قراءة مُقتضَبة في المشهد السوري والحلّ المنشود
أحمد بيرهات

تشهد سوريا والمنطقة، منذ أكثر من عقد ونيّف، تداخُلاً وصراعاً بين المصالح المحلّية والإقليمية والدولية؛ حيث تلعب القوى الكبرى (الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وإسرائيل) دوراً محورياً، إضافة إلى الدورين التركي والخليجي.
استُخدم شعار “مكافحة الإرهاب” كذريعة بعد أحداث 11 أيلول 2001 في الولايات الأمريكية (نيويورك وواشنطن وبنسلفانيا) لتبرير التدخّلات العسكرية في المنطقة، خصوصاً في سوريا؛ حيث دعم الغرب وبعض الدول الإقليمية وعلى رأسها تركيا، سواء عن طريق منظمات إغاثية أو جماعات مسلّحة تعمل لخدمة أجنداتها في المنطقة، ومن أهمها وأوسعها نطاقاً في سوريا من خلال “منظّمة الخوذ البيضاء – المرتهنة للسياسة التركية في سوريا – وهيئة تحرير الشام… وغيرها من الجماعات المصنّفة على لوائح الإرهاب الدولية (العمشات والحمزات) والمرتبطة بأجندة خارجية متعددة”؛ وهو ما أجّج الحرب فيها (بين تلك الجماعات وبين قوات النظام المركزي البائد وحلفائه)، وتحوّلت فيما بعد إلى حرب أهلية أدّت إلى سحق النسيج السوري أكثر، ولا تزال تبعاتها مستمرّة حتى اليوم.
الأهداف الأمريكية والإسرائيلية المباشرة في المنطقة:
إنّ الأنظمة القوموية والأوليغارشية، التي تم تشكيلها من قبل بريطانيا وفرنسا ورأسمال اليهودي في الربع الأول من القرن العشرين في المنطقة من خلال اتفاقيّتَي سايكس بيكو ولوزان، لم تعد تخدم استراتيجيتها، وأصبح الفكر القوموي وبالاً عليها؛ فبدأت تنتهج سياسية جديدة خدمة لاستدامة نظامها العالمي، كما لعبت الأنظمة المركزية والدول القوموية دوراً كبيراً في تعزيز الانقسامات الطائفية والأثنية والتي خدمت الغرب بشكل عام، بهدف إعادة هيكلة المنطقة وفق مصالحهما الاستراتيجية، (وفق مشروعَي الشرق الأوسط الكبير والشرق الأوسط الجديد) خاصة في مواجهة النفوذ الروسي والصيني وحماية أمن إسرائيل بالدرجة الأولى، وسدّ الطريق أمام أي مشروع سياسي واقتصادي واجتماعي قد يظهر في الشرق الأوسط ويشكّل خطراً عليهما.
المتابع لكل ما جرى ويجري في المنطقة يلاحظ بعمق أنّ إسرائيل تسعى وتعمل على تقويض أي قوة إقليمية قد تهدّد أمنها (كما حصل مؤخّراً في “حرب الـ12 يوماً” ضدّ إيران، وقبلها في سوريا ولبنان واليمن، وحالياً الصراع غير المباشر مع تركيا في سوريا والذي بات يتبلور رويداً رويداً).
تعمل إسرائيل وفق خطّة ممنهجة وصارمة في نفس الوقت، لتكون الدولة المركزية الوحيدة والمسيطرة في المنطقة، وتحويل بقية الدول إلى دول خاضعة لها، (وفق نظرية “المركز والأطراف” لعلماء الاجتماع الثلاث “سمير أمين وأندريه غوندر ووالرشتاين”)، وتقويض أي دولة تحاول التحوّل إلى قوة.
الأحداث والتطوّرات الأخيرة في الشرق الأوسط خدمت وتخدم بشكل رئيسيّ ضمان التفوّق الاستراتيجي الإسرائيلي بشكل جليّ وواضح.
فقد كان من أهم تداعيات الحرب في سوريا وما يجري في المنطقة من أحداث وتطوّرات، سقوط نظام الأسد بعد حرب مدمِّرة استمرّت أكثر من عقد، خلّفت خسائر بالملايين ما بين قتلى وجرحى ونازحين، إلى جانب سياسات التهجير والتغير الديمغرافي، وفق خطط موضوعة من قبل قوىً مهيمنة على المنطقة؛ كالولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل وتركيا وإيران، واستمرار الاحتلال التركي للأراضي السورية قد أدّى إلى تفريخ الجماعات المسلّحة ونشرها في أغلب المناطق السورية، ومع سقوط النظام السابق في سوريا تم تقليص الدور الروسي بشكل كبير، كما تمّ إنهاء النفوذ الإيراني بشكل شبه كامل، وإضعاف حلفاء إيران في المنطقة (حركة حماس وحزب الله والحوثيين)؛ كل ذلك قد أعاد سوريا الى واقع لا يتلاءم مع تطلّعات أبنائها، ولا يساعد في بناء سوريا جديدة قائمة على التعدّدية والديمقراطية، بل زاد من تعميق الانقسامات الطائفية والمذهبية والعرقية التي جعلت الاستقرار مستبعَداً على المدى المتوسّط.
الطائفية والمذهبية وتفكّك المجتمعات:
تلجأ الأنظمة الحاكمة من أجل ديمومتها إلى اللعب بورقة الطائفية والمذهبية؛ فخلال الأزمة السورية، خاصة بعد سقوط النظام البائد، تصاعدت التوتّرات الطائفية والمذهبية بشكل كبير في مناطق متعدّدة من سوريا (المجازر المرتكَبة بحق الطائفة العلوية في الساحل، وبحقّ طائفة الموحّدين الدروز في السويداء)، إضافة إلى التهديدات الدائمة لمناطق شمال وشرق سوريا (التي تعيش تجربة متقدّمة من التعاضد المجتمعي)، من قبل الفصائل والمجموعات المتطرّفة السلفية والإرهابية، إضافة للضغط المكثّف، بين الفينة والأخرى، من قبل الدولة التركية لفرض أجندتها في سوريا؛ فهذه الهجمات الطائفية والتهديدات الدائمة وخطاب الكراهية ليست أحداثاً عابرة، بل هي جزء من سياسة “تفكيك المجتمع السوري” عبر فاعلين محلّيين مدجّنين لصالح أطراف إقليمية لا تُضمر الخير لسوريا ومكوّناتها المتعايشة، وإنّ غياب الأمن والاستقرار فيها دفع بعض المكوّنات السورية إلى البحث عن حلول ذاتية لنفسها، مثل تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية التي أثبتت نجاعتها بشكل كبير في شمال وشرق سوريا، وأثّرت على مناطق أخرى؛ كما نشاهد ذلك في التداعيات والحلول المطروحة في التجربة الأخيرة لمحافظة السويداء.
نموذج الإدارة الذاتية الديمقراطية:
خلال أكثر من عقد، قدّمت تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا نفسها نموذجاً لا مركزياً مقبولاً، يقوم على التشاركية بين المكوّنات (الكردية، والعربية، والسريانية)، وشكّلت قوات دفاعية من أبناء المنطقة (قوات سوريا الديمقراطية QSD) لتأمين الدفاع المجتمعي بعيداً عن الأمن القمعي المركزي السابق؛ وهو ما أعطى دفعاً متميّزاً في مناطقها واحتوى كل مكوّنات المنطقة، وما زالت تعمل وفق ترسيخ هذه الثقافة بكل أبعادها المجتمعية.
السؤال المطروح الآن بقوة هو: ما الحل المقترَح لنشر الديمقراطية في سوريا وفق الرؤية الفكرية والثقافية؟
يمكن للمتابع والمتعمّق في تفاصيل ثقافة وحضارة مجتمعات الشرق الأوسط أن يتوصّل إلى مبادئ أساسية تُشكّل سبيلاً نحو حلّ ديمقراطي للمعضلة السورية؛ وذلك من خلال النقاط الآتية:
- ضرورة التوصّل إلى قناعة تامّة بأهمية بناء الجمهورية السورية الديمقراطية (تعترف بالتعدّدية القومية والثقافية والدينية والعرقية).
- كتابة عقد اجتماعي جديد يضمن العدالة المجتمعية، وتدوينه ضمن دستور ديمقراطي واضح وشفّاف.
- اعتماد نظام اللامركزية الديمقراطية كبديل للنموذج المركزي والأحادي في دمشق.
- تشكيل جبهة مجتمعية ديمقراطية واسعة؛ تضمّ المثقّفين وأحزاباً ديمقراطية واشتراكية، وحركات نسوية وبيئية لتكون نواة بناء هذه الجمهورية.
- تحقيق عدالة انتقالية لتجاوز الانقسام المجتمعي الذي تغذّيه العقليات الرجعية والوثوقية والنيوليبرالية المتعدّدة.
- معالجة الأزمات الاقتصادية المتتالية: (الفقر، البطالة، الصناعوية التي تحارب النموذج البيئي) لتقليل مستوى المشكلات والقضايا وبالتالي العنف، ودعم الانتقال السلمي في كل مفاصل وأزمات البلاد.
وأخيراً؛ يمكننا طرح السؤال الأهم في هذه المرحلة وهو: هل هناك إمكانية لتحقيق السلام والمجتمع الديمقراطي في المنطقة؟
بعد كل الصراعات والأزمات والتدخّلات الإقليمية والدولية، والتي لم تجلب معها الحلول المنشودة لاستقرار المجتمعات، ونتيجة الذهنية التوتوليتارية للنظام الجديد في دمشق، وبطء التحوّل الديمقراطي في المنطقة، ووهن الكثير من القوى والأحزاب التي تدّعي التقدّمية والديمقراطية؛ كان لابدّ من وضع خريطة طرق تناسب المرحلة وتعبّر عن طموحات وآمال الشعوب في المنطقة.
وعلى هذا الأساس؛ يُعَدُّ نداء ومانيفستو “السلام والمجتمع الديمقراطي” المطروح مؤخّراً من قبل السيد عبد الله أوجلان هاماً جداً، ولا أعتبره يوتوبيا، بل حاجة وضرورة تاريخية وموضوعية لشعوب المنطقة التي أنهكتها الحروب والنظم الاستبدادية والظلم الممارَس بحقّهم، فكان لا بدّ من طرح رؤيته للحل من خلال براديغما (نموذج) تعبّر عن جوهرها ومعناها الوجودي، وباتت تطبّق برنامجها العملي-الطبيعي بالسير نحو تحقيق كومونالية حقّة تعيد التاريخ لمساره الطبيعي، وهنا يجب الإشارة إلى مسألة مهمّة جدّاً، وهي أنّ المعرفة والعلم وتشكيل وعي مجتمعي متقدّم يُعَدّ جزءاً أساسياً في بناء المجتمع الديمقراطي المنشود في المنطقة، بهدف تأمين صيرورة الحياة بكل تفاصيلها من تأمين مقوّمات العيش والاستدامة لها؛ وهذه لن تتحقّق بإقصاء المجتمع من كينونته، ودونها ستستمر الحروب والصراعات والمجازر ضدّ المكوّنات والثقافات المتنوّعة إلى حالة لا متناهية.
ويبقى السؤال الجوهري هو:
هل ستنجح النخب الثقافية والسياسية في تحويل هذه الرؤية إلى واقع، وقيادة المجتمعات والسير بها نحو تحقيق الديمقراطية المرجوّة في المنطقة؟
فالتاريخ يذكّرنا دائمًا بأنّ المجتمعات البشرية، على اختلاف أشكالها وألوانها، قادرة على العيش مع بعضها بشكل طبيعي، والإجابة عن هذا التساؤل الوجودي مرتبطة بمدى وعي واستعداد الشعوب لتبنّي النموذج الديمقراطي القائم في شمال وشرق سوريا، وبقدرتها على بناء توافق وطنيّ- مجتمعيّ، وبمجابهة التحدّيات والصعوبات التي تواجهها في سوريا.