الشّرقُ الأوسطُ الجديدُ يبدأ من تصحيح معاهدة لوزان

في الشّرق الأوسط هناك مشكلتان حلُّهما مرتبط بالسياسات العالمية أكثرَ من ارتباطه بسياسات الدول الإقليمية والحركات الداخلية؛ الأولى هي القضيّة الكرديّة وكردستان والثانية هي المسألة الفلسطينيّة وإسرائيل. في العالم العربي يزعمون أنّ حلّ المشكلة الفلسطينية هو البداية والأساس لحلّ المشاكل والأزمات في الشرق الأوسط، كذلك عند حدوث أي صراع أو نشوب معارك أو أيّ تطوّر للعلاقات بين الفلسطينيين وإسرائيل فإنّه يتمّ مباشرة الحديثُ عن الشرق الأوسط وكأن إسرائيل أو فلسطين هي الشرق الأوسط فقط. ولكنّ الموضوع الأساسي الذي لا يريدون إظهار حقيقته ولا يعترفون أنّه مشكلة مركزية في الشرق الأوسط ولا يريدون أنْ يزيحوا الستار عن حقيقته هي المسألة الكردية. ولذا إنْ أمعنا النظر في التطورات التي حدثت في الشرق الأوسط تحت مسمّى الربيع العربي منذ 2011، والتي أطلق عليها القائد الكردي عبد الله أوجلان قبل ذلك بزمن بعيد “ربيع الشعوب” فسنجد هناك ثلاث دول رئيسة قامت بالتدخل في الحركات في البلدان العربية وهي تركيا وإيران والثالثة هي إسرائيل المستترة خلف ستار الصمت حيث قامت بإدارة هذه الحركات والوحدات المرتبطة بها عن طريق مخابراتها.

استغلّت تركيا وإيران التطوّرات التي حدثت في الشرق الأوسط لتحقيق طموحاتهما التوسعية وتدخّلتا في كل من سوريا وليبيا واليمن وتونس والعراق ومصر. حيث تدعي إيران أنها تمثل العالم الشيعي وتركيا تزعم انها تمثل العالم الإسلامي السني. ولكنّ إسرائيل كانت حذرة في مقاربتها للربيع العربي حيث رأت أنه إذا انتصرت الديمقراطية في الشرق الأوسط فإن ذلك لمصلحتها لأنّ الديمقراطية لا تعارض الديمقراطية من جهة ومن جهة أخرى كانت متخوّفة من صعود الحركات الإسلامية المتطرفة. في تموز من عام 2015 نشرت صحيفة (swissinfo SWI  ) أنّ السياسيين الإسرائيليين يرون الثورة في مصر خطراً استراتيجياً وذلك خوفا على معاهدة كامب ديفيد والشراكة الاستراتيجية التي كانت قد عقدتها اسرائيل مع نظام حسني مبارك. طبعا هؤلاء السياسيين قاموا بدفع الدولة العبرية بالضغط على الجيش المصري لوضع العراقيل أمام انتقال السلطة إلى الإخوان.

هذه الدول الثلاث ذات علاقة مباشرة بالقضية الكردية والفلسطينية، وكلُّ تغييرٍ في الشرق الأوسط سيطالهم بكل تأكيد، ولذا تسعى كل منها أن تنأى بنفسها أن تكون هي الضحية في التغييرات وذلك ألّا يتم الحديث عن قضاياها الداخلية بأيّ شكلٍ كان وأنْ تحلَّ هي هذه القضايا بحسب مصلحتها.

لماذا الشرق الأوسط الجديد؟

مع انتشار وتوسع رقعة الصراعات والخلافات في الشرق الأوسط علم الجميع من دون شك أن الشرق الأوسط الجديد يتشكل وقاموا بالاستعداد للتغيرات المحتملة وتحركوا وفق خططهم ومشاريعهم الخاصة لأنّ قراءة كل من إسرائيل وتركيا والعالم العربي والحركات السياسية الأخرى للمشهد في الشرق الأوسط كانت مختلفة بمعنى أن كل من إسرائيل وتركيا وإيران تريد شرق أوسط بحسب مصالحها.

ترى من أين جاء مصطلح الشرق الأوسط الجديد؟ وكيف كان الشرق الأوسط القديم؟ ولماذا يحرك الحديثُ عن تغيير الشرق الأوسط مخاوفَ تركيا وإيران وإسرائيل؟

في عام 1914 كانت الدول الرأسمالية في سباق لتقاسم الأسواق العالمية وبحجة أن فرانس فرديناند ابن ملك النمسا قد قُتل على يد طالب صربي كانت قد دخلت في صراع دموي عرف بالحرب العالمية الأولى. كان من نتائج هذه الحرب أنْ رُسمت حدودٌ جديدة في الشّرق الأوسط بحسب مصالح الدول المنتصرة وهي: (فرنسا وبريطانيا وإيطاليا). حيث تم تجزئة بعض الدول ونشأت دول جديدة، كذلك أصبحت بعض الشعوب ضحية، ولم يكن لها نصيب من تقسيم الشرق الأوسط. فأغلبية الشعوب التي كانت خاضعة لسلطة الدولة العثمانية المهزومة انفصلت عنها ونشأت دول جديدة على أنقاض الدولة العثمانية بعد سلسلة معاهدات مثل (القاهرة وسيفر وانقرة وسان ريمو) والتي انتهت بتوقيع معاهدة لوزان. انقسمت كردستان بين أربع دول ومنذ ذلك الحين أصبحت القضية الكردية العقبة الأكبر والمشكلة الأصعب في الشرق الأوسط وبشكل خاص في تركيا وسوريا والعراق وإيران.

من جهة أخرى كان هناك محاولات لتشكيل دولة إسرائيل منذ 1891 حتّى وعدت بريطانيا عام 1937 بتقسيم فلسطين وأن تكون  %33منها لإسرائيل إلى أن تم الإعلان رسميا عن دولة اسرائيل عام 1948 ونستطيع القول أن القضية الفلسطينية أصبحت تتصدر المشهد منذ ذلك الحين. وغني عن القول أنّ التقسيمات التي حدثت في الشرق الأوسط تسببت في الكثير من الحروب والثورات والمجازر والإبادات والنهب والتهجير والتغيير الديمغرافي وفقدان الأمن والسلام. الأنظمة التي أدارت الحكم في هذه الدول المتشكلة حديثاً لم تكن أنظمة نابعة من الإرادة الشعبية ولا هي عملت لمصلحة شعوبها. لقد عملوا بشكل مباشر كموظفين لتنفيذ إرادة المقسّمين الأساسيّين للشرق الأوسط. لم يحلوا يوماً مشكلة ولا كان متوقعا منهم أن يفعلوا ذلك لأنّ النظام الذي تم إنشاؤه نظام وضعته الدول الاستعمارية لخدمتها بالدرجة الأولى.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 كان من المهم بالنسب لأمريكا كبح كل من روسيا والصين لضمان سيطرة وسيادة القطب الواحد، ولذا ولتتحرك في مواجهة هاتين القوتين كان يجب أن تضمن سيطرتها على “أوراسيا”. ولتحقيق هذا الهدف من المهم جدا تنفيذ مخطط الشرق الأوسط الكبير (أو الشرق الأوسط الجديد) للتحكم بمنابع البترول والطاقة. ولذلك تم اقتراح مشروع الشرق الأوسط الكبير عام 2004 من قبل الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش على الدول الصناعية الكبرى (مجموعة الثماني) للتحالف مع أمريكا من أجل تنفيذه.

الشرق الأوسط الذي تشكل بعد معاهدة لوزان عام 1923 (كما أسلفنا) يعيش حالة من الأزمات والصراعات المذهبية والطائفية والعرقية حيث أصبح بؤرة لإنتاج مجموعات المرتزقة والإرهاب إلى جانب الحركات الثورية المطالبة بحقوقها كحقوق الشعب الكردي والفلسطيني والأقليات الأخرى، حيث كانت هذه الأزمات سببا في موجات من الهجرة ونقل مشاكل الشرق الأوسط إلى داخل أوروبا ودول الناتو مما ينعكس على الأمن والاقتصاد العالمي أيضاً. ولذا فمن أجل بناء الشرق الأوسط الجديد الذي يكون أساساً لسيطرة أمريكا على أوراسيا من الضروري حل المشاكل الاقتصادية والمعيشية والقومية في الشرق الأوسط وعلى رأسها مشكلة الشعبين الكردي والفلسطيني.

إسرائيل وإيران وتركيا والشرق الأوسط الجديد

لهدم بناء كبير من المنطقي أن ّالأمر لا يتم مباشرة، ففي البداية لا بدّ من هدم الأماكن الضعيفة ثم الانتقال إلى النقاط التي تسبب الضعف وهكذا حتى الوصول إلى الأساسات من أجل إنشاء مبنىً جديد قوي على هذه الأنقاض. كذلك عندما يتعلق الأمر بنظامٍ قائم في الشرق الأوسط عمره 100 عام فليس من الممكن هدمه مباشرة وتشكيل نظام بديل مكانه، لذلك فالتغيير يحتاج إلى مراحل قد تستغرق وقتاً طويلاً (من 30-50 سنة على الأقل).

إذا أمعنا النظر نجد أنّ ليبيا وإسرائيل ولبنان وسوريا والعراق واليمن والسودان وكردستان كلَّها تعيش حالة صراع وحروب. من دون شك اشتعال فتيل الأزمة وتصاعد وتيرة القتال والخلافات ليس من باب الصدفة. وخاصة منذ 2011 حيث بدأت العديد من هذه الأحداث بشكل متزامن. وفي نفس الوقت نجد تحركاً حثيثاً من جانب كل من أمريكا وروسيا وتركيا وإيران وإسرائيل وكذلك التحالف الدولي ضد داعش. فما الذي يجري؟

إنّ كلّ طرف يسعى مع حلفائه لتشكيل الشرق الأوسط الجديد بما يناسب تطلّعاته ومصالحه فكل طرفٍ له رؤيةٌ خاصة للشرق الأوسط. بما يتعلق بالشرق الأوسط الجديد هنالك مثلث من خارج العالم العربي متمثلاً في تركيا واسرائيل وإيران تعيش فيما بينها تناقضات وخلافات وكذلك تقوم بعقد الصفقات السرية فهي متفقة مختلفة بنفس الوقت.

إذا عاينّا الأمر من وجهة نظر إسرائيل فسنجد أنه منذ قيام دولة اسرائيل عام 1947 لم يتوقف الصراع بينها وبين الفلسطينيين. حدثت معارك وصدامات كثيرة وفي كثير من الحالات تجاوزت رقعة المعارك حدود فلسطين واسرائيل. الحكومات العربية المجاورة لإسرائيل وإن كانت غير مناهضة لإسرائيل سواء سرا أم علانية فإن شعوبها بحكم صلتها الدينية لم تستطع أن تتقبل الدولة الإسرائيلية. ولا تستطيع هذه الحكومات أن تعلن قبولها لإسرائيل إرضاءً لشعوبها. طبعاً في حالة كهذه من عدم الاستقرار فإن إسرائيل لن تنعم بالأمن والسلام، ولذا فإن الشرق الأوسط الجديد بالنسبة لإسرائيل يعني كسر هذه الحواجز. فمن ناحية التعاملُ بشكل رسمي مع الحكومات العربية ومن جهة أخرى تعمل من الناحية الاقتصادية والثقافية ليتم تقبلها من المجتمعات العربية. لذا فاتفاقيات 1979 مع مصر وحتى الاتفاقيات مع الامارات والبحرين والأردن ومحاولة عقد الاتفاق مع السعودية تندرج ضمن هذا الإطار. باختصار فالشرق الأوسط الجديد بالنسبة لإسرائيل يعني التطبيع مع العالم العربي وإزالة الخلافات وإنهاء القضية الفلسطينية والسيادة الاقتصادية على الشرق الأوسط. يا ترى كيف تستطيع اسرائيل تحقيق هذه الأهداف إن كانت اسرائيل الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط وأمن إسرائيل مرتبط بأمن المنطقة. من جهة أخرى فإنّ وجودها هو ضمان لمصالح دول الغرب في الشرق الأوسط، حيث شددت بريطانيا وأمريكا والناتو على أن دعم وحماية إسرائيل هي حاجة وضرورة استراتيجية. من دون شك يجب تحديد الأمثلة المناقضة لإسرائيل في المنطقة ليكون هناك أعداء لهذه الديمقراطية حتى يثبتوا ادعاءاتهم ومن هذا المنطلق تم تحديد إيران كخطر كبير ليس فقط على إسرائيل وإنما على منطقة الخليج الفارسي (العربي) والشرق الأوسط حيث تنتشر العشرات من القواعد الأمريكية في الشرق الأوسط تحت مسمى مواجهة خطر إيران. فهي تدعي أنها هنا لحماية الحلفاء الإقليميين، ولكن في الحقيقة هي هنا لحماية إسرائيل ولتنفيذ المشاريع الاستراتيجية لأمريكا والناتو. ومن نتائج إظهار إيران كخطر كبير في الشرق الأوسط الاتفاق مع إسرائيل مثل الاتفاقية الابراهيمية وتراجع القضية الفلسطينية وازدهار المشاريع الاقتصادية كخط التجارة الواصل من الهند وحتى إسرائيل.

بالنسبة لتصاعد وتيرة المعارك بين حركة حماس وإسرائيل منذ السابع من شهر تشرين الثاني؛ إن لم تكن إسرائيل نفسها وراء إشعال هذه الحرب فإنها بحد ذاتها تخدم مصالح إسرائيل، فلا شيء يحدث من تلقاء نفسه في الشرق الأوسط. لقد جاءت حرب حماس في وقت وصلت فيه تطورات الأحداث في الربيع العربي منذ 2011 وظهور داعش وبعد 12 عام وصلت إلى مرحلة تعبت يئست فيها الدول وتبعثرت المجتمعات وعاشت الأزمات الاقتصادية وتغيرت موازين القوى. يا ترى ألم تكن هذه التطورات الاقتصادية معدة من أجل تغيير الشرق الأوسط حيث الأولوية الأهم هي أمن إسرائيل. لكن هذا لا يعني أن مصالح إسرائيل تديرها بريطانيا أو أمريكا فقط، فإسرائيل لها سياساتها الخاصة. ولهذا عندما تحدثت أمريكا عن الانسحاب من الشرق الأوسط وضعت إسرائيل القضاء على حماس نصب أعينها، وهكذا ستجبر إيران وحزب الله على التدخل وقدذى التدخل ولهذا رأينا كيف أن أمريكا جاءت بقوة عسكرية كبيرة برية وبحرية وجوية إلى الشرق الأوسط لتمنع توسع رقعة الصراع.

إن إيران من الدول التي لها سيادة وسيطرة تاريخية في الشرق الأوسط، فبعد انهيار امبراطورية الشاه رضا بهلوي المؤيد لأمريكا على يد الثورة الشعبية الإيرانية عام 1979 وصعود نظام إسلامي شيعي إلى الحكم تغير وضع إيران بالكامل وخاصة أن الخميني (أول رئيس بعد بهلوي) كان قد رفع شعار توسيع الثورة، وتحدث عن تحرير فلسطين والقضاء على إسرائيل وأمريكا. مع مجيء النظام الإسلامي نشبت بين العراق وإيران حرب دامت ثماني سنوات. وبعد هذه الحرب أصبحت إيران تهديداً للعالم العربي أو هكذا أرادت لها أمريكا مهندسة الاستراتيجية الغربية. هناك العديد من الشكوك أنّ من أوصل الخميني إلى الحكم هما الناتو وأمريكا لينفذوا مخططات جديدة في الشرق الأوسط وخاصة أنهم وضعوا المنطقة في أزمة حقيقية بين العالمين السني والشيعي.

لتحمي إيران نفسها وتستطيع الاستمرار في سلطتها وسيطرتها في الشرق الأوسط فهي لديها مشاريع بالنسبة للشرق الأوسط، وتسعى للتوسع باسم التشيّع. الشرق الأوسط الجديد بالنسبة لإيران يعني سلطتها المطلقة على كامل أراضيها الحالية دون التطرق لحل القضية الكردية والأقليات الأخرى داخل حدودها، كذلك التوسع باتجاه العراق وسوريا ولبنان (الهلال الشيعي).

ولكن باستثناء مخطط الدول المسيطرة فهل تتفق مشاريع كل من تركيا وإيران واسرائيل؟ نجدها تهدد بعضها وتتخذ المواقف المعادية لبعضها؟ ولكن كل واحدة منها تمضي في تنفيذ مشروعها من ناحية ومن ناحية أخرى تسعى لإزالة العقبات الكبيرة من أمام الآخرين. وهنا تُطرح الكثير من الأسئلة؛ على ماذا يتفقون وعلى ماذا يختلفون؟

فيما يخص الشرق الأوسط من وجهة نظر الدولة الثانية في الناتو، فقد نشأت تركيا عام 1923 ويتم دعمها من قبل القائمين على معاهدة لوزان كي تبقى قائمة على حدودها وهي لا تتقبل الشعوب التي ضمن حدودها وخاصة الشعب الكردي وقضية كردستان. لقد كانت دائما الحارس على مصالح الناتو وأمريكا في المنطقة وتحركت وفقها. في مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طرحته أمريكا وتكون دعامته الديمقراطية والتطور الاقتصادي وحقوق الإنسان تحت مسمى الإسلام المعتدل كانت تركيا مكلفة بإعداد الأرضية المناسبة للشرق الأوسط الجديد ولهذا استطاع النظام التركي (AKP) خلال مدة قصيرة أن يجمع حوله العالم العربي الاسلامي السني. ومع بداية الربيع العربي تغلغلت تركيا في الكثير من المناطق مثل ليبيا وسوريا والعراق وكذلك عملت على زرع الفتن وزعزعة الاستقرار في البحر الأبيض المتوسط ودخلت في نزاع مع اليونان…الخ. من دون شك أن تركيا لا تستطيع القيام بكل هذه التحركات بدون موافقة ودعم الناتو. دعنا لا نصغي لما يقال على الإعلام أو الأقاويل لنمعن النظر فيما يجري على الأرض. ماذا يجري؟ تركيا هي شريك في بناء الشرق الأوسط الجديد وهي تتحرك وفق على هذا الأساس فهي تهيئ الأرضية للمشروع بتدخلاتها في مجريات الأحداث. وضعت المنطقة بأجمعها في حالة من الأزمات والصراعات؛ نشرت العنف وفتتت المجتمع ودعمت الإرهاب، ولكننا حتى الآن لم نجد أن الناتو أو أمريكا رأت في تركيا خطراً، إنما الحديث دائماً يكون عن إيران. فالخلافات بين الناتو وأمريكا وبين تركيا هي مجرد خلافات على الإعلام فالجميع شركاء في بناء الشرق الأوسط الجديد، فبدون الناتو لا تستطيع تركيا الاستمرار. ولكن تركيا لديها سياساتها الخاصة ولديها مشاريعها الخاصة وتريد تشكيل الشرق الأوسط الجديد بما يناسبها. وبالنسبة إليها فالشرق الأوسط الجديد يعني تطبيق الميثاق الملّي وإنهاء القضية الكردية، ليس فقط في شمال كردستان إنما في جميع أجزاء كردستان حيث تشترك مع إيران وتختلف مع الناتو وأمريكا في هذه النقطة.

تجاوز لوزان أم تكرارها

إذا قارنّا وجهة نظر كل من الدول الإقليمية الرئيسة (تركيا-إيران- اسرائيل) للشرق الأوسط الجديد فسنجد أنهم كلهم يتحدثون عن الشرق الأوسط الجديد ولكن بشكل مختلف. الشيء المشترك فيما بينهم هو إنهاء إرادة الشعوب وتوسيع رقعتها الجغرافية وإدارة موارد الشرق الأوسط وتطبيق مشاريعها الخاصة قدر الإمكان في إطار الاستراتيجيات الصينية والأمريكية والروسية. لذا يبدو في بعض الأحيان عدم الثقة بين إسرائيل وأمريكا، وإيران وروسيا، وتركيا وأمريكا وتبتعد عن توازناتها. تتكرر هذه الأمور في الإعلام ولكن في الحقيقة مرجعية كل طرف من الأطراف واضحة. لكن ولأن العالم يعيش حالة أزمة ومخاض ومرحلة بناء النظام الجديد وعدم الوضوح في سياسات الدول الكبرى ينعكس على سياسات الدول الإقليمية أيضاً؛ حيث نجد حلفاء أمريكا يتقربون من روسيا، والأعداء التاريخيون يتراضون، وتنعدم الثقة بين “الأصدقاء” وفي بعض الملفات نجد الأعداء يتفقون مثلما نجد الاتفاق بين تركيا وإيران في مواجهة الإدارة الذاتية الديمقراطية والقواعد الأمريكية في المنطقة.

لذلك فمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي أعلنه الرئيس الأمريكي جور دبليو بوش ومقالة (حدود الدم) التي نشرها الجنرال الأمريكي رالف بيترز في عام 2006 هو إنشاء شرق أوسط جديد. ولكن بالنسبة إلى هذه الدول الإقليمية الرئيسة فالشرق الأوسط الجديد هو تجديد لمعاهدة لوزان واستمرار للاحتلال وخاصة تركيا التي لم تكف عن الحديث عن الميثاق الملي والوطن الأخضر والعثمانية الجديدة منذ وصول AKP إلى السلطة. كذلك إيران فهي رفضت المشرع الأمريكي وطرحت الهلال الشيعي بديلاً لذلك. هاتان الدولتان تخشيان تجزئة أراضيهما وضياع دولتيهما وكل تحركات تركيا وإيران في المنطقة منذ بداية الربيع العربي عام 2011 تندرج ضمن هذا الإطار. إذا هما ترغبان في “لوزان” جديد يضمن استمرار هيمنتهما على المنطقة توسعهما فيها ولا يضمن حل مشاكل وقضايا الشعوب. على هذا الأساس هما لا تقبلان حل القضية الكردية أو أي حل للأزمات التي تعيشها المنطقة إلا في نطاق رؤيتها ومصلحتها فهما تعلنان وتصرحان أن السلام في الشرق الأوسط يبدأ بحل القضية الفلسطينية ولكنهما في الحقيقة تستغلان هذه القضة (مثلما تتحدث إسرائيل أحياناً عندما تختلف مع تركيا عن القضية الكردية). فأقوالهم في مكان وأفعالهم في مكان آخر.

من الضروري تجاوز معاهدة لوزان

إن الادعاء بأن القضية الفلسطينية هي قضية جوهرية ورئيسة في الشرق الأوسط -كما يدعي العالم العربي وإيران وتركيا- ليس ادعاءً صحيحاً. كما أن حل هذه القضية لن يحلب السلام للمنطقة والأزمات التي يعيشها الشرق الأوسط ليست مرتبطة بمسألة ما بمفردها، بل هي نتيجة التقسيم الخاطئ للمنطقة بعد الحرب العالمية الأولى ومرتبطة بمعاهدة لوزان حيث إنه عام 2023 سيكون قد مر مئة عام والشرق الأوسط في حالة من الصراع والأزمات والمجاعة والإبادات الجماعية.

عمل النظام العالمي ومن خلال الأنظمة القومية الديكتاتورية التابعة له على ضمان مصالحه على حساب الشعوب. وفي يومنا الراهن نجد العشرات من المنظمات الإرهابية منتشرة في الشرق الأوسط وتقوم بنهب وإرهاب المجتمعات.

النظام العالمي في حاجة لتغيير وتصحيح الشرق الأوسط لأن الوضع الحالي لم يعد يخدم مصالحهم حيث وضعوا هذا الأمر قيد التنفيذ بداية من أسر القائد أوجلان 1999 واحتلال أمريكا لأفغانستان 2001 وإسقاط نظام صدام حسين في العراق 2003 والربيع العربي 2011 وإنتاج داعش والمنظمات الإرهابية كالإخوان وغيرهم إلى محاولات تغيير الأنظمة الحالية وحتى تأجيج الحرب والصراع في غزة منذ 7.11.2023.

يجزم المراقبون أن مشروع الشرق الأوسط الجديد يتم تطبيقه ولكن لم يقدموا أية حلول. كما أنّ شكل المشروع لايزال غامضاً حتى الآن. ولكن مهما يكن فإنه من غير الممكن لأي مشروع أن يجلب السلام في الشرق الأوسط من دون تجاوز معاهدة لوزان وحل القضايا الرئيسة وعلى رأسها قضية الشعب الكردي.

بحسب الكاتب الألماني بيتر سكابر فإنّ ديمقراطية الشرق الأوسط التي طرحها القائد أوجلان كفيلة بإنهاء الصراع الطائفي والديني في الشرق الأوسط. لكن السؤال هو: هل توجد ديمقراطية في المشاريع الأمريكية أو في مشاريع أي طرف؟ وما دمنا نعرف ان ديمقراطية أمريكا والدول الأخرى هي مجرد ثوب مزركش للدعاية مثل تركيا التي طالما تمدح الديمقراطية ولكنها في الحقيقة نظام ديكتاتوري، فإنه من الصعوبة عندئذ تطبيق الحلول الديمقراطية في الشرق الأوسط لأن ذلك يتعارض مع مصالحهم لذا فإن تطبيق مشروع الشرق الأوسط الجديد يمكن أن يتم بإحدى هذه الأشكال:

  • تجاوز معاهدة لوزان وتصحيح الأخطاء التاريخية وخاصة تجاه الشعب الكردي، وجميع المشاكل في الشرق الأوسط، وتغيير الحدود الحالية وفق ما ورد في (خارطة حدود الدم).
  • الحفاظ على الحدود الحالية بين الدول ودعم الأنظمة اللامركزية. (الفدرالية للدول التي تعيش أزمات قومية وأقليات عرقية)
  • إعادة صياغة الأنظمة الموجودة بحجة الإرهاب ودعم ديمقراطية محدودة.

كنتيجة:

يوجد الكثير من المشاريع والرؤى المتعارضة في الشرق الأوسط. منها ما هو دولي ومنها الإقليمي، وقراءة كل منها لمشاكل الشرق الأوسط مختلفة عن الأخرى. وما يحدد مصير هذه الرؤى هو مدى قوة وشكل النظام العالمي والإمكانات المتاحة لتطبيقها.

حسب التطورات الحالية هناك محاولات لتغيير الشرق الأوسط ولن يبقى على حاله، وهذه التغييرات هي في خدمة أمريكا وحلفائها بالدرجة الأولى. إعادة تنظيم وصياغة الشرق الأوسط بما يتوافق مع الرؤى الأمريكية هو الأساس من أجل تطويق الصين وروسيا. لكن كيف سيكون شكل هذه التغييرات؟ وما هو موقع الكرد من هذه التغييرات؟ هذا ما لم يتضح بعد، ولكن المؤكد أنه من دون تجاوز لوزان وتصحيح أخطائها التاريخية والاعتراف بحقوق الشعب الكردي والفلسطيني فأي تغيير لن يجلب السلام للشرق الأوسط.

زر الذهاب إلى الأعلى