في الاقتتال العسكري الكل خاسر

شرفان سيف الدين

 

 

مما لا شك فيه أن الصراعات البشرية ممتدة منذ أمد التاريخ، وربما هي جزء من الحياة الطبيعية أصلاً فلا توجد حقبة تاريخية أو بقعة جغرافية إلا وكانت الصراعات البشرية فيها حاضرة، فالصراع ما بين الخير والشر هو صراع أزلي تكون فيها قوى الشر هي الباغية والمتسلطة، وتركز في مجمل الصراع على أخذ ما هو بحوزة الغير من دون وجه حق، مما تضطر الفئة الخيرة على الدفاع عن نفسها وحقها بما فيه الإمكان والقوة، وبطبيعة فطرية يكون الخير هو المنتصر في المحصلة النهائية دائماً وأبداً، حتى ولو خسر جولة أو جولات أو مرحلة من مراحل الصراع، أما الصراعات ما بين قوى الشر والشر فهي التي تكون في مجملها الأكثر خطورة وشراسة وتكون فيها جميع السبل والطرق مستباحة، فلا يسلم منها حجر أو نبات أو حيوان أو بشر ويكون فيها الصراع والقتال فقط من أجل القتال كما الحروب البربرية في العصور الوسطى.

في سوريا ومع اندلاع التظاهرات السلمية فيها في منتصف آذار من عام 2011م، كان جواب النظام فيها واضحاً وصريحاً، خاصةً وإنه كان يسيطر على جميع مفاصل الحياة والمؤسسات السياسية والعسكرية في البلاد، فلا صوت يعلو فوق صوت الرصاص، فبعد أكثر من ستة أشهر من استباحة الدم السوري، وبعد انشقاق الكثير من القيادات العسكرية من الجيش تم تشكيل جيش موازي لمواجهة الآلة العسكرية، فكانت بمثابة رصاصة الرحمة على الثورة السورية خاصةً بعد دخول الأيادي الخارجية على خط العسكرة، ودخول الجماعات المتشددة السلفية والإخوانية وتشكيل الفصائل الموالية والمدعومة من الدول الإقليمية، وارتباط هذه الفصائل بتنفيذ مخططات داعميها، بطبيعة الحال كان للكرد كلمتهم في المجال العسكري فكان لتشكيل وحدات حماية الشعب والمرأة الدور الأبرز في حماية المناطق التي تحت سيطرتها، ولتتطور فيما بعد إلى قوات سوريا الديمقراطية لتحتضن جميع مكونات المنطقة من كرد وعرب وأشور وسريان، ولتكون مثال يحتذى به من قبل البعيد قبل القريب ولتكون فعلاً في خدمة الشعب وحمايته بعيداً عن الخلافات السياسية، فلم تتهاون ولم تتردد بمحاربة التنظيمات الإرهابية أينما وجدت، عكس الفصائل والتنظيمات التي مرت بعدة تحولات ومسميات كانت آخرها ما بات يعرف بالجيش الوطني، والذي أصبح تابعاً للألة العسكرية التركية، في غزو واحتلال المناطق الكردية والأراضي السورية وفرض السيادة التركية من عملة ولغة وتغيير لمعالم الطبيعة، بعيداً عن كل أخلاقيات الحرب الشريفة وكنوع من الارتزاق المجاني.

بطبيعة الحال كان لكل ما سبق من اقتتال داخلي تداعيات وآثار سلبية على الحياة المدنية والاقتصادية للمجتمع السوري، حيث وصلت ساعات انقطاع التيار الكهربائي إلى ثلاث وعشرين ساعة يومياً، فالكهرباء هو عصب الحياة العملية اليومية، وأصبح اليوم الكل ضالع في تفاصيل ومفردات والمصطلحات المتعلقة بالطاقة الكهربائية من أمبير وفولط وهرتز وطاقة بديلة …..الخ. فقد انخفض إنتاج الكهرباء إلى 2500 ميغا واط من أصل 9000 ميغا واط قبل الأزمة. الخبز والأزمة الخانقة والطوابير التي لا تنتهي أمام الأفران والمخابز. وموجات الجفاف وأزمة المياه الخانقة التي تعيشها البلاد، وخاصةً بعد تلاعب المحتل التركي بمخصصات سوريا من المياه الإقليمية، وسيطرتها على منابع بعض الآبار كما في محطة علوك في سري كانيه (رأس العين)، والتي تغذي محافظة كاملة مع أريافها بمياه الشرب. أما في القطاعين الصحي والتعليمي وحسب الإحصائيات الموثقة فقد دمر أكثر من 42%. مما زاد من الآثار السلبية وانتشار الأوبئة والامراض. أما حالات الوفاة وبحسب آخر إحصائيات المرصد السوري لحقوق الإنسان فقد تجاوزت ال سبعمئة ألف منذ اندلاع الأزمة، من بينها توثيق أكثر من مئة ألف حالة وفاة تحت التعذيب. وإصابة أكثر من مليوني شخص جراء العمليات العسكرية، وأكثر من مئتين وخمسين ألف من ذوي الاحتياجات الخاصة والمتضررين المباشرين جسدياً نتيجة الأعمال القتالية، أما بحسب آخر تقرير لصحيفة (اندبندنت البريطانية)، فقد تجاوزت خسائر سوريا الاقتصادية ال ستمئة وخمسين مليار دولار أمريكي، وهذه المجزرة الاقتصادية لا تقل عن المجازر البشرية الحاصلة في البلاد، فقد وصلت نسبة الفقر إلى 90% من عدد السكان العام للبلاد، وتلاشت الطبقة الوسطى بشكل شبه نهائي، أما عدد الواصلين إلى حد المجاعة فقد وصل إلى أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة، أما بلغة الأرقام فقد بلغ مجمل العجز في ميزانية الدولة أكثر من 20% للعام 2023م، وذلك بعد التصديق عليها في نهاية كانون الأول من العام 2022م، الموازنة الجديد البالغة 16550 مليار ليرة سورية، والتي تعادل 5.5 مليار دولار أمريكي حسب نشرة الصرف للدولار الصادرة من المصرف المركزي، وتعادل 2.8 مليار دولار أمريكي حسب سعر الصرف للدولار في السوق السوداء. أما حالات النزوح الداخلي فقد تجاوزت ال سبعة ملايين شخص، ومثلها حالات نزوح خارجية في جميع دول الشتات، وانتشار المخيمات الداخلية والخارجية باسم السوريين. كل ما سبق كانت له آثاره السلبية على بنية المجتمع السوري وتكويناته الدينية والعرقية والقومية والثقافية منها والاجتماعية، وما يتعلق بالأقليات وإمكانية التعايش فيما بينها من حسن الجوار التاريخي والجغرافي. كل ما سبق كان في عموميات الجغرافية السورية بشكل عام، حيث إنه يمكننا تمييز مناطق شمال شرق سورية والتي تخضع للإدارة الذاتية الديمقراطية بهامش مناسب من الحريات السياسية، وكذلك نوع من البحبوحة الاقتصادية التي تعيشها المنطقة نوعاً ما بالمقارنة مع باقي المناطق ولو بشكل نسبي.

يمكن تسليط هذه التجربة السورية على عدة حالات أخرى يعيشها عالمنا الحالي من صراعات على النفوذ واقتتال عسكري كما هو الحال بين أقطاب الصراع في كل من السودان وليبيا واليمن وأخيراً الحرب الدائرة في شرق أوروبا ما بين روسيا وأوكرانيا، والتي كانت لها تداعيات على جميع دول العالم تقريباً. واننا في المحصلة النهائية نستنتج أنه في ظل الاقتتال العسكري الكل يكون خاسراً، فكم من دول كانت ثم لم تكن لكن الشعوب والأقاليم تظل قائمة، فلا يمكن أن يكون الاقتتال العسكري ومبدأ القوة هو الحل الأمثل للتعايش الإنساني، قد يكون هذا المبدأ مفيداً في غابة يسود فيها قانون القوة، لكن في الطبيعة البشرية أثبتت صفحات التاريخ أن الكثير من الممالك والحضارات والأشخاص كانوا أسياداً في وقت من الأوقات لكن هذا لا يعني إن الاستمرارية ممكنة مع الطبيعة البشرية، فكم من طغاة علقوا على أعواد مشانق الشعوب حتى ولو كان ذلك بعد أضاحي جسام.

زر الذهاب إلى الأعلى