السودان صراع السلطة ومصالح الدول

آرجين ديركي

إنّ الصراع السوداني الحالي بين الجيش وقوات التدخل السريع ليس وليدة اللحظة، بل سبقته صراعات وانقلابات عسكرية منذ فترة ستينات القرن المنصرم، ولمعرفة وفهم ما يحدث الآن في السودان علينا العودة إلى فترة الخمسينات وفهم أزمة الصراع في الشرق الأوسط وبدايات تشكّل الجمهوريات والدول في المنطقة بعد استقلالها عن الدول المنتدبة لها من القوى الاستعمارية الكبرى مثل “فرنسا وبريطانيا”، فقد حصلت  في تلك الفترة حروب باردة عربية – عربية بين التيار القومي العربي بقيادة جمال عبد الناصر من جهة و الملكية المحافظة بقيادة السعودية من جهة أخرى.

وانتهى الصراع بين القومية والملكية في المنطقة بهزيمة التيار القومي عام 1967م بعد النكسة التي تعرّض لها العرب وسيطرة إسرائيل على سيناء المصرية والجولان السوري وأجزاء من الضفّة الغربية، وبعد  مؤتمر الخرطوم وصراع “اللاءات الثلاث ” ظهرت على الساحة عدّة دول عربية ذات الهيمنة العسكرية في حكم شعوبها وهي ” مصر وسوريا وليبيا واليمن والسودان والجزائر والعراق بالإضافة إلى منظّمة التحرير الفلسطينية ”  وحكمت بالقبضة الفولاذية؛ فبوادر الصراع في المنطقة ظهرت في تلك الفترة، وبشكل خاص الأزمة السودانية بانقلاباتها العسكرية، وبعدها دخلت المنطقة بوّابة ثانية للصراع السنّي الشيعي مع وصول الخميني إلى حكم إيران عام “1979م ” وإسقاط الملكية فيها، وعمل الخميني على تصدير الثورة الشيعية التي تطوّرت إلى حروب أهلية طائفية  في كل من العراق وسورية ولبنان وهي مستمرّة إلى الآن في المنطقة التي تُعرَف بالهلال الخصيب، واعتبرتها إيران منطقة نفوذ لها وامتدّت إلى أبعد منها أي إلي اليمن و البحرين الخ….  وانعكاسات هذه المرحلة أدّت إلى ولادة مرحلة جديدة وهي التي نعيشها الآن بعد الربيع العربي الذي عصف بالدول العربية من مشرقها إلى مغربها، وأدّت لظهور نوع جديد من الصراع وهو الصراع الإخواني والإسلاموي على السلطة، ويمكننا تسميته صراع التدمير الداخلي للقوى المُتصارعة التي خلّفت الخراب والدمار على الأرض وضياع الشعب بين الجهتين.

 فمحنة السودان تبدأ منذ الاستقلال عام (1956م) وإلى الوقت الحالي، حيث قامت بريطانيا بتجميع أعراق مختلفة ومذاهب وأديان في السودان بغية السيطرة عليها وعلى مساحتها الهائلة، والتي كانت تشكّل أكبر دولة من حيث المساحة في أفريقيا قبل تقسيمها إلى دولة السودان ودولة جنوبي السودان؛ ونتيجة هذا الكمّ الهائل من الثقافات والمذاهب فإنّ النزاع لم يتوقّف فيها يومًا بل تعقّدت المسألة أكثر فأكثر، فدعمت مصر أوّل انقلاب عسكري موالٍ لها عام “1956” بقيادة إبراهيم عبود إلى آخر انقلاب للبرهان وحميدتي في “2021م ” على القوى المدنية؛  حيث بلغت مجمل المحاولات الانقلابية العسكرية فيها إلى ستّ عشرة محاولة انقلابية، أي صار بلدًا يعيش في رحم ومخاض الانقلابات العسكرية من إبراهيم عبود ومروراً بجعفر النميري ووصولاً إلى البشير ثم الاطاحة به بعد ثورات الربيع العربي ووصولاً إلى البرهان وحميدتي، وما النزاع المندلع بين الطرفين إلّا نزاع على الهيمنة والسلطة في بلد أنهكته الصراعات والنزاعات  والانقلابات العسكرية، وهناك عدّة دول مستفيدة من الصراع المحتدم في السودان أهمها:

روسيا:

 تتواجد روسيا في السودان عن طريق مجموعات “فاغنر” وهي  شركة عسكرية روسية موازية للجيش النظامي، وتتوزّع على عدّة قارات وتتواجد على أراضي العديد من الدول الأفريقية ومنها السودان، وتربطها علاقات وثيقة مع قوات التدخّل السريع بقيادة حميدتي أحد أطراف الصراع الحالي، وتحدّثت بعض  المواقع الاستخباراتية والأمنية والتقارير الصحفية أنّ هناك صفقة بين فاغنر وحميدتي حول تزويد فاغنر لقوات التدخّل السريع بالسلاح بالمقابل تقوم قوّات التدخّل السريع بتزويد فاغنر بشحنات من الذهب المتواجد في جبل عامر والذي يسيطر عليها حميدتي، فمجملها هي مصالح اقتصادية لتعويض ما خسره الاقتصاد الروسي نتيجة الحرب الدائرة في أوكرانيا.

الولايات المتحدة الأمريكية:

إنّ المصلحة الأمريكية في السودان ليست فقط مطاردة النفوذ الروسي فيها كما في باقي المناطق في أفريقيا والشرق الأوسط، بل تتعدّى ذلك إلى المصالح الاقتصادية، فواشنطن كانت أكبر داعمي انفصال جنوبي سودان عنها للسيطرة على حقول النفط المستكشفة حديثا فيها، وتكون بذلك أوّل مسيطر على ثروات جنوب السودان، ناهيك عن مناجم الذهب والثروات الأخرى، بالإضافة إلى إنشاء  قاعدة عسكرية على شواطئ البحر الأحمر لكي تتحكّم من خلالها في مضائق البحر الأحمر من ناحية اليمن والقرن الأفريقي، وبذلك تسعى إلى طرد موسكو وبكين من قلب القارة السمراء وبسط نفوذها أكثر بعدما قلّصت نفوذ الدول الاستعمارية التقليدية “فرنسا وبريطانيا ” وحلّت مكانها كقوة مهيمنة على العالم، و خاصة تحكّم السعودية في أسواق النفط كأكبر مصدّر لها، ولكي تقوم بإنشاء سوق موازٍ لها وباحتياطات ضخمة تلبّي مصالحها في أفريقيا؛ ولذلك تدعم أمريكا الجيش السوداني بقيادة البرهان في مواجهة قوات التدخّل السريع التي تدعمها روسيا وتؤمّن لها السلاح والمعدّات العسكرية مقابل الذهب السوداني.

إسرائيل:

مصالح تل أبيب في السودان أيضا تتجاوز المصالح الاقتصادية، فهي تطمح إلى تشكيل حلف سنّي قوي وواسع في مواجهة الحلف الشيعي في المنطقة والذي تمثّله إيران، وتريد ضمّ السودان إلى الحلف السنّي ولكن عودة العلاقات التدريجية بين السعودية وإيران برعاية صينية أفشلت المخطّطات الإسرائيلية، ولذلك تطمح إسرائيل للتطبيع مع الخرطوم عن طريق علاقات وثيقة مع حميدتي الذي تدعمه اسرائيل بقوّة لتحقيق مصالحها، فالرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب ” تعهّد بإسقاط العقوبات عن السودان وبمبلغ “17”مليار دولار في حال التطبيع مع إسرائيل؛ لذا فإنّ السودان بحاجة إلى الاقتراض من جميع الدول بما فيها إسرائيل لإنعاش اقتصادها المتهالك أصلاً، كما أنّ إسرائيل تريد هذا التطبيع أيضًا؛ بسبب موقع السودان الاستراتيجي على البحر الأحمر ولجرّ الخرطوم إلى صف أثيوبيا في معركتها مع مصر على خلفية إنشاء سد النهضة، وبذلك تشكّل بطاقة ضغط عليها  لصالح إسرائيل.

عربياً الإمارات:

مصالح أبو ظبي تختلف عن مصالح باقي الدول، فهي تدعم الطرفين على حدّ سواء ووقّعت معهما معاهدات اقتصادية عديدة حسب صحيفة نيويورك تايمز، وكما أنّ للإمارات نفوذًا قويًا في الدول المطلّة على القرن الأفريقي في كل من الصومال وجيبوتي وأريتريا، فعلاقة أبو ظبي بالخرطوم تعود إلى أكثر من عقد، وما تنبّهت له الإمارات أنّ السودان هي السلّة الغذائية للإمارات بما تقدّمه من محاصيل زراعية لها بمجموع نصف ما تحتاجه من المنتجات الزراعية من السودان.

وأخيراً السعودية ومصر والكويت وليبيا:

 تُعتبَر السعودية أكبر مستثمر في السودان بقيمة / 36 / مليار دولار أغلبها في المجال الزراعي تليها الكويت ب / 8/ مليارات دولار وتليها مصر بـ / 3 / مليارات دولار ومعظمها صناعات وإنشاءات، ولليبيا أيضا ً حصّة في الاستثمارات وحسب التقارير الصحفية فإنّ خليفة حفتر قائد الجيش الليبي يدعم قوّات الدعم السريع من خلال إرسال شحنات من الأسلحة المتنوّعة له.

فالخلاصة: إنّ الصراع في السودان لم يهدأ يومًا منذ الاستقلال وإلى يومنا هذا؛ نتيجة خطط الاستعمار البريطاني الذي أجّج الصراع الطائفي والمذهبي فيها بما يتماشى مع مصالحه، وترك السودان لمصيره المجهول بعد الاستقلال عن المستعمر وإلى يومنا هذا، فكلٌّ من الدول الكبرى وكذلك الدول الصديقة والجارة تريد حصّتها من الصراع المحتدم فيها.

المقالة تعبر عن رأي الكاتب

زر الذهاب إلى الأعلى