الكرد ليسوا حالة طارئة أو مؤقّتة في الشرق الأوسط

لم يعد خافياً على أحد أنّ العالم بأسره أصبح يعيش حرباً شعواء وعبثية، وتُعتبَر نواة للحرب العالمية الثالثة إذا لم نقل إنّها بالفعل حرب عالمية ثالثة، إنّ ربط الحروب القائمة حالياً ببعضها إذا ما اعتبرنا نهوض الشعوب في الشمال الأفريقي والشرق الأوسط نقطة بدء في الحراك المباشر لتغيير الأنظمة الدكتاتورية التي وصلت لسدّة الحكم في بلادها بطريقة عسكرية أو بأخرى مشابهة، يوصلنا بكلّ تأكيد إلى هذه النتيجة الحتمية؛ لقد أصبح معلوماً للجميع وخاصةً للمهتمّين والمختصّين في المجال السياسي كيفية تحريك وتحوير الحراك الشعبي في تلك البلدان لخدمة الأجندات العالمية واصطفافها في محاور القوى المهيمنة على القرار السياسي العالمي، ومع بداية الألفية الجديدة وبزوغ شمس أقطاب أخرى على الساحة الدولية العالمية مثل “الدبّ الروسي” وتطوّره في المجال العسكري، و”التنين الصيني” وسيطرته ومنافسته للولايات المتحدة الأمريكية في المجال الاقتصادي الذي قفز فيه أشواطاً نوعية وانتقاله من المركز العاشر إلى المركز الثاني خلال عقدين فقط، تنبّه الشارع الأمريكي إلى أنّه يُعتبر الخطر الأول على أمريكا والأمريكيين، وتكاثرت حركات التمرّد على سياسات الشرطي المحافظ على الأمن العالمي وأصبح يتنبّه أكثر فأكثر إلى المخاطر التي تواجه سياساته الخارجية في انذار للعودة باستراتيجياته وتحالفاته وإعادة ضبط عام لها، وربّما يُعتبر الانسحاب الأمريكي الأخير من أفغانستان من أكبر الأخطاء الاستراتيجية في المنطقة، والتي سيتبيّن آثاره خلال الأحداث التي مازالت مستمرّة وتُعاش في المنطقة.

سوريا كجزء من الشرق الأوسط ونقطة ارتكاز مهمّة:

بكل تأكيد إن سوريا ما بعد الخامس عشر من آذار 2011م لم ولن تعود كما كانت قبل هذا التاريخ، فعدا عن التمزّق الحاصل في الجغرافية الحالية لها، حدث مع كل أسف شرخ اجتماعي ما بين مكوّناتها ومناطقها القائمة، وكل ذلك بسبب التدخّلات الإقليمية والدولية في الأزمة السورية، والتي سيكون حلّها أولاً وأخيراً سورياً – سورياً؛ فخلال ثلاثة عشر عاماً الماضية ثبتت استحالة الحل العسكري بقضاء طرف على آخر، وعليه فانّ نقطة البدء المتّفق عليها حالياً هو القرار الأممي /2254/ بضرورة الحلّ السياسي والانتقال السلمي للسلطة، والمشاركة الفعّالة لجميع الأطراف في وضع حلّ مناسب لجميع السوريين، بطبيعة الحال وبما أنّ سوريا جزء لا يتجزّأ جغرافياً من منطقة الشرق الأوسط فإنّها تؤثّر وتتأثّر بكل ما يجري حولها من حروب وأزمات، وبطبيعة الحال فالصراع الإسرائيلي – الفلسطيني من أبرز القضايا التي تشغل بال الجميع، وبما أنّ العرب قد تبنّوها على أنّها قضيتهم الأولى، وبالتالي فإنّ ما يجري في المنطقة منذ السابع من أكتوبر /تشرين أول/ من العالم المنصرم قد ألقى بظلاله وطغى على جميع الأزمات الدائرة في المنطقة لا بل وأثّرت فيها بشكل مباشر، وتم تعليق الكثير من هذه الأزمات وكأنّها أزمات ثانوية، وأنّ حلّها مرتبط أساساً بإنهاء هذا الصراع.

القضيّة الكردية قضيّة أساسية في الشرق الأوسط وعلى الجميع فهم ذلك:

ما يجب فهمه وإفهامه للجميع هو أنّ القضية الكردية في المنطقة هي قضية أرض وشعب، قضية تاريخ وجغرافيا، قضية ثقافة ولغة، من الأهمية بمكان معرفة هذه الحقائق والارتكاز عليها لأيّ مشروع حلّ لهذه القضية وباقي القضايا المتعلّقة بها أو على صلة مباشرة أو غير مباشرة، نعم إنّ اللوبي الإسرائيلي أو اليهودي العالمي يتحكّم في زمام الكثير من القضايا العالمية الراهنة وربّما تاريخياً أيضاً كان متحكّمًا بها، ولكن ولحلّ المشاكل العالقة في الشرق الأوسط بالتحديد يجب أن يكون حلّ القضية الكردية حلًّا ندّيًّا للقضية الفلسطينية والعكس صحيح، فلا توجد قضايا أساسية وأخرى ثانوية أو فرعية، لابدّ للدول المحتلّة لكردستان والقوى المتحكّمة في العالم حالياً فهم هذه المعادلة أولاً، فمثلاً الولايات المتحدة الأمريكية بوجودها الحالي على الأراضي السورية كـ”رأس حربة” في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام أو ما يُعرف اختصاراً بـ (داعش)، لا بدّ أنّ لها دورها المحوري في الحفاظ على التوازن والاستقرار في المنطقة، ولكن في المقابل عليها تعزيز الدعم للشركاء المحلّيين -حسب مصطلحاتهم الدبلوماسية- والمقصود بهم هنا الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا، وذلك بالاعتراف الرسمي بالدبلوماسية الخارجية لها وتعزيز الدور التنموي والاقتصادي واستثناء المناطق الخاضعة لها جغرافياً من العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية، والضغط على الشريك في حلف الشمال الأطلسي الجار التركي بعدم العبث بأمن واستقرار المنطقة ومن جميع النواحي؛ فكما هو معلوم للجميع إنّ أخطر التهديدات على شمال وشرق سوريا ينبع من القرارات التي تُتّخذ في أنقرة، والأمثلة الحيّة عليها ما جرى من اجتياح تركي مباشر في 2016م تحت مسمّى “درع الفرات” لمدينة “الباب” السورية وما يتبعها من أرياف، و2018م وتحت مسمّى “غصن الزيتون” واحتلال عفرين ونواحيها، و2019م أيضاً تحت مسمّى “نبع السلام” واحتلال مدينتَي سري كانيه (رأس العين) و كري سبي (تل أبيض)، أمّا في الآونة الاخيرة فقد اتبع الجار والمحتلّ التركي سياسة ضرب البنى التحتية الحيّة ومحطّات توليد الطاقة الأحفورية بشقّيه النفط والغاز، ومحطّات توليد الطاقة الكهربائية، وذلك في مسعى منها للتضييق على الإدارة الذاتية في تقديم الخدمات لمواطنيها، وبالتالي تأليب الشارع على إدارته.

الحلّ السوري سيبدأ عند ضبط الساعات على توقيت قامشلو:

مع بدء الحراك السياسي في سوريا عام 2011م كان الكرد من أوائل المنخرطين فيه بشكل أو بآخر، ومع تسارع الأحداث وعسكرة الثورة والانشقاقات في صفوف الجيش النظامي تنبّه الكرد إلى أنّ الثورة أو الأزمة السورية ربّما ستطول وعليه تم التجهيز لما هو أسوأ، وبالفعل فقد بدؤوا بتشكيل القوة العسكرية كخطوة أولى وذلك للمعرفة التامة بأنّه في العالم عموماً والشرق الأوسط خصوصاً لا مكان للضعفاء، وأنّ أساس أي تفاوض أو مساومة أو حلّ سياسي يبدأ من معرفة حجم قوّتك على الأرض، ما تم بالفعل في البدايات وخاصةً بعد سيطرة حركة الاخوان المسلمين السورية على المفاصل السياسية للمعارضة السورية أنّه قد تم تشكيل الهيئات واللجان على عجل، وبحسب الهوى الإسلامي المدعوم تركياً وقطرياً ورؤوس وقيادات الإخوان المسلمين العالمية، ومع وصول مسار جنيف الأممي برعاية الأمم المتحدة إلى طريق شبه مسدود خلق التيار المقابل برعاية روسية مساراً جديداً للحلّ وهو مسار أستانا، والذي توضّحت ملامحه مع انعقاد أولى جلساته بحضور إيراني – تركي وإهمال للجانب السوري بشقّيه الموالي والمعارض، ولتبدأ رحلة السوريين مع المساومات والبازارات السياسية التي تُدار على رأسه هنا وهناك، في غضون كلّ ذلك ومع إهمال الجانب الكردي في كل ما سبق فقد بدا أنّ أيّ حلّ سوري – سوري بدون حضور ممثلين حقيقيين عن المكوّن الكردي أو مكوّنات شمال وشرق سوريا سيبقى منقوصاً وبدون أيّة فائدة، ولذلك لم يكن لأيّ مسار أو منصّة أن يُكتب لها النجاح بدون وجود تلك الأطراف؛ ولذلك فإنّ أيّ حلّ بكل تأكيد لابدّ من أن يتم ضبطه على توقيت دمشق – قامشلو، والجميع متّفق على ذلك؛ أي وجود الحلّ يجب أن ان يكون في دمشق ولكن على أسس ديمقراطية وبعيدة عن التزمّت الأيديولوجي والتعصّب القومي واحترام حقوق وخصوصيات جميع المكوّنات والأعراق والأديان في عموم سوريا.

دور القوى الفاعلة على الأرض السورية:

ليس خافياً على أحد أنّ الساحة السورية من ضمن باقي ساحات الشرق الأوسط أصبحت ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، وأنّ الجيوش الموجودة حالياً على الأراضي السورية لا تقلّ عن أربعة جيوش نظامية تابعة لدول بعينها، إضافة إلى العشرات من الميليشيات التي تتبع لتلك الأجندات بشكل مباشر أو غير مباشر، وربّما هناك اتفاق ضمني متّفق عليه ولو بشكل غير رسمي على أنّ الحلّ العسكري لن يكون الحلّ النهائي لطرف على حساب الطرف الآخر، وبذلك تكون الإطالة في عدم وجود الحلّ ما هو إلا استنزاف للقوى البشرية والموارد الطبيعية وهدر للبنية التحتية للجميع.

الولايات المتحدة الأمريكية:

الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى وأول الداخلين لسوريا بشكل رسمي تحت مسمّى قيادة التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب في معركة كوباني /عين العرب/ مع نهاية عام 2014م وبداية 2015م، هذه المعركة التي كانت بمثابة نقطة تحوّل في التاريخ الكردي الحديث ودفعة قوية لتنبيه العالم إلى القضية الكردية كقضية مركزية موازية وندّية للقضية الفلسطينية في حلّ مشاكل الشرق الأوسط، بعد تلك التضحيات والقرابين الجِسام بدأ الجسر الدبلوماسي والعسكري والاحتكاك والتواصل المباشر بين القوى الكردية والعالمية وخاصةً الأمريكية والفرنسية، وبالفعل فقد نشطت تلك العلاقات على قدر رفيع المستوى؛ وتمثّل ذلك بالتواصل عبر زيارات مباشرة ما بين قائد القوات الأمريكية للشرق الأوسط وقيادات وحدات حماية الشعب آنذاك ولتتطوّر إلى إنشاء قواعد عسكرية أمريكية في شمال وشرق سوريا، لكن خذلان الرئيس الأمريكي السابق للكرد سنة 2019م كانت بمثابة صفعة قوية هزّت أركان المؤسّسات الأمريكية ذاتها، وتمثّلت باستقالة العديد من الموظّفين في مراكز مرموقة؛ مثل وزير الدفاع والمبعوث الشخصي للرئيس الأمريكي للمنطقة، بطبيعة الحال كل ذلك لم يغير الكثير على أرض الواقع ولكن كانت بمثابة اعتراف ولو غير رسمي بحقوق الأقليات في المنطقة لنيل حقوقها، أمّا ما هو مطلوب الآن منهم فهو:

  • تحديد استراتيجية واضحة على أرض الواقع؛ لأنّ أيّ انسحاب ستكون له عواقب وخيمة عليهم بالدرجة الأولى وذلك بعودة النشاط الإرهابي، وعلى مكوّنات المنطقة بشكل عام.
  • الضغط على تركيا، الشريك في حلف الشمال الأطلسي (الناتو)، للتواصل مع الإدارة القائمة في شمال وشرق سوريا والمتمثّلة بالإدارة الذاتية الديمقراطية وإيصالهم إلى الحلول الوسطية التي يكون فيها الاستفادة الاقتصادية والدبلوماسية للطرفين.
  • إفهام الأتراك أهمية الاستفادة والتنمية الاقتصادية في شمال وشرق سوريا على غرار جنوب كردستان، ولكن على أساس احترام الطرف الآخر كند وليس كتابع.
  • الضغط على الأتراك للتخلّي عن الحلول العسكرية بجميع أشكالها، سواء أكان اجتياحاً بريًا أو بالقصف من طائراتها بدون طيار للبنى التحتية والحيوية، والتي لا طائل منها في القضاء على مكتسبات وحقوق الشعوب التي تعيش في شمال وشرق سوريا.

روسيا:

روسيا كثاني أقوى قوة عسكرية عالمياً وثاني أقوى لاعب على الأراضي السورية وثاني أقوى قوة كبرى دولية دخلت على الخط بعد الولايات المتحدة الأمريكية، ولما لها من تأثير مباشر على النظام في دمشق وتأثير مباشر على الأتراك كشريك في مسار أستانا، حيث أنّ الروس الذين أصبحت لهم قواعد عسكرية فعلية على الأرض في الكثير من النقاط ضمن شمال وشرق سوريا، أي الأراضي التي تخضع للإدارة الذاتية الديمقراطية، وبالتالي فإنّه من الأهمية بمكان لعب دور إيجابي للضغط على كل من أنقرة ودمشق للقبول بإمكانية التفاوض والتوصّل إلى حلول مع الإدارة الذاتية.

فرنسا:

فرنسا لها حضورها الدبلوماسي المميّز وذلك من خلال دعوة القيادة العسكرية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية ولأكثر من مرّة وتكريمها على نضالها ومحاربتها للقوى التكفيرية الإرهابية نيابة عن العالم أجمع، ولكن رغم ذلك فهي أيضاً مطالَبة بأكثر من ذلك وخاصةً من ناحية الضغط على القوى الإقليمية للحيلولة دون إراقة المزيد من الدماء، وخاصةً المدنيون والموظفون في المؤسّسات المدنية.

في المحصلة؛ من الأهمية بمكان أن تستوعب القوى المهيمنة أنّ الحلول الممكنة والمتمثّلة بمشروع الأمّة الديمقراطية هي الحلّ الأمثل للمشاكل العالقة في المنطقة، وأنّ القوميات والأديان التاريخية التي تعيش على هذه الأرض هي الأساس والركائز التي يجب عدم التغاضي عن حقوقها أو إهمالها في حلّ الأمور.

زر الذهاب إلى الأعلى