العراق وتصاعد الأزمة السياسية.

العراق وتصاعد الأزمة السياسية.

يقف العراق أمام مفترق طرق من الأزمات السياسية المستفحلة والتي تعصف به الواحدة تلو الأخرى، ما يزيد المشهد تعقيداً في ظل انسداد الأفق السياسي، الأمر الذي يجعل من العراق وأزماته العديدة على صفيح ساخن، رغم كونه أحوج ما يكون إلى بصيص انفراجات.

وشهدت الأيام القليلة الماضية تصعيداً غير مسبوق للقوى السياسية في العراق إلى درجة التجاذبات السياسية المفتعلة، وصلت لحد اقتحام البرلمان من أتباع الفرقاء السياسيين، وفي المقابل ارتفعت الدعوات لقوى سياسية للجلوس إلى طاولة حوار وضبط النفس والتهدئة، وأيضاً وسط تدخل إيراني في الشؤون الداخلية العراقية، ازدادت حدته عبر سجال للكتل السياسية الشيعية، وفي ظل الاعتداء التركي الأخير أيضاً على زاخو في محافظة دهوك، والذي أدى إلى سقوط ضحايا مدنيين، خلفه فيما بعد توتر للعلاقة الدبلوماسية بين العراق وتركيا، إلا أن الخطر القديم المتجدد الذي ينفجر بين وقت وآخر ما يثيره تنظيم داعش الإرهابي من إرهاب وتدمير البنى الحيوية، الأمر الذي يؤكد على أن العراق وأزماته على صفيح ساخن.

  • تصعيد وسجال.

تتجه الأزمة في العراق إلى مزيد من الانسداد السياسي مع إصرار التيار الصدري على إجراء انتخابات مبكرة، فيما تطالب بقية القوى السياسية بإطلاق حوار وطني والتفاوض. وعليه يأمل مقتدى الصدر بإجراء انتخابات مبكرة على أن يكون شريكاً رئيسياً في أية حكومة جديدة، كحال الانتخابات الأخيرة التي أجريت في عام 2021، والتي نظمت بشكل مبكر بهدف تهدئة الاحتجاجات الشعبية المناهضة للطبقة السياسية في خريف عام 2019 ونال التيار الصدري حينها 73 مقعداً من أصل 329 نائباً في البرلمان. ويعتقد الصدر من خلال إجراء انتخابات مبكرة، أنه سيكسب فيها مقاعداً أكثر من السابق، ويستطيع تسمية رئيس الحكومة وتشكيل حكومة وتولي حقائب وزارات سيادية، بينما يشهد الإطار التنسيقي انقساماً حاداً، خصوصاً كتلة الفتح بشأن الاستراتيجية التي ينبغي عليهم اتباعها تجاه تيار الصدر وهذا ما يدفع هؤلاء نحو المواجهة؛ أما المعسكر الآخر من الإطار التنسيقي، فيدفع باتجاه اعتماد مقاربة في عملية تشكيل حكومة ومحاولة تحقيق تقارب داخل البيت الشيعي عبر فتح قنوات للحوار مع الصدر، بينما يمانع الإطار التنسيقي بشكل عام إجراء انتخابات مبكرة في محاولة لكسب ضمانات أملاً في حدوث تغيير على كل من مستوى القانون الانتخابي، والمحكمة الاتحادية ومستوى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، أو على مستوى شكل الحكومة والوزارات وتسمية الرئيس. ومن الملاحظ أن الكرة باتت في ملعب خصوم الصدر، فإذا جنحوا إلى خطوة الانتخابات المبكرة فسيكون ذلك دليلاً على رغبتهم في الحوار والنقاش والتفاوض وإذا ما استمروا باتجاه التصعيد والصدام، فإنّ ذلك يدفع بتعطيل المؤسسة التنفيذية في البلاد ويشلّ الحركة في العاصمة ويعطل الحياة بشكل مطلق، ولا يستبعد اللجوء إلى السلاح والنزول للشارع خاصة أنه يمتلكه الطرفان.

  • نظام المحاصصة.

وبالبحث في عمق الأزمة البنيوية السياسية العراقية، فإنّ «نظام المحاصصة الطائفية»، الذي أنتج بعد سقوط النظام العراقي السابق في عام 2003، أدى بطبيعة الحال إلى توزيع المناصب الرئاسية والوزارات الحكومية على شكل كعكة لجميع الكتل السياسية، وبات من الواضح بأن أي عملية سياسية لا تستند على هذا التقسيم، أو -يمر عبرها- مآلها الفشل، بما في ذلك توزيع أقل الوظائف إلى أكثرها خصوصية مما فاقم من آثار المشكلة حتى وصلت إلى طريق مسدودة.

واتسمت الحكومات العراقية المتوالية على العراق بالبعد عن المسار الوطني لحساب التبعية لأطراف إقليمية متعددة، مما أدى لاختلاف في أجندتها وتوجهاتها للرؤية السياسية العراقية في العلاقات الخارجية بالإضافة إلى تشرذم التوافق السياسي الداخلي على تسمية الرئيس أو الحكومة العراقية أو توزيع الحقائب الوزارية، ومما لا شك فيه أن نظام المحاصصة ما كان لينشأ بهذا القدر من الاختلاف لولا وجود حيثياتها وتوافر عوامل نشوئها وفقاً للبيئة الطائفية الموجودة عبر النظام السياسي القائم. ومن الواضح بأن أي عملية سياسية ناجحة في العراق ترتبط بمدى توافق الكتل السياسية وبالأخص الشيعية منها؛ (التيار الصدري، الإطار التنسيقي) وترتبط أيضاً بمدى قدرة الأطراف على التحلي بالحوار.

  • ملفات سياسية عالقة.

منذ قرابة عقدين على الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 والمشهد السياسي العراقي لم يتغير بل لا نبالغ إذا قلنا إنه لا يزال في حالة عدم الفواق من الصدمة رغم أنه كان بالإمكان النهوض بأفضل مما كان عليه من قبل. وعلى الرغم من تحقيق الحكومة العراقية بعض الخطوات الإيجابية في كثير من الملفات من مثل؛ سداد ديون الكويت المترتبة جراء حرب الخليج وتحرير العراق لأجزاء واسعة من الأراضي التي كان يسيطر عليها تنظيم داعش الإرهابي وتخطي جائحة كورونا بأرقام مقبولة نوعاً ما، إلا أن هناك ملفات أخرى ما تزال ميداناً للتنافس بين الفرقاء السياسيين دون النظر بإيجابية ومسؤولية لمحاولة انتشال حال بلدهم من الفوضى السياسية العارمة.

فملف تنظيم داعش على الرغم من نجاح العراق في الحد من هجماته الدموية وقدرته على القبض أو اغتيال أبرز قياداته الكبار، والحد من تحركاته إلا أن ذلك لم يمنع تجدد خطره بين الحين والآخر. كما أن ملف الدولة التركية حاضر بقوة بدعمها لتنظيم داعش باعتبارها الأم المغذية له بإمداده بالعتاد والسلاح، إلى جانب قيامها بتعطيش العراق وسوريا عبر إنشاء السدود على نهري دجلة والفرات مما أدى لتراجع حصة العراق بنسبة 80% بينما حصة سوريا انخفضت بنسبة 40%عدا عن الاعتداءات والهجمات التركية التي تطال بعض المناطق في جنوب كردستان. إلى جانب الملفات تلك هناك ملف ولاء الكتل السياسية العراقية للدور الإيراني الذي يقوم بتحريك أجندته السياسية والعسكرية عن طريق هذه الكتل عند الطلب.

لكن في المقابل إذا أخذنا بعين الاعتبار إمكانات وموارد العراق الاقتصادية الهائلة، والتي بإمكانها أن تتخلص من الملفات العالقة التي تقض مضجعه وتداركها قبل فوات الآوان، خاصة في مجال مكافحة الفقر والبطالة، وتأمين الرعاية الصحية والاجتماعية للمواطنين، وإعادة النظر في مسألة ممارسة المزيد من الديمقراطية في إدارة الموارد الاقتصادية الوطنية، وإلا ستكون البلاد في وضع لا يحسد عليه في المستقبل.

  • أزمة برلمان.

في عام 2011 نشرت صحيفة “الديلي ميل” تقريراً، يقول: “إن البرلمان العراقي أفسد مؤسسة في التاريخ”. وبرغم من بذاءة ما احتواه التقرير المنشور والذي يرصد جانباً من الحقيقة عن الفساد المستشري، فقد ظل العراقيون يأملون من البرلمان إقرار تشريعات وقوانين تخدمهم وتحسن مستواهم المعيشي وتحميهم وتحمي حقوقهم المختلفة بل بقيت آمالهم سراب فوق الرمال.

فالحركة السياسية العراقية قد أصيبت بالشلل منذ ردح من الزمن ولم يلمس المواطن العراقي حتى هذه اللحظة صدور تشريعات يقرها البرلمان العراقي لصالحه بل على العكس من هذا بقيت جلّ التشريعات في أدراج البرلمان، ونستذكر منها: “قانون مناهضة العنف الأسري، قانون مناهضة التعذيب، قانون حرية التعبير والتظاهر السلمي قانون الضمان الاجتماعي، وأهمها، قانون النفط والغاز”. وبالرغم من الأزمات السياسية المتصاعدة، فقد عجز البرلمان العراقي عن الاجتماع لعدة أسابيع إلا في جلسة استثنائية كانت للتصويت على تعديل (عبارة هيئة الرئاسة إلى الرئيس في مواد النظام الداخلي)، إضافة إلى الغيابات المتكررة للبرلمانيين التي تتسبب في تأجيل الجلسات وكذلك العطل الرسمية الكثيرة.

  • حكومة عابرة للمحاصصة.

حين اندلعت انتفاضة شباب تشرين العراقية في عام 2019 التي كانت تعبيراً عن حالة الفوضى السياسية وانعدام الاستقرار السياسي وازدياد الفساد المستشري في المؤسسات، بالإضافة إلى كونها رغبة صريحة منهم في تغيير هذا الواقع الأسود، فقد نزل هؤلاء الشباب إلى شوارع وميادين المدن العراقية، مطالبين بإسقاط العملية السياسية برمتها، ومحاكمة الطبقة السياسية الفاسدة، وإنهاء النفوذ الإيراني، والحد من الفساد، والقيام بإصلاحات مفيدة إلا أياً مما تقدم لم يحدث قط.

ومما لا شك فيه بأن تشكيل حكومة إنقاذ وطنية نزيهة وقوية عابرة للمحاصصة الطائفية تعمل على كتابة دستور جديد، وفق الرؤى الوطنية، وبعيداً عن التدخلات الإقليمية والدولية يشكل الحل الأمثل للأزمة السياسية العراقية؛ كما أن رأب الصدع العراقي عبر الحوار لن ينهي هذه الأزمة بل على العكس فربما تكون هذه المطالبات القشة الوحيدة التي تنتشل البلاد من الغرق القائم.

زر الذهاب إلى الأعلى