موقف روسيا وأمريكا إزاء تمدّد الهيئة في الشمال السوري

سليمان محمود

تعمل تركيا حالياً على إفراغ كامل الشمال السوريّ من الفصائل المسلّحة القديمة التي كانت تسمّي نفسها بالمعارضة السورية، وتقوم بإرسالهم إلى دولٍ أخرى، منها اليمن والسعودية، للقتال هناك، لصالح تركيا وتحالفاتها الأخيرة؛ وذلك بعد رفض تلك الفصائل الانضمامَ إلى صفوف هيئة تحرير الشام، وعدم قبولها التقارب التركي مع النظام السوري.

إنّ الأحداثَ الأخيرة التي شهدتها مناطقُ شمال غربي سوريا عامةً وعفرين خاصةً- حيث سيطرةُ هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) بشكلٍ مفاجئ على عموم عفرين، ومتابعة محاولاتها السيطرة على كامل مناطق الشمال السوري- صارت تحفّز العديدَ من الأسئلة إزاء تداعيات هذه التطورات العسكرية على مناطق شمال غرب سوريا خاصةً، وسوريا عموماً، وكذلك حقيقة الموقفين الروسي والأمريكي من تمدّد الهيئة. وربما- خلالَ هذه الورقة التحليلية- يمكننا البحث عن أجوبةٍ على هذه الأسئلة.

الموقف الروسي

إذا ما استذكرنا تدخّل الطيران الحربي الروسي، وشنّه غارات استهدفت مواقعَ ما يسمى الجيش الوطني، في ريف عفرين- وذلك فور التوصّل إلى اتفاقٍ ما بين الفيلق الثالث وهيئة تحرير الشام- قد نفهم أنّ ذلك كان رسالةً من روسيا إلى تركيا والفصائل السورية المتواجدة هناك، والمعترضة على التقارب التركي- السوري الأخير، أو كإشارة على رغبة روسيا في السير ضمن مخططٍ ما، وعدم مخالفة تلك الترتيبات.

لذا نرى أنّ المتغيرات الأخيرة تصبّ في مصلحة روسيا، ومن ورائها النظام السوري، ومن هذا التوجّه قد تبقى روسيا في موقف المراقب في الوقت الحالي، مع دعم الهيئة بشكلٍ خفيّ وغير مباشر، طالما ما يحدثُ لا يهدّد مصالحها، بل يخدمها أكثر.

من غير المستبعد أن تكون روسيا هي العقلُ المدبّر للتطورات الجارية، بالتنسيق والترتيب مع تركيا، وذلك ضمنَ خطتها المتعلّقة بمستقبل الحلّ السياسي في سوريا، وضمن رغبتها ومحاولاتها القديمة والجديدة في تسليم مناطق سيطرة الفصائل إلى النظام السوري. فالهيئةُ مصنّفةٌ حالياً كتنظيمٍ إرهابي، وفي حال سيطرتها على الأرض عسكرياً، سيكون لتركيا الحجّة المقنعة في سحب ما تبقّى من قواتها على الأرض؛ بمعنى أنها ستتهرّب من حماية مناطق الفصائل التي تسيطر عليها الهيئة، ولن تتدخّلَ للدفاع عنها، بذريعة أنّ تلك المناطقَ ما عادت تحت سيطرة المعارضة و(الجيش الوطني).

وهنا يؤولُ الأمر إلى خيارين: إمّا ضرب هيئة تحرير الشام فيما بعد تسلّمها الملفّ كاملاً، فباعتبار أنّ الهيئة تنظيمٌ مصنّف على لوائح الإرهاب، ستكون حجةُ روسيا والنظام السوري أقوى في اتخاذ قرارٍ بشنّ عمليات عسكرية على مناطق سيطرتها؛ أو السيرُ في عملية تصالح تركيا مع النظام السوري، وترك أمر التفاهم مع الهيئة لروسيا والنظام السوري، في محاولةٍ لروسيا عرض الاستسلام بضماناتٍ معينة، أو التمهيد لمرحلةٍ تفاوضية مع النظام السوري، وفرض اقتراحٍ دولي تشاركي بين النظام وقوى المعارضة المتبقية، وإشراك هيئة تحرير الشام وحكومتها المدنية (حكومة الإنقاذ) في الحلّ المستقبلي للأزمة السورية.

ومن المتوقّع أن تعمل روسيا في الفترة القريبة على تعويم الهيئة وتقديمها أمام المجتمع الدولي كسُلطةٍ محليّة، وجماعة معتدلة، وبديلة عن الفصائل المتناحرة السابقة، يمكن لها أن تحقّقَ الاستقرارَ العسكري والأمني، مع مساعدتها على تحسين الواقع الخدميّ في مناطق سيطرتها كخطوةٍ أولى، ومن ثمّ الدعوة إلى إخراجها من قائمة الإرهاب في خطوةٍ لاحقة.

الموقف الأمريكي

نظرياً، أعلنت الولايات المتحدة تمديدها لحالة الطوارئ في سوريا، كما أكدّت على إبقاء قواتها لمواجهة العمليات التي لا تزال تقوم بها خلايا داعش المتبقية. وكذلك أصدرت السفارةُ الأمريكية في دمشقَ بياناً، قالت فيه إنها تشعرُ ببالغ القلق من التوغّل الأخير لهيئة تحرير الشام، المصنّفة إرهابياً في شمال حلب، وإنه يجب سحب قوات الهيئة من المنطقة على الفور.

غير أنها، كما يبدو لنا، عملياً موافقةٌ ضمنياً على تمدّد الهيئة الأخير في الوقت الحالي، وربما كان ذلك من منظور أنّ قوةً واحدةً، منظمة عسكرياً ومدنياً وسياسياً، أفضلُ في المستقبل من عدّة فصائل متصارعة وغير منسجمة؛ أي من باب ترتيب أوراق الشمال السوري. إضافةً إلى رؤيتها في إمكانية تطويع الجولاني مستقبلاً أو في خطوةٍ لاحقة، وترويضه من خلال إظهاره كرجلٍ معتدل، ومن ثمّ إشراكه في رؤية الحلّ السياسي في سوريا قريباً.

أمريكا- في الغالب- ستواصلُ تغاضيها عن الأمر، ما دامت المتغيرات العسكرية لا تهدّد نفوذها في شمال وشرق سوريا، بل قد تستخدمه لوقف تمدّد المشروع الإيراني نحو غرب الفرات.

من المتوقّع أن تلعبَ أمريكا دورَ الوسيط ما بين الحكومة التركية والإدارة الذاتية، من خلال منح (حكومة الإنقاذ) شرعيةً، بصيغةٍ ما، والعمل على إغلاق جميع منافذ التهريب السابقة مع مناطق النظام والإدارة، وترتيب أوراق المعابر في كافة المناطق، حتى في إدلب وحلب، والسعي لفتح المعابر مع الإدارة الذاتية، والسماح للشركات التركية الخاصة الاستثمار في تلك المنطقة، في مقابل التخلي عن عملياتٍ عسكرية ضدّ مناطق قوات سوريا الديمقراطية. ربما بهذه الصيغة تساعدُ في إيقاف التهديدات التركية المباشرة على منطقة شمال وشرق سوريا، والدفع نحو إقناع تركيا على المشاركة في التبادلات التجارية، وتعاونها مع الإدارة الذاتية- ضمن هامش استثناء مناطق الإدارة وبعض مناطق سيطرة تركيا- لتضييق الخناق على مناطق النظام السوري اقتصادياً.

وربما ما يؤيّد هذه الاحتمالات، الخبرُ المحدّث عن استقبال القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، وقائدة وحدات حماية المرأة نوروز أحمد لوفدٍ أمريكي، ترأسه إيثان غولدريتش، نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي، وكذلك تسريبات من أنّ الوفدَ الأمريكي كان في زيارة لتركيا قبل القدوم لسوريا، وأنّ الحديثَ تركّز على ضرورة تثبيت اتفاقية وقف إطلاق النار التي ترعاها واشنطن، ووقف التصعيد وتعزيز التهدئة في شمال وشرق سوريا، واتفاق الجانبين على ضرورة تأمين سجون داعش.

التداعيات والنتائج

رغم رؤيتنا بأنّ كلأً من روسيا وأمريكا تسعيان إلى خفض بؤرة التوتر مع تركيا، سواء على صعيد سوريا عامة وشمال شرق سوريا على وجه الخصوص، وتعملان على إقناعها بإمكانيات حلولٍ مرضية لكلّ الأطراف، غير أنّ تركيا لن تتخلّى حتماً عن مطامعها وطموحاتها التوسعية في سوريا بسهولة، كما لن تطوي بيسرٍ ملفّ مخاوفها الأمنية من القضية الكردية، وستعملُ حُكماً على الإفادة، ولو بشكلٍ غير مباشر، من المتغيرات العسكرية الأخيرة، وذلك من خلال الفصائل التي ستبقى في إدلب وعفرين وتل أبيض ورأس العين، والتي تقدّم نفسها على أنها تركمانية “كفصيل سليمان الشاه وفرقة الحمزات..)، تلك التي خدمت وتخدم المصالحَ التركية بدرجةٍ أكبر من غيرها، بما فيها التابعة لتيار الإخوان المسلمين؛ فهذه الفصائل ستبقى تابعةً للاستخبارات التركية، وستبقى على تواصل واستجابة لها في المدى القريب؛ إذ أنّ تعويمَ الهيئة هو تماماً بالتوازي مع تقوية التركمان، وبهذه الخطوات سيكون بإمكان تركيا التحكّم أكثر بالمناطق المحتلة، من الناحية الأمنية والإدارية، والعمل جاهدة على تشكيل إدارة مدنية ذات طابعٍ تركماني وسلفي جهادي، للتفاوض عليها في حال ذهبت الأمور في سوريا نحو اللامركزية.

من ناحية أخرى، ستعمل على مساعدة هيئة تحرير الشام على تهيئة الظروف، أمنياً وعسكرياً وخدمياً، في شمال غرب سوريا، من أجل استكمال مشروع إعادة اللاجئين إلى سوريا، وتغيير ديمغرافية منطقة عفرين أكثر، من خلال إغراقه بالمكون العربي والتركماني؛ الأمر الذي قد يعقد قضيةَ عفرين واستردادها في المدى المنظور.

كذلك ستبذل كلّ جهودها الاستخباراتية والأمنية لجعل الهيئة سداً في مواجهة قوات سوريا الديمقراطية، لا سيما وأنّ الكثيرَ من عناصر داعش المتواجدين حالياً في مناطقها كانوا قد فرّوا من شرق الفرات، بعد معركة الباغوز، وانضموا إلى الهيئة، وهؤلاء قد يشكلون خطراً مستقبلياً، بحكم عدائهم الشديد لقسد ورغبتهم في الثأر منها بعد أن قضت على خلافتهم المزعومة في الرقة.

أمّا احتماليةُ شنّ هجوم في المدى القريب ضدّ قسد، فنراه أمراً مستبعداً، ذلك أنّ الهيئةَ تجهز نفسها حالياً، عبر وسطاء دوليين، للقبول والحصول على اعترافٍ شرعي، لذا من غير الوارد أن تغامرَ في شنّ عمليات عسكرية ضدّ قسد، لعدّة أسبابٍ منها خشيتها من مساندة التحالف لقوات سوريا الديمقراطية، ويقيناً منها بصعوبة تدخّل تركيا أو حتى مساندتها جواً، نظراً لتصنيفها الحالي وحسابات الدولة التركية الأخيرة.

المقالة تعبر عن رأي الكاتب

زر الذهاب إلى الأعلى