الإدارة الذاتية في ضوء التقارب التركي – المصري

إذا كان هناك من يمارس البلادة والصفاقة بامتياز، وعلى نحو شائع خاصة في هذه الآونة، ستكون الدولة التركية بالطبع، وعن جدارة واستحقاق.

ذلك أن الدولة التركية تسابق الزمن قبل إجراء انتخابات الرئاسة التركية المقررة في يوم 14 أيّار/ مايو المقبل، من أجل تطبيق سياسة ”صفر مشاكل“. حيث تتسم بالإفلاس تارة وتارة بالتوتر والتشنج. بل تختلف بعدة قضايا مع محيطها العام. وتفتش مؤخراً عن تصحيح هذا المسار. وبطبيعة الحال، زيارة وزير الخارجية التركي، مولود تشاويش أوغلو، إلى القاهرة، تصب بالاتجاه الأخير.

ثمة ضرورة إلى القول، بأن حزب العدالة والتنمية في تركيا، انتهج خلال العقدين الماضيين، سياسة حشر الأنف بكل شيء حتى مع الأعداء، إن لم نقل؛ كأحد مقومات الحكم. وتتقاسم مع إيران خلق مفاعيل أزمات المنطقة، سواء كلياً أو بمرتبة أقل منهما إسرائيل. إيران تتدخل لدعم حلفائها الشيعة، بينما تركيا تتدخل لدعم حلفائها السنة في كل من سوريا والعراق وقطر والكويت ومصر وليبيا.

هذه الدول، تتشظى بالتدخلات التركية، سواء بسلاح القوى الناعمة/ الحرب الخاصة أو العسكري. إن ما تفعله تركيا، يشبه الطفيلي، يقتات على أي شيء. بل يستمد قوته من الآخرين. همها الوحيد، أن تكون حاضرة على موائد سياسة الدول، بأي طريقة كانت، بصرف النظر عن المداخيل المؤدية لذلك. وبلا شك وجدت ضآلتها بحصان الإخوان المسلمين -الإسلام السياسي- للنفاذ إلى تلك المخططات وهي تخسر أكثر مما تكسب. وتناور بأوراق عدة محروقة، ثبت عدم جدواها. فرداً أو جموعاً. فراهنت فيما مضى بمصر على استمرار حكم ”جماعة الإخوان المسلمين“، بفترة الرئيس الأسبق، محمد مرسي إلا أنه سقط شعبياً دون مقاومة، إضافة لمحاولتها تثبيت دعائم البرزانيين، بإنشاء قواعد تركية بكردستان العراق، مروراً بدعم حكومة الوفاق السابقة برئاسة، فايز السراج في ليبيا أواخر عام 2019، وهؤلاء فقدوا دعم الإرادة الدولية، فتشتت ريحهم، دون قائمة لهم تذكر، وليس آخراً بسوريا بدعم الجماعات الإرهابية بمناطق سيطرتها، خاصة بمدينة عفرين المحتلة. بل تعددت أزمات تركيا نفسها مع إسرائيل وقبرص واليونان وأرمينيا. الثابت، أنها لن تتمكن من حل أزماتها بهكذا فكر دغمائي. ولو حاولت في ذلك مراراً. ومن رابع المستحيلات. وينطبق عليها مقولة ”مستحي ومشتهي“ بآن معاً. لو تسمح الظروف لتركيا لأفنت الكرد عن بكرة أبيهم. ولن يثنيها عن هدفها هذا طالما المجتمع الدولي متقاعس عن أداء دوره أو يكيل بمكيالين. وهو ما حدث، ويحدث كثير من المرات، مع الكرد أنفسهم. ولكن في زمان ومكان غير محددين. وتدخلت أيضاً في مصر، وهو ما سنبينه الآن.

توترت العلاقة بشدة بين القاهرة وأنقرة عام 2013 في أعقاب الإطاحة بالرئيس، محمد مرسي؛ المنتمي لـ ”جماعة الإخوان المسلمين“. وتصنفها مصر على أنها ”إرهابية“. أما حليفها، أردوغان، فوصف نظيره المصري بأنه ”طاغية“، وأنه لن يتواصل أبداً مع شخص مثله. لكن الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وسوريا، أذن بعودة العلاقات. بدأها وزير الخارجية المصري، سامح شكري الشهر الماضي، بزيارة إلى تركيا، كما أجرى الرئيس المصري اتصالاً هاتفياً بأردوغان، بهدف إظهار تضامن بلاده مع أنقرة، عقب الزلزال. وهذا يعني أن استعادة مسار العلاقات، باتت مسألة وقت؛ لإنهاء عقد من القطيعة، وفق تعبير، تشاويش أوغلو، والذي قال: ”اتفق على طي صفحة التوتر، واتخاذ خطوات لعودة العلاقات لطبيعتها“.

لكن يبقى أن نطرح سؤالين، الأول: ما آفاق العلاقة بين تركيا ومصر في ضوء تطور المسار الدبلوماسي؟ للإجابة على ذلك، يبدو أن العلاقة الثنائية، ستذهب إلى ما هو المتوقع منها، نحو تطور متسارع. وعليه، يمكن رصد موقفين اثنين. سياسي: بدأ منذ المصافحة بين السيسي وأردوغان، في نوفمبر الماضي، على هامش افتتاح كأس العالم لكرة القدم بقطر. وقبل الحديث عن مسار إيجابي، لا تزال هناك ملفات عدة متعثرة. ترغب تركيا بإحراز تقدم على صعيد ملف ترسيم الحدود في مياه شرق المتوسط الغنية بالغاز، فضلاً عن الانضمام إلى منتدى غاز المتوسط الذي يتخذ من مصر مقراً له. في المقابل، طالبت القاهرة أنقرة بدعم مسار الانتخابات في ليبيا وإنهاء ملف استضافة عناصر ”جماعة الإخوان المسلمين“، إضافة لمطالبة قنوات تلفزيونية مصرية معارضة تعمل في تركيا التخفيف من حدة انتقاداتها لمصر. وآخر، اقتصادي: فبرغم من الخلافات السياسية إلا أن العلاقات الاقتصادية والتجارية لم تتوقفا، بل زاد حجم التبادلات من 4.4 مليار دولار عام 2007 إلى 11.1 مليار دولار في 2020، بحسب مركز “كارنيغي” للأبحاث. وتعتبر تركيا عام 2022 أول مستورد للمنتجات المصرية بقيمة 4 مليارات دولار. على أية حال، تحتاج مصر إلى انتعاش مالي وتجاري لاسيما في ضوء ارتفاع نسب التضخم وتدني سعر صرف عملتها المحلية، فضلاً عن سعيها لمواجهة النقص الحاد بالنقد الأجنبي. في هذا الإطار، تشهد العلاقة المصرية مع المملكة العربية السعودية جفوة غير معلنة، وربما التقارب التركي قد يكون بديلاً عنها بضخ استثمارات، وهو ما تعهدت به شركات تركية بضخ استثمارات جديدة في مصر بقيمة 500 مليون دولار.

أما السؤال الثاني: ما أثر تطور مسار العلاقة بين تركيا ومصر على الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا؟ الثابت أن تركيا، بحكم جوارها مع الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا لا تتوانى عن إلحاق الضرر بها سواء بعدوان عسكري أو بتحريك القوى الناعمة. ولتوضيح ذلك، فتركيا تكيل العداء لها على خلفية اتهامها بتهديد حدودها الجنوبية. وإن تفعل، فلأن الإدارة الذاتية تملك مشروعاً إصلاحياً، وليس لشيء آخر. ما يحدث بسوريا وتركيا الآن، أنها تمر بأزمة حالة. وليس _كما تعتقد تركيا_ تقدير موقف. مشروع الإدارة الذاتية يشخص الحالة ويعطي العلاج بينما تقدير الموقف التركي، يعبر عن رؤية ضبابية بصرف النظر أكانت صحيحة أم خاطئة. ومن هذا المنطلق، هاجمتها عسكرياً مرتين، في كل مرة، تسيء التقدير أيضاً، وقد لا ينتهي أبداً، طالما ترى الحقيقة من منظور واحد. بل قد تذهب إلى أبعد من ذلك، إلى جر هذا التقدير، وفق لعبة سياسية قذرة. ولا تتردد في فعلها، مهما كلفها الكثير. على أية حال، مارسته مراراً من قبل، مع كل من فنلندا والسويد، أثناء التوقيع على برتوكول انضمامها لحلف الناتو. واشترطت عليهما حينئذ لدخول الحلف أن يصفا الإدارة الذاتية بـ ”الإرهاب“. تجيد تركيا استخدام ورقة الابتزاز سياسي مع من يخالفها التوجه، خاصة مع خمسة مليون من قاطني الإدارة الذاتية. ومن المتوقع، أن تقدم تركيا على استخدام الابتزاز السياسي مع التقارب المصري أيضاً. تدرك تركيا أن الجالية الكردية في مصر كبيرة، ولها تأثير على مركز صنع القرار. وستحاول تركيا ثني مصر عن موقفها الداعم للإدارة الذاتية. إلا أنه مرة أخرى تسيء تقدير الموقف. فالموقف المصري، نابع من عدم تأزيم الأوضاع واتباع سبيل الحوار والمحادثات الدبلوماسية وليس انتهاج مسار المواجهة. وخير مثال على ذلك، رفض مصر لأي عدوان تركي محتمل على مناطق الإدارة الذاتية في الفترات الماضية.

خلاصة القول، قد يستطيع حزب العدالة والتنمية التركي، بقيادة رجب طيب أردوغان، تخفيض مستوى نسب التوتر مع دول المنطقة قبل إجراء الانتخابات الرئاسية التركية المقررة في يوم 14 أيّار/ مايو المقبل، ولكن الثابت أنها لن تنجح في إرضاء رأي الشارع التركي الغاضب من سياساته خاصة الاقتصادية منها، والتي جعلت منه على حافة الهاوية وبالأخص مع تداعيات الزلزال المدمر.

زر الذهاب إلى الأعلى