التحركات العسكرية في الشمال السوري

التحركات العسكرية في الشمال السوري

يبدو أنَّ إصرار أردوغان على احتلال مناطق جديدة من الشمال السوري قابله رفضٌ دولي لأي عملية عسكرية من شأنها أن تزعزع استقرار المنطقة وتفسح المجال للتنظيمات الإرهابية وبالأخص تنظيم داعش لإعادة تنظيم صفوفه من جديد، مما قد يعني العودة لنقطة الصفر بعد نجاح قوات سوريا الديمقراطية وبالتعاون مع التحالف الدولي في القضاء عليه ودحره. إلا أن أردوغان الذي كان يراهن على الجماعات المتطرفة كداعش قد خسر إلى حدٍ كبيرٍ، لذا يحاول استغلال التوترات الدولية ” الحرب الروسية الأوكرانية – طلب انضمام فنلندا والسويد لحلف الناتو” لخدمة أطماعه الاستعمارية حيث يسعى للحصول على موافقة الدول الفاعلة في الأزمة السورية لشنّ عدوان جديد على بعض مناطق الإدارة الذاتية والتسويق لمشروع المنطقة الآمنة أو المنطقة الأمنية. وأمام تضارب المصالح الدولية والإقليمية، شهدت الأزمة السورية في الآونة الأخيرة تحركات دبلوماسية حيث زار وزير خارجية إيران أنقرة ومن ثم دمشق وعلى إثر تلك الزيارة حدث تبدل في الموقف الإيراني تجاه تركيا، وكانت هناك أيضاً زيارة لعضو مجلس الشيوخ الأمريكي السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام إلى أنقرة حملت مؤشرات على وجود محاولات لفتح قنوات حوار بين قسد وتركيا. كما وأشارت بعض التقارير إلى وصول تعزيزات عسكرية روسية من فرقة المظليين التابعة للجيش الروسي إلى شمال شرقي سوريا عبر مطار قامشلو.

في ظل هذه التغييرات الدراماتيكية تقوم تركيا بتعزيز تواجدها العسكري في ريف حلب الشمالي، حيث وصلت تعزيزات عسكرية تركية من معبر باب السلامة إلى خطوط التماس مع قوات سوريا الديمقراطية شمالي سوريا، تزامن مع إعلان الإدارة الذاتية عن حالة الطوارئ وتعزيز قسد لمواقعها الدفاعية وفتح قناة للتواصل مع الجيش السوري للبحث في كيفية تحديد استراتيجية للدفاع عن المنطقة.

إن تضارب المصالح بين الدول المتصارعة في سوريا وبالأخص بين الدول الإقليمية لا يعني تمسكها برفض أي عدوان تركي لحماية مصالحها في جزء معين من الجغرافية السورية لا بل قد تتفق الأطراف الإقليمية حول مسألة ما بغض النظر من المستفيد إن كان هذا التفاهم يخدم الطرف الآخر في ملفات أكثر أهمية من خسارتها لبعض مصالحها في ذلك الحيز الجغرافي. فقد أعرب وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان، أثناء زيارته لأنقرة عن تفهم بلاده بما يسمى بالمخاوف الأمنية التركية في سوريا، مضيفاً أنه تناول مع نظيره التركي شؤوناً تفصيلية حول العملية الأمنية التي تنوي أنقرة القيام بها، ومؤكداً أن إيران تؤمن بوجوب الاستجابة السريعة وبشكل دائم للقلق التركي حول أمنها القومي المزعوم. وبالمقابل قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، إن بلاده تعارض العقوبات المفروضة على إيران، واصفاً إياها بغير العادلة. إلا أن تصريحات وزير خارجية إيران أثناء زيارته لدمشق تغيرت حيث أكد على رفض بلاده لأي عملية عسكرية ضد الأراضي السورية ولا بد من حل القضايا عبر الحوار والتعاون وإن المسؤولين الأتراك باتوا يفضلون المسار السياسي مع دمشق، حتى وإن كانت هناك تفاهمات مبدئية بين طهران وأنقرة إلا أن طهران قد ترفض أي عملية عسكرية تركية على تل رفعت، كونها تضع بلدتي نبل والزهراء الشيعيتين ضمن دائرة الخطر، إلى جانب استشعارها لخطر اقتراب جيش الاحتلال التركي ومرتزقتها من مدينة حلب.

كما أن الرفض الدولي في الوقت الحالي لا يعني بالضرورة الوقوف في وجه أطماع أردوغان في الشمال السوري، فمثلاً في 2019 قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب من الشمال السوري ومنح الضوء الأخضر لتركيا لاحتلال كري سبي وسري كانييه الأمر الذي ساهم في زيادة نشاط التنظيمات الإرهابية في المنطقة وأسفرت عن هجوم كبير لداعش على سجن غويران لإطلاق سراح عناصرها لدى قوات سوريا الديمقراطية، وقبلها الانسحاب الروسي من عفرين. إلا أن الحرب الأوكرانية قد خلطت العديد من الأوراق بعد بروز صراع غربي- روسي على الساحة الدولية وأثرت على العلاقة الروسية التركية، فبعد موافقة الأخيرة على ضم كلٍّ من فنلندا والسويد لحلف الناتو صرح وزير الخارجية التركي أن بلاده لا تهتم بردود أفعال روسيا تجاه موقفها الإيجابي من توسيع حلف الناتو في شمال أوروبا، مدّعياً أن الأولوية هنا لمخاوف أنقرة بدلاً من ردة فعل موسكو. كما أعلنت وزارة الدفاع التركية أنّ وفداً عسكرياً لبلادها عقد لقاءً مع مسؤولين عسكريين من أوكرانيا لبحث قضايا التعاون الأمني والدفاعي، وفي تطور لافت للموقف التركي من الحرب الروسية الأوكرانية، ويبدو أن هذا التغيير يأتي بعد مشاركة أردوغان في قمة زعماء دول الناتو بمدريد. هذا التغير المفاجئ للموقف التركي تجاه روسيا سينعكس بشكلٍ مباشر على الساحة السورية، حيث وصلت تعزيزات عسكرية روسية قوامها حوالي 600 جندي من فرقة المظليين التابعة للجيش الروسي إلى شمال شرقي سوريا عبر مطار قامشلو وبحسب وكالة (Rusvesna) أن مهمة هذه الفرقة العسكرية هو “لمواجهة العصابات المسلحة المدعومة من تركيا التي أعلنت في وقت سابق عن إطلاق عملية عسكرية شمالي سوريا”. وفي نفس السياق وصل حوالي 550 جندي من قوات النظام إلى مناطق الإدارة الذاتية وتمركزوا في بلدة عين عيسى، إضافة لمحيط مدن الباب ومنبج و كوباني وبالتنسيق مع قوات سوريا الديمقراطية. حيث أشار فرهاد الشامي مدير المكتب الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية إلى أن “هؤلاء الجنود سوف يحاربون إلى جانب المجالس العسكرية التي تتبع لقوات سوريا الديمقراطية، إذا ما حصل أي هجوم تركي، ولذلك من المحتمل أن يقاتلوا إلى جانب مجلس منبج العسكري لصد أي هجوم تركي قد يستهدف مدينة منبج”. وليس من المستبعد أن تكون الخطوة الروسية بإرسال تعزيزات إلى مطار قامشلو ونشر تلك القوة، خطوة استباقية في وجه المشروع الأمريكي بإقامة منطقة عازلة.

يبدو أنّ هناك اختلاف بين الولايات المتحدة وروسيا حول المناطق التي تطمع تركيا باحتلالها فالأولى بالرغم من عدم منحها الضوء الأخضر لتركيا إلا أنها لن تقف في وجه تركيا في حالت نفذت الأخيرة تهديدها واحتلت شمال شرق حلب. وبسبب قلة اهتمام الولايات المتحدة بغرب الفرات “المناطق الواقعة تحت نفوذ قسد”، ربما قد تضغط على قسد للانسحاب من تل رفعت ومنبج وتسليمها لتركيا من دون مقاومة، مقابل حصولها على ضمانات في شرق الفرات وهو على ما يبدو المقترح الذي حمله غراهام بعد زيارته لأنقرة ورفضتها قسد لأن ذلك سيسهّل لتركيا عملية احتلال المزيد من الأراضي السورية. أما روسيا ونتيجة تغير السياسة التركية التي باتت غير حيادية تجاه الصراع الغربي- الروسي فهي ترفض مبدئياً أي عملية عسكرية وليس من المستبعد بأنها ضغطت على النظام للتنسيق مع قسد لمواجهة التهديدات التركية ومرتزقتها. لذا فإن تأجيل أردوغان لعمليته العسكرية إلى ما بعد عيد الأضحى قد يكون بسبب عدم التجاوب الروسي معها لذا تبدو الحشود العسكرية التركية بالقرب من تل رفعت تأتي للضغط على روسيا لمنحها الضوء الأخضر أو على الأقل دفعها إلى إبرام صفقة “مقايضة منطقة بمنطقة أخرى” حتى يستطيع أردوغان حفظ ماء وجهه والتأثير على الانتخابات التركية المرتقبة في العام المقبل.

وفي هذا السياق شدد صالح مسلم الرئيس المشترك لحزب الاتحاد الديمقراطي على ضرورة الاعتماد على الذات وعدم الاستناد إلى القوى الدولية، وقال إن عداء حلف الناتو للكرد “سيجعله أعرجاً ولن يستطيع إنجاح عمله في مقارعة الإرهاب”. وتبقى المصالح الدولية فوق مصالح شعوب المنطقة وحتى فوق قيمها الديمقراطية التي تنادي بها؛ ويبقى الحل الوحيد أمام التهديدات التركية وأطماعها الاستعمارية والمزعزعة لاستقرار المنطقة بحجج وأوهام تروجها أمام المجتمع الدولي، إقامة حظر جوي على مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا وإقامة منطقة عازلة تضم قوة أممية تفصل مناطق الإدارة الذاتية عن دولة الاحتلال التركي وتقطع الطريق أمام أي عدوان عسكري استناداً على الالتزامات الدولية الخاصة بمحاربة التطرف والإرهاب وتحقيق السلام والديمقراطية في المناطق المتوترة التي من شأنها أن تعزّز السلم والأمن الدولي، والأهم من ذلك تخلي النظام لعقليته الشوفينية والوصول إلى تفاهم مع قوات سوريا الديمقراطية بما يخدم وحدة الأراضي السورية والوقوف في وجه التهديدات التركية الرامية إلى تقسيم سوريا وضم المناطق المحتلة منها إلى الدولة العثمانية الجديدة.

زر الذهاب إلى الأعلى