مبادرة الوساطة العراقية بين النظامين “السوريّ والتركيّ” وعلاقتها بالتوغّل التركي في إقليم كردستان… الأهداف وآفاق النجاح

المقدّمة:

المبادرة العراقية للتقارب بين النظامين التركي والسوري تأتي في ظروف إقليمية ودولية معقّدة؛ حيث تسعى بغداد إلى لعب دور الوسيط بين دولتين جارتين لطالما شهدت علاقاتهما صراعات مستمرّة، وخاصة في السنوات الأخيرة، ولكي نفهم طبيعة العلاقة بين الطرفين السوريّ والتركيّ يجب أن نقوم بدراسة السياق التاريخي للعلاقة بينهما والتحدّيات المحتمَلة لهذه الوساطة.

 – السياق التاريخي للعلاقة بين سوريا وتركيا:

العلاقات بين سوريا وتركيا علاقات تاريخية وإن كانت بين مدّ وجزر، وشهدت تحوّلات كبيرة منذ عقود، ويمكن تقسيم هذه العلاقات إلى عدّة مراحل:

1 – مرحلة ما قبل الاستقلال:

في هذه المرحلة كانت سوريا جزءًا من الدولة العثمانية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.

2 – مرحلة الانتداب الفرنسيّ وتأسيس الجمهورية:

في هذه المرحلة خضعت سوريا للانتداب الفرنسي، وبالمقابل تأسّست الجمهورية التركية بقيادة أتاتورك.

3 – مرحلة الحرب الباردة:

في هذه المرحلة شهدت العلاقات السورية – التركية توتّرًا بسبب الاختلافات الإيديولوجية والسياسية؛ حيث كانت سوريا تميل إلى المعسكر السوفييتي، بينما كانت تركيا حليفة لأمريكا وحلف الناتو.

4 – مرحلة ما بعد الحرب الباردة:

شهدت هذه الفترة تحسّنًا نسبيًا في العلاقات بين البلدين، خصوصًا بعد تسلّم الأسد الابن الحكم في سوريا، إلّا أنّ العلاقات تدهورت مجدّدا مع بداية الأزمة السورية في عام 2011م.

تداعيات الأزمة السورية على العلاقات السورية – التركية:

منذ اندلاع الأزمة السورية تدهورت العلاقات بين دمشق وأنقرة بشكل كبير، خاصة بعد تدخّل تركيا في الشأن السوريّ واستقطاب مجموعات إرهابية من شتّى بقاع العالم ومساعدتها للدخول إلى الأراضي السورية، إلى جانب دعم ما تُسمّى بالمعارضة المسلّحة ضدّ نظام الرئيس السوريّ بشار الأسد؛ ما أدّى إلى توتّر العلاقات وتصعيد الصراع، كما تسبّبت التدخّلات العسكرية التركية في شمال سوريا في تفاقم الأزمة السورية.

دوافع المبادرة العراقية:

المبادرة العراقية تنطلق من عدّة دوافع استراتيجية، بعضها علنيّ ومعظمها سرّي:

الدوافع العلنية للمبادرة:

يعتقد العراق أنّ تعزيز الأمن الإقليميّ واستقرار سوريا وتركيا سيؤثّر إيجابيًا على أمنها الداخليّ، خاصّة في ظلّ التهديدات الأمنية المشترَكة التي تواجهها الدول الثلاث -حسب زعمها- وقد يفتح الباب أمام تعاون اقتصاديّ إقليميّ؛ ما سيسهم في انتعاش الاقتصاد العراقيّ وتحقيق التنمية المستدامة.

محاور المبادرة العراقية:

ترتكز المبادرة العراقية على عدّة محاور رئيسية تهدف إلى تحقيق المصالحة بين سوريا وتركيا، من خلال تشجيع الطرفين السوريّ والتركيّ على الدخول في حوار سياسيّ شامل ومباشر يساعد على حلّ القضايا العالقة، ووضع خارطة طريق للسلام ومنع أي تصعيد عسكريّ جديد، مع تعزيز التعاون الأمنيّ على الحدود المشتركة.

التحدّيات المحتمَلة:

تواجه المبادرة عدّة تحدّيات قد تعيق تحقيق أهدافها؛ مثل فقدان الثقة المتبادَلة بين الطرفَين السوريّ والتركيّ، فالتراكمات في الماضي والخلافات العميقة بين سوريا وتركيا حول عدّة قضايا، خاصة خلال الأزمة السورية، قد تعيق جهود الوساطة العراقية وتحدّ من فعالية الحوار.

كما أنّ التدخّلات الخارجية والأجندات السياسية لبعض الدول الإقليمية مثل إيران، والدول الكبرى مثل أمريكا، قد تؤثّر سلبا على جهود الصلح وتزيد من تعقيد الأوضاع.

 وفي الوقت نفسه فإنّ التنظيمات المسلّحة السورية متعدّدة الولاءات، سواء في الطرف التركي أو داخل سوريا، قد تعقّد الوضع وتعرقل أيّ اتفاق سلام بين الطرفين.

الدوافع السرّية للمبادرة:

في 22 أبريل/نيسان، قام أردوغان بزيارة بغداد، وهذه الزيارة جاءت في ظلّ تقارب استراتيجي بين تركيا والعراق بعد سلسلة من الاجتماعات الهامة التي تمّت بمشاركة وزراء الخارجية والدفاع والداخلية ورؤساء الأجهزة الأمنية من الطرفين.

ولكن ماهي الأسباب (الكارثية) التي تدعو أردوغان للاندفاع نحو الأسد؟

هناك ثلاثة أسباب تدفع أردوغان لاستجداء الأسد:

السبب الأوّل داخليّ يتعلّق بملايين اللاجئين السوريين الذين باتوا يؤرّقون أردوغان والمتحالفين معه وهو على أبواب الانتخابات الرئاسية عام 2028م.

والسبب الثاني خارجي يتعلّق بالضغط الروسي من أجل إخلاء الأراضي السورية، وخاصة مناطق إدلب وعفرين والطريق الدولي (M4)، بالإضافة إلى تسوية وضع الميليشيات والقوّات التابعة للحكومة السورية المؤقّتة.

والسبب الثالث وهو من بنات أفكار أردوغان؛ حيث يزعم أنّ الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا في طريقها إلى الانفصال، ولهذا سوف يطلب التعاون من الحكومة السورية للقضاء على الإدارة الذاتية في مهدها.

زيارة أردوغان إلى بغداد حملت مجموعة من الدلالات، وأهمّها أنّ أردوغان في ظلّ غياب وتراجع شعبيته في تركيا يريد تحقيق إنجازات خارجية تعزّز من سلطته وسطوته وشعبيته في الداخل، ولن يجد حلّاً لأزماته (حسب ما يعتقد) إلّا بمحاربة حزب العمال الكردستاني والتآمر على جنوب كردستان وعلى الإدارة الذاتية وقسد في شمال وشرق سوريا.

المبادرة العراقية في جوهرها هي رغبة تركية بالدرجة الأولى وعراقية بالدرجة الثانية، وتهدف إلى إحداث تحالف بين سوريا وتركيا، بمشاركة العراق وبضوء أخضر من إيران؛ لضرب حزب العمال الكردستاني وجنوب كردستان والإدارة الذاتية الديمقراطية وقسد في شمال وشرق سوريا معًا.

 ويُعتبَر محمد شيّاع السوداني رئيس وزراء العراق عرّاب المبادرة، وهو أيضا يعمل على تعزيز مكانته السياسية في بغداد، كما يسعى لتعزيز مكانته الإقليمية والدولية واستعادة دور العراق من خلال لعب دور الوساطة؛ وهو ما يمكن أن يجلب له دعمًا سياسيًا واقتصاديًا من المجتمع الدولي للترشّح للانتخابات العراقية القادمة، ويتّفق السوداني مع أردوغان في عداوته للكرد ولكن وفق مبدأ “التقية”.

وعملية سحب السوداني للحقوق والامتيازات من حكومة إقليم جنوب كردستان لصالح الحكومة المركزية العراقية، ومن ثم الصمت المريب والمتخاذل للعراق تجاه الهجوم والغزو التركي الواسع الحالي على أراضي جنوب كردستان، تشكّل جزءًا من النتائج السرّية للتفاهمات بين أردوغان والسوداني خلال الاجتماع الأخير بين الطرفين، كما تدلّ على تواطؤ النظام العراقي مع تركيا.

موقف النظام السوريّ من المبادرة العراقية:

أعتقد أن أولى أولويات النظام السوريّ من اللقاء المرتقَب بين الطرفين السوريّ والتركيّ إنّما هو الانسحاب التركيّ الفوريّ من الأراضي السورية، وتسليم الجماعات الإرهابية إلى العدالة السورية، أو وضع جدول زمني لانسحاب القوّات التركية من الأراضي السورية على مراحل؛ وذلك بضمانة روسية، وهذا هو السيناريو المحتمَل.

وكان الرئيس السوريّ قد صرّح (بتاريخ 15 / 7 / 2024) أثناء الإدلاء بصوته في انتخابات الدور التشريعي الرابع في أحد المراكز الانتخابية بدمشق: ” نحن ايجابيون تجاه أي مبادرة لتحسين العلاقة مع تركيا، وهذا هو الشيء الطبيعي، لا أحد يفكّر بأن يخلق مشاكل مع جيرانه، ولكن هذا لا يعني أن نذهب من دون قواعد…. والمرجعية هي إنهاء أسباب المشكلة التي تتمثّل في دعم الإرهاب وانسحابها من الأراضي السورية “.

والأمر الواضح في هذا التصريح هو أنّ الأسد قد خفّف قليلا من لهجته، ولكنّه لن يتنازل عن حقّ الانسحاب.

وفي النهاية يجب أن نذكّر أنّ هدف روسيا من المصالحة بين تركيا وسوريا إنّما هو تحقيق التوازن ضد أمريكا، وتعزيز موقفها الجيوسياسي في الشرق الأوسط، وهناك احتمال أن تستضيف روسيا لقاء أردوغان والأسد.

موقف الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا من المصالحة بين تركيا وسوريا:

تعتقد الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا أنّ أي تقارب بين سوريا وتركيا سيكون على حساب الشعب السوريّ بشكل عام، وعلى حساب مكوّنات شمال وشرق سوريا بشكل خاص. ومن جانبهم صرّح مسؤولون كبار في الخارجية الأمريكية بأنّهم ضدّ التطبيع مع دمشق، وأنّهم ملتزمون بمسار جنيف / 2254/.

زر الذهاب إلى الأعلى