إلى جانب تشكل إدارة ذاتية في الساحل السوري  حماية للمكون العلوي الذي وبحكم أن النظام الحالي يحمل صبغتهم فإنهم أكثر الطوائف عرضة للتشدد السني وخاصة من الإسلام السياسي الراديكالي كالإخوان المسلمين, وتكون منطقة للنفوذ الروسي الطويل الأجل ,  وبقاء دمشق كعاصمة للدولة السورية اللامركزية  ويتبعها ما تبقى من المناطق السورية .والتي ستكون مناطق للنفوذ الإيراني 

لذلك وعندما ذكرنا أن التحركات التركية المتسارعة في الشمال السوري وتسارعه في تحقيق التغيير الديمغرافي وإلغاء أية صبغة كردية على تلك المناطق  وتتريك كل شيء في تلك المناطق  فإنما هو احتساب للمستقبل التقسيمي لسوريا وفرض إقليم تابع له على الشمال السوري .

زر الذهاب إلى الأعلى