الزلزال وانعكاساته بين الثابت والمتحول

”كان يوم القيامة“، هكذا وصف الأهالي ليلتهم المرعبة التي عاشوها بعد تعرض مناطق الشمال الغربي السوري وتركيا إلى زلزال تصل قوته إلى 7,5 درجة على مقياس ريختر، وأسفر عن آلاف الضحايا والمصابين والعالقين تحت الأنقاض السكنية مع أضرار مادية في البيوت والمنشآت والطرقات.

بادئ ذي بدء، سارع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال بضع ساعات إلى إعلان حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر في الولايات العشر المتضررة من زلزال ولاية قهرمان مرعش، كما أعلن أنَّ الولايات العشر المتضررة من الزلزال أيضاً، هي ”مناطق منكوبة“. وعلى غرار ما فعله أردوغان، فعله مجلس الوزراء السوري من اعتبار المناطق المتضررة في محافظات حلب واللاذقية وحماة وإدلب مناطق منكوبة، لكن بعد خمسة أيام.

حري بنا التطرق إلى ما يعنيه ”المنطقة المنكوبة“، وهو مصطلح سياسي يتعلق بآلية طلب مساعدات الإغاثة الدولية، وهو يخضع لمعايير دولية تحدّ من صلاحيات السلطات الوطنية في كيفية التصرف بهذه المساعدات. ولذا في حالة المناطق المنكوبة سيكون للمنظمات الأممية الإنسانية دور في إدخال المساعدات وتوزيعها، وبالتالي الاستقلالية. واستناداً إلى ما سبق، فكلا النظامين التركي والسوري يمارسان الدور ذاته في الاستثمار بمصطلح ”المناطق المنكوبة“، وتسييس المساعدات الإنسانية والإغاثية، لكن كل واحد على طريقته الخاصة.

ما يحدث في حالة الزلزال المدمر أن تركيا تمارس العهر السياسي بوقاحة صلف فيما النظام السوري يمارس الاستثمار السياسي بحذاقة متناهية، ولكن يبقى التساؤل المطروح، كيف يتم ذلك؟

منذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنّ مناطق قهرمان مرعش التي أصابها الزلزال، مناطق منكوبة كان يمارس العهر السياسي إذ استجدى دول العالم كافة لمد يد العون بفرق الإنقاذ لبلاده وفي الوقت نفسه، هو يقول بإنه: ”يملك أضخم فريق إنقاذ في العالم“. كما يقر بعجزه وفشله في الحد من الكارثة على حد قوله: ”بالطبع هناك ثغرات، من المستحيل الاستعداد لكارثة كهذه”. ناهيك عن ذلك بأن الرئيس أردوغان، يريد أن يجمّل أفعاله بأنه سيقوم بإحياء منطقة قهرمان مرعش خلال عام ونسي بأن «العليق عند الغارة ما يفيد».

في المقابل، تدرك المعارضة التركية جلياً بأن الرئيس أردوغان قد قاد تركيا إلى الهاوية، وهي تتهمه بتقصيره بتصميم مبانٍ لا تحمل مثل هذه الهزات بشكل كاف. وقال المؤسس لشركة cribstohe straegie cmacra مايك هاريس: ”إذا أسيء التعامل مع جهود الإنقاذ وأصيب الناس بالإحباط، فهناك رد فعل عنيف“. وتوقع هاريس: ”انهيار الليرة التركية حال فوز أردوغان بالسلطة لفترة ولاية جديدة لأنه لن تكون هناك ثقة مع سيناريو مصطنع لن يستمر طويلاً من الزمن“. أما زعيم المعارضة التركية كمال أوغلو، قال إنه ”إذا كان هناك شخص واحد مسؤول عن هذا، فهو أردوغان“. تماشياً مع ما تم ذكره، فأن فوز أردوغان سابقاً على ظهر حصان كارثة 1999 يستعد خصومه للإطاحة به على أنقاض مأساة 2023 حيث أن الثابت بالمرحلة القادمة إن كان هناك قدرة للرئيس أردوغان على الاستجابة لتداعيات الزلزال المدمر والتي ستحدد مصير نجاحه في الانتخابات الرئاسية من عدمها.

أما النظام السوري يمارس الاستثمار السياسي بالزلزال بحذاقة متناهية، ويظهر نفسه بمظهر الخيل التي لا تستطيع الجري نظراً للرسن المربوطة عليه وكأن لا حول له ولا قوة بسبب العقوبات. فهل يمكن تصور بأن هناك رئيس دولة بعد أربعة أيام من زلزال مدمّر يضرب بلده ويسجل آلاف الضحايا والمصابين حتى يظهر على شعبه وعلى وسائل الإعلام مبتسماً وكأن شيئاً لم يكن ويعلن نظامه على مضض أربعة محافظات سورية ”مناطق منكوبة“؟

وتنطوي وجهة النظر أنْ لا مناص للنظام السوري للهروب من جحيم العقوبات سوى بإعادة بعض الهيبة وبكيفية جعل الكارثة فرصة لخوض معركة مع الغرب ”غير الإنساني“ على قول الأسد في حلب، والذي يمنع المساعدات التزاماً بـ ”قانون قيصر“. وبطبيعة الحال، هناك مؤشرات على صفقة سياسية برعاية أممية مع النظام السوري. مؤشرات حصلت بعد أيام من وقوع الزلزال، تفسر لماذا تأخرت الاستجابة في سوريا؟ ملامح هذه الصفقة وفق المعطيات السابقة تم بضغوط عدة، فعلى ما يبدو ضغطت الدول المانحة للمساعدات على النظام لرفع سعر صرف دولار الوارد من قبلهم.

في المقابل، لم يعلن النظام السوري مناطق سيطرته المتأثرة بالزلزال فوراً، بهدف ألا يكون للمؤسسات الدولية والأممية مقدرة على توزيع المساعدات دون تدخلها به، وتمنحها خيارات لنقل المساعدات دون الاقتصار على آلية (عبر الحدود)، ويتسق ذلك مع مقاربتها بتفضيلها العمل من خلال الدولة ومؤسساتها بغض النظر عن شرعيتها. فالنظام السوري بعد كل هذه الخسائر المدوية التي مني بها خلال الحرب لا يملك سوى القيام بحركات تنفس صناعي لاقتصاده المتهاوي اعتماداً على حركات الحوالات الخارجية الواردة إليه من أجل رفد المصرف المركزي بالقطع الأجنبي.

الزلزال المدمر يعكس عدم تأثّر فرقاء الصراع بهول الكارثة لتجاوز خلافاتهم وانتهاز المناسبة لتماسٍ وتواصلٍ لأغراض إنسانية بحتة. فمناطق نفوذ الفصائل المسلحة الموالية لتركيا بقيادة الائتلاف السوري المعارض يمنع دخول المساعدات من معبر عون الدادات، في منبج، وفي نفس الوقت يستقبل القافلة من إقليم كردستان العراق ويلعب على الوتر الكردي الكردي بأوامر من المـخابرات التركية. وعلاوة على ذلك، فأن الأمم المتحدة، تقول بإن، محمد الجولاني متزعم هيئة تحرير الشام المسيطر على إدلب، يمنع هو الآخر حكومة الإنقاذ إدخال المساعدات إلى إدلب. أما النظام السوري، فهو يصنف المناطق المنكوبة إلى درجتين أولى؛ في الساحل والداخل وهو راض عن عما يحدث، وثانية؛ في الشمال، وينعتهم بالإرهابيين برغم من أن الفاجعة لكلتا المنطقتين واحدة.

ولعله من المفيد التأكيد بأن الدولة التركية وسوريا تتعاملان مع حادثة الزلزال من جهة تمرير فرق الإنقاذ أو المساعدات الإغاثية من مبدأ عنصري شوفيني، إذ برغم من أن الإدارة الذاتية جهزت قوافل مساعدات وصهاريج تدفئة لإغاثة المناطق المنكوبة، فأنه يتم النظر إلى المناطق المنكوبة باعتبار سكانها هم من الكرد ولا يستحقون العطف أو الرفق. فمثلاً، لا توزع المساعدات على المحتاجين إلا بناء على السؤال التالي: ”هل أنت عربي أم كردي؟“ لا يقدمون المساعدة لمن يقولون، إنهم أكراد عندما يُطلب منهم ذلك. وبصرف النظر عن عدم السماح بدخول المساعدات أو موافقة حكومتي السورية والمؤقتة بإدخالها، فأن الحقيقة التي لا جدال فيها، أن الكرد محاصرون بالموت من كل مكان. ويمكن القول إن ما تلا الزلزال من رهاب حكومي تجاه الشعب، وبالأخص الكرد أشد وطأة عليهم من الزلزال نفسه. الكرد يموتون مرتين، مرة على يد الزلزال ومرة على يد الحكومات الفاشية سواء في جنديرس أو عفرين أو أحياء الشيخ مقصود والأشرفية.

على المستوى العملي قد تختلف أرقام الضحايا والمصابين والمفقودين في المناطق المنكوبة سواء في تركيا أو سوريا بكل شيء ما خلا الإنسانية التي فقدوها وتحلت بها الإدارة الذاتية فقط في ظل ظروف الزلزال المدمر. ومنذ لحظة الزلزال الذي ضرب سوريا في السادس من هذا الشهر فبراير/ شباط الجاري، أعلنت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا عن استعدادها في دعم جميع المناطق المنكوبة من سوريا دون استثناء. وطالبت المجتمع الدولي بالضغط على جميع الأطراف لفتح المعابر لدخول المساعدات إلى المناطق المنكوبة جراء الزلزال. وقالت في بيان، إن ”أبوابها مفتوحة أمام الجميع” لتقديم أي مساهمة في مجال الصحة والمستشفيات والرعاية، واستقبال المتضررين من خارج مناطقها“. إن في الأصل، كل ما كان يقال في النشرات أو التحليلات أو الخطابات السياسية من قبل تركيا وسوريا عن السيادة الوطنية والأمن القومي كانت مجرد كذبة وفقاعة صابون أمام لحظة حقيقة كشفت بها الإدارة الذاتية مدى فشل الحكومات الاستبدادية، وكما يقال: ”ذاب الثلج وبان المرج“، وتفسيراً لذلك، فما من شك بأن قيم النخوة لدى الشعوب الأصيلة ثابتة بينما رذائل وفساد الحكومات متحولة.

زر الذهاب إلى الأعلى