كواليس زيارة رئيس النظام السوري إلى دولة الإمارات

سليمان محمود

زارَ رئيسُ النظام السوري بشار الأسد الإمارات، والتقى وليَّ عهد أبو ظبي وحاكمَ دبي، وهي الزيارةُ الأولى له منذ عام 2011. قوبلت الزيارةُ بانتقاداتٍ أمريكية حيث عبّرت واشنطن عن خيبة أملها مما جرى في الإمارات بينما قالَ مبعوثها السابقُ إلى سوريا: ” إنّ واشنطن لا تحبّذُ معاقبةَ الحلفاء، لكنه أمرٌ لا مفرّ منه اليوم ” كما برزت تهكمّات شعبية عديدة لا سيما أنّ الزيارةَ جاءت في يوم إحياء السوريين الذكرى الحادية عشرة لانطلاق الثورة السورية، كما ندد الائتلافُ المعارضُ بالزيارة، فيما العواملُ والإرهاصاتُ التي رافقت الزيارة تأتي تزامناً مع تحرّكٍ في الملفّ النووي الإيراني، وبداية اصطفاف جديدٍ في المنطقة على ضوء الغزو الروسي لأوكرانيا.

قلّلت تحليلات كثيرة من ( المعارضة للنظام السوريّ ) من أهميّة هذه الزيارة، وأنّها تمّت على عجلٍ، معتمدةً على إشاراتٍ عدّةٍ، منها أنه التقى الشيخ محمد بن راشد حاكم دبي ونائب رئيس الدولة في استراحة المرموم بدبي، لينتقلَ بعدها إلى أبو ظبي للقاء محمد بن زايد ولي العهد، في استقبالٍ تمّ بطريقةٍ عادية جداً ومن دون مراسم، ومن دون اللقاء مع الرئيس خليفة بن زايد، ففي بروتوكولات السياسة والزيارات الرسمية يجب أن يَستقبلَ الرئيسُ نظيرهُ، وأنّ قصرَ الشاطئ لا يستقبلُ شخصياتٍ بحجم رئيس إلاّ نادراً؛ مشيرةً إلى أنّ هذه الإشارات غير اللائقة التي أظهرتها أبو ظبي كانت مقصودةً، وأنّ الأمر لا يتعدّى البروتوكول والظهور الإعلامي وهي ليست في إطار ما تقومُ به أبو ظبي من أجل كسر العزلة عن سوريا وإرجاعها إلى الحضن العربي؛ وأمّا توقيتُ الزيارة فجاءت مصادفةً وغير مقصودة.

ماذا وراء هذه الزيارة؟

إنّ هذه الزيارةَ كان يمهّدُ لها القائمُ بالأعمال الإماراتي في دمشقَ ” عبد الحكيم النعيمي “، والذي أجرى في الفترة الماضية اجتماعين في دمشق الأولُ في القصر الجمهوري والثاني مع الأمن الوطني، وتمّت خلالَ الاجتماعين مناقشةُ إمكانية حضور ممثّلٍ سعودي خلالَ لقاء الأسد بالمسؤولين الإماراتيين، هذا الأمر الذي رفضته السعوديةُ ( على الأقلّ خلالَ الفترة الحالية ).

ولو عُدنا بالذاكرة إلى المحطات الهامة التي ساندت فيها دولةُ الإمارات سوريا، يمكننا الحديثُ عن اتصالاتٍ هاتفية خلالَ العامين الماضيين ما بين رئيس النظام السوري والشيخ محمد بن زايد للتأكيد على ضرورة تحوّل العلاقات إلى مسارٍ جديد بعد عام 2018 وتتزامنُ مع قدرة الجيش النظامي السوري على تحرير بعض أراضيه من التنظيمات الإرهابية والجماعات المتطرفة ( طبعاً لم يحدث ذلك تماماً مثلما كان قبل 2011 ) وإنما هناك تغيّرٌ تدريجي في السيطرة النظامية السورية.

هناك أيضاً دورٌ في الدعم الإماراتي لسوريا فيما يتعلّقُ بالقدرة على تجاوز تداعيات كوفيد 19 من خلال المساعدات الإغاثية والأدوية الطبية والمبادرات الإنسانية… وكذلك الإسهام الإماراتي في المؤتمرات التي استضافتها مؤسساتٌ دولية وعربية مثل الكويت لدعم الشعب السوري، حيث كانت الإماراتُ حاضرةً بشكلٍ كبير. وأيضاً الدورُ الإماراتي الداعمُ للعودة السورية للحاضنة العربية، وإضافةً إلى الحضور الإماراتي في الكثير من المَعارض والمنتديات التي من شأنها إعادةُ إعمار سوريا، حيث شاركها بعضُ الوفود العربية كالمصرية والسعودية. كلّ هذا يؤدي بنا إلى فهم أنّ هذه الزيارةَ ما كانت مفاجئةً ولا غريبة أو مستعجلةً كما أرادت بعضُ التحليلات.

وعند السؤالُ عن ماهية المسارات الجديدة للتعاون، وكيفَ ستفتحُ هذه الزيارةُ المجالَ للمزيد من التعاون على المستوى العربي والإقليمي أيضاً، يمكننا القولُ إنّ ثمّةَ مساراتٌ مختلفة أولها الاستمرارُ في الانفتاح السياسي والدبلوماسي، وإعطاء سوريا المزيد من المقبولية لدى العديد من الدول العربية بدرجةٍ كبيرة، وثانيها زيادة وتقوية التعاون الأمني والاستخباراتي، لا سيما أنّ الإرهابَ يمثّلُ مصدرَ تهديدٍ لأمن كلّ الدول العربية.

رسائلُ الزيارة:

وفي هذا الاتجاه يمكننا الوقوف على عدّة رسائلَ أساسية من واقع هذه الزيارة:

الرسالة الأولى: أنّ هناكَ دعواتٍ مستمرة من جانب دولٍ عربية رئيسية مثل دولة الإمارات، مصر، والجزائر لقبول واحتضان سوريا مرةً أخرى في الحاضنة العربية، لا سيما وأنّ هذه هي أولُ دولة عربية يزورها الأسدُ منذ أحداث 2011على نحوٍ يشير أنّ هناك إعادةُ نظرٍ في مسار العلاقات العربية السورية، وربما أحدُ القضايا الرئيسية التي نوقشت خلال الفترة الماضية عبرَ زيارات رسمية واتصالات هاتفية ما بين القادة العرب ترتبطُ بكيفية عودة سوريا مرةً أخرى إلى الجامعة العربية، مع الأخذ بالاعتبار أنّ التصريحات الأخيرة للأمين العام للجامعة العربية السيد أحمد أبو الغيط والتي صرّحَ فيها أنهم لم يجدوا توافقاً عاماً في هذا الخصوص، لكن هناك محاولاتٌ تقودها بعضُ الدول العربية مثل الإمارات والسعودية لعودة سوريا مرةً أخرى للحاضنة العربية.

الرسالة الثانية:  أنّ هناك إعادةُ نظرٍ في مسار العلاقات الإقليمية بشكلٍ عام. بمعنى استدارة في السياسات الخارجية لعدّة دولٍ في الإقليم منها مصر والسعودية وقطر ( بعد تجاوز الأزمة القطرية السعودية في اتفاق العلا 2021 )، وكذلك تمّ إجراءُ مباحثات استكشافية ما بين مصرَ وتركيا، وكان هناك زيارات متبادلة ما بين تركيا والإمارات، وكذلك الحال بالنسبة لإيرانَ ومحادثاتها المؤخرة مع المملكة العربية السعودية. وبالتالي نحن نتحدث عن إعادة صياغة لمنظومة العلاقات العربية- العربية ومنظومة العلاقات العربية- الإقليمية.

الرسالة الثالثة: أنّ هناك رغبة وقدرة من جانب الدول العربية وفي مقدمتها الإمارات لأخذ سياسة خارجية تأخذ في اعتبارها المصلحة الوطنية الإماراتية والمصالح التي ترتبط بالأمن القومي العربي بدرجةٍ أساسية، بعيداً عن أيّ تدخّلات أو ضغوط خارجية سواء أكانت أمريكية أو حتى روسية. ولذلك نجدُ أنّ حديثَ سمو ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد كان يشير إلى أنّ سوريا هي ركيزة من ركائز الأمن العربي، على نحوٍ يعكسُ رؤيةً إماراتية بأنّ سوريا تعدّ واحدةً من الدول العربية الرئيسية في المنطقة، وبالتالي فإنّ جلسةَ المباحثات الإماراتية- السورية كانت تنطوي على تأكيد رسالة أساسية ترتبط بكيفية الحفاظ على وحدة الدولة الوطنية السورية، وانسحاب القوات الأجنبية بمختلف أشكالها وانتماءاتها، على نحوٍ يعكسُ أنّ هناك تأكيد على محورية دور (الدولة السورية) في المرحلة المقبلة.

توقيت الزيارة:

قبل الزيارة بيومين، زار الشيخ عبد الله بن زايد روسيا، وكذلك بعد الزيارة بيوم ذهبَ حمد المزروعي إلى إسرائيل. هذا الترابطُ لا يمكن أن يأتي بمحض الصدفة، ويمكن القول إنّ هذه الزيارةَ ما كانت لتتمّ لولا رضى إسرائيل، فالإماراتيون الآن يخطبون ودّ الإسرائيليين من أجل التوسّط لدى الأمريكان لأجل ألاّ يغضبوا ويتفهموا موقف الإمارات والتي تبدو وكأنها تتحدّى علناً الإدارةَ الأمريكية.

يبدو واضحاً أنّ الإماراتيين موقفهم مع الروس، فعينهم على الأموال الروسية المُطارَدة في أوروبا، وهذا الأمر بالتأكيد لن يرضي واشنطن.

في المجمل وفي العودة إلى تفصيل الزيارة، فهي غالباً تأتي في سياق المناكفة، وكأنّ روسيا تقول لواشنطن: أنتم تعلنون شهرَ العزلة والمحاسبة على رئيس النظام السوري، وها نحن نرسله إلى أبو ظبي؛ وأبو ظبي في النتيجة مستفيدة من هذا الأمر، فهي تريد أن تخرجَ قليلاً عن العباءة الأمريكية وتتقرّبَ من روسيا طامعةً في أموالها، وهي غاضبةٌ أساساً من مسألة الحوثيين والموقف الأمريكي منهم، وهي أيضاً في هذا السياق تسترضي الإيرانيين والحوثيين، لذا جاءت هذه الزيارة أملاً منها في التخلّص من الكابوس الحوثيّ.

الإماراتُ إذن تريد أن تضربَ أكثرَ من عصفور بحجرٍ واحد، وهي مستفيدةٌ على أكثر من سياق، ومن غير المستبعد في الوقت نفسه أنّ هذه الزيارةَ جاءت في سبيل تحريك الأموال الروسية من أبو ظبي إلى سوريا ومن ثمّ إلى روسيا، فروسيا الآن في عزلةٍ مالية قاتلة فرضتها واشنطن والعواصم الغربية عليها، وإذا ما حسبنا الاستفادات رقمياً فروسيا مستفيدة وكذلك الإمارات، ثم تأتي سوريا في الدرجة الثالثة من خلال إمكانية طلب معونات مالية وعينية من الإمارات، حيث الوضع في مناطق النظام مختنقٌ تماماً، فالروسُ ما عاد لديهم القدرة على إيصال أيّ شيء من النفط والقمح إليه، والإماراتُ أساساً لا تمانع مثل هكذا خطوة وبالتالي لا غضاضة بالقليل من المساعدات من قبلهم لمناطق النظام السوري حتى تخفف الاحتقان عليهم قليلاً.

دلالات الزيارة: هناك مجموعةٌ من النقاط يجب أخذها بعين الاعتبار لفهم هذا التحوّل المهمّ: أولاً رؤية الإمارات أنّ سوريا هي دولة مهمة في النظام الإقليمي والمنظومة العربية بشكلٍ عام، وكانت سابقاً دولة مؤثرة في إطار توازنات القوى العربية مع دول الجوار، وبالتالي هي ترى أنّ خروجَ سوريا عن هذا الإطار وتجميد عضويتها في الجامعة العربية منذ عام 2011 كان فترة استثناء، والآن صار الملفّ السوري في مرحلة مختلفة، فمسألةُ تغيير النظام من الخارج انتهت تماماً ولم تعد الفكرةُ مطروحةً أو قابلة للتطبيق حتى من جانب أمريكا، وبالتالي أصبح هناك واقعٌ جديد وعلى دول المنطقة أن تعيدَ ترتيبَ الأوضاع والبيت العربي. النقطة الثانية هي التدخّلات من جانب دول الجوار غير العربية في الداخل العربي (تركيا وإيران)، فبعضها يسيطر على مناطق داخل سوريا ودول أخرى، وبالتالي فالمدخلُ الأمثل للتعامل مع هذا الوضع هو البدء بتصحيح العلاقات العربية- العربية وتصويب التعامل مع هذا الخلل.  قد يراه البعضُ ملامحَ حلفٍ جديد (تركي- إيراني- خليجي- روسي )، وربما التوصيفُ الأمثلُ هو ( استغلال الدولُ العربية لحالة السيولة في النظام العالمي )، أو بشكلٍ أكثر وضوحاً هي قراءة دقيقة للتحوّل الجاري في النظام العالميّ، فأمريكا لم تعد لديها القدرةُ على إدارة ملفات رئيسية في المنطقة، وبدأت دولٌ عديدة في الشرق الأوسط تراجعُ طبيعة العلاقة معها، أو بمعنى أدقّ مدى إمكانية الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية كحليفٍ أو مظلّة أمنية أو مصدر لردع التهديدات الرئيسية التي تواجهها تلك الدول. هناك مراجعة لطبيعة اللحظة الراهنة في النظام العالمي، وهناك توافقٌ كبير على أنّ النظامَ العالمي- خاصةً بعد أزمة أوكرانيا- سيتجه إلى درجةٍ من تعددية الأقطاب، وبالتالي ووفقاً للكثير من التحليلات والآراء فإنّ النظامَ متعدد الأقطاب يعطي فرصاً للكثير من الدول خاصةً القوى المعروفة بالقوى الوسطى داخل النظام العالمي والتي تمتلك القدرةَ على التأثير في ملفات رئيسية أمنية أو خاصة بالطاقة أو غيرها، وبالتالي هذا سيعطيها فرصةً أكبر لإعادة النظر في الكثير من الارتباطات الخارجية، أو فرصة كبيرة لإدارة علاقات متوازنة مع قوى النظام العالميّ، أو لتصحيح بعض مظاهر الخلل في الإقليم التي كانت ترتبط بنظام أحادي القطبين. كلّ هذه الأمور هي في الاعتبار لدى دولٍ كثيرة وهي تتحرك الآن في هذا الإطار سواء في الإقليم أو في النظام العالمي. بالإضافة إلى ذلك، فهناك تحوّلٌ مهم تستعدّ المنطقةُ له منذ الآن، وهو إمكانية أن يتمّ توقيع اتفاق بين أمريكا وإيران، وإعادة العمل بما يعرف بالاتفاق النووي الإيراني، وهذا سوف يفتح نمطاً جديداً من العلاقات الأمريكية الإيرانية، والذي من شأنه أن يكون له انعكاسات على منطقة الشرق الأوسط وتحديداً منطقة الخليج العربيّ.

المقالة تعبر عن رأي الكاتب

زر الذهاب إلى الأعلى