الأجندات التركية في شمال شرق سوريا

مع تصاعد التوترات الأمنية والأزمات الاقتصادية والكوارث الطبيعية في مختلف أرجاء العالم، وإصرار الدول المهيمنة على استمرار الأزمات السياسية في منطقة الشرق الأوسط وانخراطها في أزمات دولية أخرى كالأزمة الأوكرانية- الروسية وأزمة الملف النووي الإيراني وغيرها؛ وأزمات قد تبرز في المستقبل بين كل من الصين وتايوان، والهند وباكستان، وإيران وأذربيجان، وإيران وإسرائيل…إلخ، مما يعني ارتفاع مستويات الصراع بين القوى المهيمنة على الساحة الدولية، وازدياد رغبتها في إعادة ضبط العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية العالمية بحسب استراتيجياتها وأجنداتها فالعالم يعيش حربا عالمية ثالثة حقيقية. وفي خضم أمواج هذا الصراع الدائر على الساحة العالمية، تسعى بعض الدول الإقليمية ذات النزعة الاستبدادية والشمولية إلى الهيمنة على شعوب وبلدان المنطقة مجدداً، ويبدو أن سوريا وخاصة شمالها وشرقها من بين تلك المناطق المستهدفة والتي تحتل مكانة استراتيجية في أجندات تلك الدول الهادفة للهيمنة عليها، وهذا ما يتم ملاحظته بشكل كبير في سلوك النظام التركي في عهد نظام أردوغان الذي يسعى إلى تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية واقتصادية لصالح سلطته في ظل الفوضى والتقلبات والتصاعد الدراماتيكي للتنافس بين القوى الدولية والإقليمية، كما تحاول الاستفادة من موقعها الجيوسياسي المهم بالنسبة للغرب وتوظيفها كأداة سياسية للمساومة عليها في ملفات أخرى خاصة مع تصاعد أزمة الطاقة في العالم، ورغبة الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بإيجاد بدائل للغاز والنفط الروسيين من منطقة الشرق الأوسط لتوريدها إلى أوروبا، ويبدو أن موقع تركيا يؤهلها للقيام بهذه الأدوار، بالإضافة إلى رغبة الغرب بإعادة ضبط سلوك النظام التركي كقطب منافس لإيران وروسيا في المنطقة، بالمقابل تعي روسيا هذه الحقيقة وتحاول إفشال هذه السياسة.

ويحاول النظام التركي استثمار ذلك الصراع بشكل براغماتي لتحقيق أجنداتها خاصة سعيها للتحول إلى قوى إقليمية مؤثرة في السياسة الدولية، والتخلص من صفة التبعية التي لاحقتها طوال عقود كدولة تابعة للغرب والناتو، فهي تسير وفق المبدأ القائل بأن العالم أكثر من خمسة دول (والمقصود الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي)، كما يؤمن هذا النظام بأن القرن الحادي والعشرين يجب أن يصبح قرن صحوة الأتراك، وما يشير إلى ذلك عدم مسايرته للدول الغربية في فرض عقوبات مشددة على روسيا، وأيضاً تقمصها دور شعرة معاوية بين الغرب والروس للاستفادة من كلا الطرفين كقضية انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو والتوسط بين الروس والأوكرانيين وعقد صفقات في سياق الأزمة السورية؛ وتبدو مناطق شمال وشرق سوريا في صلب أجندات النظام التركي ويمكن تلمس ذلك في التهديدات والاستهدافات العسكرية اليومية على المنطقة، والتي تسببت باستشهاد عدداً كبير من المدنيين والقياديين الذين كان لهم دور بارز في ترسيخ السلام في المنطقة وهزيمة التنظيمات الإرهابية. كما تبدو الأجندات التركية موضوعة على مرجل يغلي بفعل أحداث ومتغيرات تشهدها المنطقة لعل أبرزها؛ انقضاء مئة عام على توقيع معاهدة لوزان، ورغبة النظام التركي في احتلال أكبر قدر من جغرافية المنطقة خارج حدودها السياسية الجنوبية عبر إحياء ما يسمى بمشروع الميثاق الملي (ويتصور القوميون الأتراك هذه المناطق كحديقة خلفية لتحقيق ما يسمى بالوطن التركي)، كما يقول أحمد داؤود أوغلو في كتابه العمق الاستراتيجي، ثانياً الانتخابات الرئاسية في تركيا التي تم تقديم موعدها من قبل أردوغان إلى 14 أيار والتي تعتبر مصيرية له، لذا سيحاول بجميع الوسائل الشرعية وغير الشرعية لاستمرار ديمومة سلطته سواء كسب الانتخابات أم فشل، فأجنداته الحزبية أصبحت أجندات الدولة التركية على الرغم من تعرض البلاد في عهده لانتكاسات اقتصادية بعد ارتفاع حالات التضخم للبلاد ووصولها إلى مستويات قياسية، ثالثاً الخسائر والهزائم التي يتلقاه قواته ومرتزقته  في جبال كردستان الأمر الذي ضاعف من حالة الهيجان والعدوانية لدى النظام التركي إلى حد استخدام الأسلحة الكيميائية المحرمة ضد مقاتلي حركة حرية كردستان، ناهيك عن عوامل أخرى كاستثناء أمريكا مناطق الإدارة الذاتية من عقوبات قانون قيصر واستمرار دعمها لقوات سوريا الديمقراطية، والمناورات العسكرية المشتركة التي أجرتها التحالف الدولي مع هذه القوات في المثلث الحدودي؛ كل هذه المتغيرات والأحداث المتسارعة في المنطقة تثير هيجان النظام التركي ويعيق تنفيذ أجنداته التي تنبئ بأضرار كبيرة على شعوب المنطقة وبلدانهم. ومن الأمور التي قد تدعم هذه الأجندات بشكل غير مباشر تركيز الدول العربية على مواجهة التمدد الإيراني في مناطقهم مما يعني تهميش مواجهة التهديدات التي تسببت وتتسبب بها تركيا للدول العربية في العقد الأخير وخاصة في سوريا والعراق التي تحتل أجزاء منها بشكل مباشر وتقوم ببناء قواعد عسكرية وتشكيل ميلشيات مرتزقة والقيام بعمليات تغيير ديمغرافي، الأمر الذي سيؤدي إلى إضعاف هذه الدول، والهيمنة على قرارها السياسي في المستقبل، لذلك فالتوافق الاستراتيجي للشعبين الكردي- العربي يفرض نفسه بقوة في هذه المرحلة في ظل التهديدات المختلفة التي تشكلها أجندات دولة الاحتلال التركي والقوى الأخرى على الشعبين.

كما أن سلوك النظام التركي في تنفيذ أجنداته يهدد استراتيجية التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب في المنطقة رغم تغاضي الأخيرة عنها في عدوانها على مناطق شمال وشرق سوريا، وكذلك إيوائها للعديد من مقاتلي وقادة تنظيم داعش وتحولها إلى قاعدة استراتيجية للتنظيم لشن هجمات على سكان المنطقة وقوات التحالف، وقد يستخدم النظام التركي هذا التنظيم وعلاقاته مع إيران وروسيا لابتزاز القوات الأمريكية في حال بروز أي توتر في العلاقات بين الطرفين، وتشير الهجمات التي تشن على قواعد التحالف وشركائهم على الأرض (قسد) إلى وجود ما يشبه حربا هجينة ضد قوات التحالف، ما يدل على ذلك مخرجات اجتماعات آستانة، وخاصة الاجتماع الأخير الذي عقد في طهران، والذي أكد في بيانه الختامي على ضرورة خروج وانسحاب القوات الأمريكية من المنطقة.

هذه الأجندات والضغوطات الأمنية الممارسة على جميع الأطراف قد تؤدي إلى بروز ما يسمى المقايضات الجيوسياسية بين القوى الدولية والنظام التركي بغرض تعزيز جبهات الصراع بين القوى الدولية المتنافسة، لذا قد تتعرض المنطقة لمساومات على شكل صفقات ستؤثر بشكل سلبي على أمن مكونات المنطقة. ويبدو أن الزلزال زاد من سخونة ذلك المرجل بشكل أكبر خاصة بعد فشل الحكومة في الاستجابة السريعة لهذه الكارثة التي حلت بالشعب هناك علما أن النظام التركي يعي جيدا بأن منطقة الأناضول تتوضع فوق صدع زلزالي كبير(تصادم الصفيحتين التكتونيتين العربية والأناضولية)، لذا قد يقوم بصرف انتباه الشعب التركي عن هذه الكارثة ضمن استراتيجية الإلهاء، خاصة أنه بحاجة إلى تعبئة وطنية قبل الانتخابات لتعزيز شعبيته، لذلك قد يقدم على شن عدوان عسكري أكبر بري أو جوي في شهر آذار الذي يمتلك خصوصية كبيرة لدى الشعب الكردي؛ كما يبدو أن تقاربه مع النظام السوري وتشكيل غرف استخباراتية ضد الإدارة الذاتية يصب في هذا المضمار أيضاً، ويعد من أحد أهم التكتيكات التركية الهادفة إلى ضرب مكتسبات الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التي نجحت دبلوماسيتها نسبيا في صد التهديدات التركية بغزو المنطقة، ومن المتوقع أن تعمل الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية لمواجهة هذه التهديدات بتطوير استراتيجية الدفاع العسكري المتمثل بممارسة الضغط الدبلوماسي على التحالف الدولي، وزج أسلحة دفاعية أفضل في المعارك، وطرد قوات النظام السوري من مناطق شمال وشرق سوريا، وتكثيف عمليات المقاومة في المناطق المحتلة وغير ذلك.  واستنادا إلى ما تم ذكره يشكل السلوك الحالي للنظام التركي تهديدا للأمن والسلام الدوليين بما فيها الدولة التركية نفسها ويجعلها معرضة لعمليات انتقامية وتدخلات دولية والمزيد من التدهور للاقتصاد التركي. إن غياب عقيدة سياسية واحدة للحركة السياسية التركية بفاشياتها الثلاثة وتزايد المشاكل الاقتصادية وعدم حل القضية الكردية والتهديدات المستمرة للدول المجاورة ينذر بحدوث تصدع في الدولة التركية في السنوات المقبلة. ويبقى حل تحقيق السلام في الجغرافية التي تتربع عليها الدولة التركية في إيمرالي.

زر الذهاب إلى الأعلى