الشأن السوري على خلفية تصريح جاويش أوغلو، الأبعاد والمسارات

الشأن السوري على خلفية تصريح جاويش أوغلو، الأبعاد والمسارات

تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، بمناسبة اختتام أعمال مؤتمر السفراء الثالث عشر ~علينا أن نصالح المعارضة والنظام في سوريا وإلا فلن يكون هناك سلام دائم}، بالإضافة إلى أنه أجرى محادثة قصيرة مع وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، وأثناء الدردشة مع وزراء آخرين في بلغراد. فليس مفاجئاً بالنسبة للدولة التركية؛ بالقدر الذي عليه الحال عند المعارضة السورية، في جانبها الشعبي الذي خرج في مظاهرات شعبية عارمة في أغلب المدن التي ترزح تحت الاحتلال التركي.

فالدولة التركية باتت تعيد حساباتها، وفق رؤية براغماتية صرفة خاصة في الملفات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تتعاطى فيها مع الدول العربية مع التأكيد أن أياً منها مختلف عن الآخر. فالعلاقات التركية- المصرية لم تكن بأفضل حالاتها مع تأييد ودعم صريح من الدولة التركية لورقة الإخوان المسلمين للوصول إلى السلطة في أعقاب ثورة سبتمبر في مصر في عام 2011، وهو الحال الذي يتكرر مع المملكة العربية السعودية على خلفية مقتل الصحفي جمال خاشجقي في تركيا، وفي ليبيا دعمت حكومة الوفاق الوطني بمواجهة قوات اللواء خليفة حفتر، في نزاع على الشرعية والسلطة في البلد الغني بالنفط.

ومن الملاحظ في الدوافع التركية لهذه البرمجة السياسية المتذبذبة في المنطقة، بأنها تريد الاعتبار لنفسها -وفق زعمها- بعد فقدانها الزعامة الإقليمية الذي يظهره التراجع الشعبي العربي للدور التركي لكونه عامل أزمة وشقاق أكثر من كونه عامل إيجابي، فضلاً على محاولته ترميم اقتصادها المتعثر، نتيجة التضخم الذي يضرب الليرة التركية على حساب تدخلها في الشؤون الداخلية للدول.

وفي سوريا لا يمكن القول بأن الدولة التركية تتصرف وفق ذات السياسة التي تنتهجها مع الدول العربية الآنفة الذكر وإنما تتحرك وفق المثل القائل “أقتل الشخص وأمشي بجنازته”، فهي بعد كل المعضلات التي سببتها بدءاً من اتفاق خفض التصعيد وآستانا وسوتشي في الجانب السياسي وتدخلها بشكل عسكري مباشر في سوريا في الجانب العسكري، بالإضافة إلى دعم تنظيم داعش بكل الوسائل من سلاح وعتاد حيث جنى من ثمار تغلغله في المناطق التي استولى عليها أضعاف مضاعفة من أموال وموارد وثروات من بعد تحريرها منه على يد قوات سوريا الديمقراطية، ولا شك إذا تم سرد سرقة مقتنيات أثرية وأجهزة وآلات معامل وشركات صناعية أو تجارية، فالأمر قد لا ينتهي إلى هذا الحد بل يصل إلى أمور سرقة على مستوى دولة.

وإذا كانت المظاهرات الشعبية التي خرجت تحت عنوان “لا تصالح”، في المناطق التي ترزح تحت الاحتلال؛ رداً على تصريحات وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، قد أوجدت على الأقل الأرضية لحدوث تطبيع أو تقارب بين تركيا وسوريا بدعم روسي على خلفية اجتماعات آستانا وسوتشي الأخيرة بينما يسود الموقف الشعبي السوري حالة من الترقب أو الحذر من المجهول، فما الذي تحققه الدولة التركية من أبعاد إذا ما حدثت مصالحة أو تطبيع أو تقارب محتمل بين الجانبين التركي والسوري عالي المستوى، وعليه فهذا يقودنا إلى ما يلي:

1-إذا ما حدث تقارب أو تطبيع بين رئيسي البلدين التركي والسوري حسب ما تروج له الوسائل الإعلامية أو مواقع التواصل الاجتماعي، فأن ذلك يحدث؛ كرد اعتبار للنظام الذي يعتبر أن هذا نصراً دبلوماسياً له في ظل محاولته إعادة نفسه إلى الجامعة العربية أو تصحيح علاقاته مع بعض الدول، ومن بينها؛ الدولة التركية خاصة أنه يدرك صعوبة استعادة الأراضي التي تحتلها بعمل عسكري فقط إلا وفق الرؤية الروسية للحل السوري التي تذهب بعيداً عن العمل العسكري عدا عن رغبته بإظهار استعادته للشرعية الدولية من خلال تحجيم المسافات والعلاقات الدبلوماسية المتوترة مع بعض الدول لا سيما إذا كان من ضمن حساباته عودة اللاجئين من تركيا إلى الدولة السورية ما يزيد من تموضعه الدولي خاصة إذا أخذنا بالاعتبار بأن ورقة عودة اللاجئين السوريين باتت ترتضيها تركيا لنفسها في الفترة الأخيرة أيضاً.

2-إقدام الدولة التركية على هكذا خطوة في جنوحها لوأد الخلافات مع الجارة سوريا يوضح بأنها كسبت صفقة خلال اجتماعاته الأخيرة في آستانا وسوتشي الأمر الذي حملها على تخفيف اللهجة وبالأخص حين كانت تطالب مع بدء الحراك السوري الثوري بضرورة رحيل الأسد ثم لتخفف الخطاب بعد فترة وجيزة إلى ضرورة إيجاد حل سياسي لسوريا ثم لتفاجئ الجميع مؤخراً حول رغبتها بعقد مصالحة مع سوريا. ولنفترض جدلاً بأن تركيا بلعت الطعم الروسي حسب لغة السياسة بجرها حول ملعبها الموحل، فإن تركيا هذا ما تريده الآن بعد أن صارت قضية اللاجئين عبئاً عليها سياسياً وبصورة أقوى اقتصادياً.

3-يبدو أن المعارضة السورية بشقيها السياسي والمسلح في أضعف حالة من أي وقت مضى بعد الانقلاب التركي على نفسه إزاء النبرة الإعلامية التي كانت تروج ذات يوم بكونها نصيرة للسوريين في محنتهم والأرض التركية على استعداد لاستقبال السوريين، وإذا كان هذا الشيء بالشاكلة الشائكة ستكون المعارضة أمام خيارات غامضة بعد فشلها في الالتزام بالمحددات التالية:

  1. رهن المعارضة لنفسها للدولة التركية بشكل تام سواء داخل سوريا أم خارجها على صورة الارتزاق وهو أمر ينافي الشعور الوطني الحقيقي الرافض له كل السوريين؛ عبر المساس بالشعب والأرض.
  2. عدم وجود مشروع سياسي للمعارضة مما جعلها شذر مذر ومحدودبة على ذاتها سواء على مستوى الرؤية السياسية أم العسكرية أيضاً.
  3. فقدان السوريين ثقتهم بالمعارضة بعد عدم قدرتها على تحقيق أي تقدم سياسي يحقق لهم مطالبهم كافة.
  4. عدم قبول المعارضة بالدعوات التي كانت يطلقها مجلس سوريا الديمقراطي للجلوس إلى طاولة الحوار.

وبالمحصلة إذا ما أرادت المعارضة السورية إنقاذ نفسها مما هي فيه من مأزق والخروج من ورطتها تلك بأقل الأضرار والخسائر ما عليها سوى الرجوع إلى تلك المحددات الواردة أعلاه قبل أن يلتهمها النظام السوري بلقمة واحدة في وقت ما وتعود من خيبتها السياسية بخفي حنين.

وبالعودة إلى تصريح وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو الذي خص فيه المعارضة السورية وتسبب بحالة من الغليان الشعبي في المناطق التي ترزح تحت الاحتلال التركي، وإنْ كان من المستعبد قيامها بهذا الإجراء دون أي مقابل أو حصولها على صفقة ما، وبناء ما تقدم ما هو الحال بالنسبة لمناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا إزاء التصريح، هل هي بمنأى عن كل ما يجري، وما الذي ينبغي أن تقوم به حيال ذلك؟

في الواقع لا يمكن النأي بالنفس عن المستجدات السياسية التي تقرع بابنا دون أن نلتفت لها بماذا تريد منا أو ماذا نريد منها على حد سواء؟ وعليه الدولة التركية يبدو أنها في سياق مراجعتها للقراءة السياسية إزاء علاقتها مع النظام السوري على المستويين الحكومي والشعبي؛ المطالبة بعودة العلاقات بين كلا البلدين.

وتأسيساً على ما سبق، ينبغي على الإدارة الذاتية، آخذ تلك التطورات السياسية الساخنة على محمل الجد والوقوف على تداعياتها المحتملة من كل الزوايا والتي بحال أو آخر يمكن أن تحدد وفق عدد من المسارات، وفق الآتي:

  1. المسار التركي: لا يفتأ النظام التركي عن المجاهرة بالعداء للإدارة الذاتية حتى إن كلفه ذلك عقد تقارب مع النظام السوري والذي كان ذات يوم يجاهره بالعداء أيضاً. إن السياسة التركية تدرك حقيقة مشروع الأمة الديمقراطية الذي يؤسس لحل وحيد لكل قضايا المنطقة بما في ذلك قضايا الدولة التركية الداخلية، وعلى رأسها؛ ملف المفكر عبد الله أوجلان، وبالتالي حل القضية الكردية التي تتشعب إلى حريتهم في الهوية والمعتقد والتمثيل السياسي والمشاركة السياسية ولأن تركيا لا تريد هذا فهي تحارب الكرد ليس في الداخل التركي وإنما في الخارج عبر عقد مصالحة مع النظام السوري وفق مبدأ “عدو عدوي صديقي” للضغط على الإدارة الذاتية وربما محاصرتها جيوسياسياً لتحصيل مزيد من الأوراق وعلى رأسها؛ الدفع بالقوات الأمريكية للانسحاب بعدما تصالح الجميع ولا مبرر حينئذ لوجود هذه القوات طالما أن السيادة السورية عادت إلى المربع الأول.
  2. المسار السوري: يدرك النظام السوري جيداً بأنه لا ثقة للمجتمع الدولي بوجوده على هرم السلطة في ظل عزوفه عن الحل السياسي، وفق مقررات جنيف لذا يلجأ إلى سياسة إبداء المرونة مع خصومه التقليديين، ومنهم؛ الدولة التركية بالطبع. إن النظام السوري يجني من خلال تقاربه مع الدولة التركية انفتاح اقتصادي بما تملكه تلك المناطق من مقومات زراعية هائلة في مدينة عفرين المحتلة مثلاً وهي تخفف عنه وطأة الضائقة الاقتصادية التي يعانيها الآن، وهو بذلك يلتقي مع النظام التركي في ذات التوجه الاقتصادي عدا عن الاستفادة من أموال المغتربين والتي تدر -أن حدث ذلك- أموالاً بالعملة الصعبة وهو أحوج لها في هذا الوقت العصيب، فضلاً عن خنق المعارضة أكثر خاصة إذا كان هذا الأمر في عقر دارهم. ومن الواضح أن علاقات التقارب بين البلدين ليست بجديدة فمنذ 2017، يتم الحديث عن وجود علاقات “غير مباشرة” بين النظام التركي والسوري، رغم نفي الطرفين لذلك، فيما بعد بدأ الطرفان بالاعتراف أن هناك “تنسيق استخباراتي” بين أجهزة الاستخبارات حول الملفات الأمنية، تلا ذلك بـخمس سنوات؛ حديث وزير الخارجية الإيراني عن مساعي طهران “لإزالة التوترات بين أنقرة ودمشق”، حتى جاءت التصريحات الرسمية التركية الأخيرة التي تدل ربما على عودة العلاقات بين البلدين.
  3. المسار الروسي: تسعى روسيا إلى لعب دور شرطي المرور في سوريا مع كل الأطراف، فهي لا تزال تزيد غلتها الربحية جراء دعمها الصريح للنظام سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وأما فيما يتعلق بالدولة التركية تحاول استمالتها؛ كبيدق سياسي أمام الغرب لا سيما وأنها عضو في حلف الناتو الطرف الداعم لأوكرانيا ورغبة منها في بقائها كشعرة معاوية. أما الإدارة الذاتية ستكون بمرمى محاولات كسب روسيا المزيد من الثمار مدفوعة بأنها اللاعب الوحيد الذي يؤمن سلامتها -حسب زعمها- في المنطقة.
  4. المسار الأمريكي: على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية ترى أن الأسد لم يفي بالاستحقاقات السياسية الدولية بعد فيما يتعلق ببنود جنيف إلا أنها تشترط لبقائه أن يبادر بعملية سياسية شاملة بحضور كل الأطراف السورية، وهذا الأمر لم يحدث الآن. فالشرط الأمريكي هذا يجعل أي محاولات للتطبيع مع أي طرف سواء أشخاص أم شركات أم دول محفوفة بالمخاطر وبالأخص أن هناك عقوبات تطال من يقوم بذلك، ناهيك على أن الوجود الأمريكي، ضمن التحالف الدولي في سوريا لمقاتلة تنظيم داعش يعد كمركز ثقل في المنطقة الآن، يجعل التطبيع بين النظامين التركي والسوري ليس ذا أثر كبير على مناطق الإدارة الذاتية وإن كان من الصعب الجزم بعدم وجود تداعيات محتملة أيضاً.
  5. مسار الإدارة الذاتية: من الواضح بأن تصريح وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو حول نية بلاده المصالحة مع النظام السوري، يرتبط بالمقولة التالية “لا عدو في السياسة”. فالإدارة الذاتية أمام تحولات سياسية جذرية في المنطقة؛ نتيجة تغير التحالفات الدولية وبالأخص بعد الحرب الروسية-الأوكرانية والتحول الأوروبي في مجال الطاقة إلى منطقة الشرق الأوسط والأزمات العراقية واللبنانية والملف النووي الإيراني المتعثر ومحاولات تدوير تنظيم داعش من جديد في سوريا من قبل تركيا، تؤكد أن لا شيء ثابت في السياسة. في المقابل هناك سعي حثيث من الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا من أجل تعزيز مشروع الأمة الديمقراطية بين مختلف شرائح الشعب؛ باعتباره القاعدة الرئيسة للتصدي لأي مشاريع خارجية تهدد الإدارة الذاتية وذلك عبر تكثيف المحاضرات والندوات، وفي حال تشكل محور ضد الإدارة الذاتية من قبل ضامني آستانة قد تقوم بين قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي برفع مستوى علاقاتهم إلى مستوى شراكة استراتيجية ليس في المجال العسكري فحسب وإنما في مجالات أخرى، كالمجال السياسي مثلاً. والشراكة الاستراتيجية تعتبر عامل قوة لمجلس سوريا الديمقراطي في أي عملية سياسية وهذا ينعكس تأثيرها بشكل إيجابي في أي مفاوضات في المستقبل. بالإضافة إلى محاولة توسيع علاقاتها الدبلوماسية خاصة في المحيط العربي الفاعل لما لها من دور كبير في التأثير في المنطقة بشكل عام.

زر الذهاب إلى الأعلى