المأزق التركي في سوريا

إن السياسة البراغماتية التي اتبعها أردوغان مع الولايات المتحدة وروسيا في الأزمة السورية والتي أسفرت عن تغلغل عسكري تركي في الشمال السوري والتي بدأت بعد تحرير قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لمدينة منبج وتراجع تنظيم داعش، حيث شنت تركيا عملية عسكرية “درع الفرات” بذريعة محاربة داعش على جرابلس والباب واحتلالهما. وبعد الاتفاق مع روسيا شنت تركيا اجتياحا آخر على عفرين والتي كانت تتزامن مع انتصارات قسد على داعش حيث احتلت تركيا عفرين بعد مقاومة بطولية من وحدات حماية الشعب والمرأة إلى جانب قسد. وبعداعلان قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي الانتصار على داعش 2019 شنت تركيا اجتياحا ثالثا على منطقتي كري سبي وسري كانيه بعد الانسحاب المفاجئ للقوات الأمريكية من المنطقة الحدودية مما أجبرت قسد لعقد اتفاق مع روسيا لحماية المنطقة من الاحتلال التركي حيث دخلت القوات الروسية إلى شرق الفرات لأول مرة منذ الأزمة السورية والانتشار على طول طريق M4  بين مدينة قامشلو ومنبج وانشاء قواعد عسكرية لها في المنطقة وكان من نتائج التغلغل الروسي حدوث اصطدام بين الدوريات الروسية والأمريكية بعد أن كان نهر الفرات الحد الفاصل بين القوات الأمريكية والروسية.

هذه السياسة التي انتهجها أردوغان سببت المتاعب للولايات المتحدة في سوريا فتركيا التي هي عضو في حلف الناتو وحليفة الولايات المتحدة سلكت طريقا مغايرا للولايات المتحدة حيث بدأت تتعامل مع روسيا في الأزمة السورية بعيدة عنها وعقدت سلسلة من الاجتماعات ” آستانا وسوتشي” وتدعم الجماعات الإرهابية في سوريا “هيئة تحرير الشام، أحرار الشرقية…….” وتهاجم مناطق الإدارة الذاتية الواقعة تحت الحماية الأمريكية وتخلق الفتن في المنطقة عن طريق المجلس الوطني الكردي ENKS، إلى جانب شرائها منظومة الدفاع الجوية الروسية S400  على الرغم من الرفض الأمريكي، مما وسع فجوة الخلافات مع الولايات المتحدة كما أن الحزبين “الجمهوري والديمقراطي”  يميلون إلى عدم التسامح مع سياسات أردوغان التي تقوض المصالح الأمريكية نتيجة شرائها المنظومة الروسية وتنامي علاقاتها معها، حيث قامت الولايات المتحدة بتفعيل قانون كاستا “قانون مواجهة أعداء أمريكا عبر العقوبات” وفرض عقوبات على تركيا وإلغاء صفقة طائرات F35 المتطورة الأمريكية وإخراج تركيا من المشاركة في تصنيع أجزاء من هذه الطائرة. إن السياسة التي اتبعها ترامب والتي كانت تقوم على غض الطرف عن تركيا في سوريا. أما جو بايدن فقد سلك سياسة التجاهل تجاه تركيا. فالرئيس الأمريكي وهو المطلع على السياسة العالمية عندما كان يشغل وظيفة نائب الرئيس الأمريكي  خلال فترة باراك أوباما، يدرك تماماً مخاطر التمدد الروسي والصيني على مكانة الولايات المتحدة كقطب وحيد، وكون تركيا بدأت تتعامل مع روسيا والصين بدون الرجوع للولايات المتحدة، فقد تأخر الاتصال بين بايدن وأردوغان بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على تنصيب بايدن وهو تأخير يعتبر على نطاق واسع جفوة لأردوغان الذي قامت بينه وبين الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب علاقة قوية، ففي مؤتمر صحفي في البيت الأبيض، أجابت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي على السؤال حول سبب عدم قيام بايدن بإجراء مكالمة هاتفية مع أردوغان، على أن بايدن لا يزال أمامه العديد من قادة العالم للتواصل معهم وهذا مؤشر على توتر العلاقات بين البلدين وعلى تجاهل بايدن لتركيا “أردوغان ” التي تمتلك ثاني أكبر جيش في حلف الناتو وفي مقابلة مع صحيفة “النيويورك تايمز” الأميركية، قال بايدن أنه يتعين على واشنطن مساعدة المعارضة التركية على التخلص من نظام أردوغان “المستبد”.

وعقب اجتماعهما الأول الذي جاء على هامش قمة حلف الناتو في حزيران الفائت في بروكسل، أكد بايدن أن بلاده ستحقق تقدما قريباً جداً في العلاقات مع تركيا، وأن لقاءه بأردوغان كان إيجابياً ومثمراً للغاية، إلا أن أردوغان بقيَّ متمسكاً بمنهجه المغاير للولايات المتحدة، حيث أكد أردوغان، نية بلاده المضي قدماً في شراء منظومات “إس-400” الصاروخية من روسيا، مشدداً على أن “أحداً لن يتدخل في اختيار أنواع الأنظمة الدفاعية التي نشتريها” وذلك بعد رفض بايدن لقائه خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة. كما أن لقائه مع بوتين في سوتشي لم يخرج بتفاهمات جديدة، يوحي باستمرار الخلاف التركي- الروسي حول سوريا عموماً وإدلب على وجه الخصوص وهذا يعني استمرار استهداف القوات التركية والمعارضة السورية القريبة منها من قبل قوات النظام وروسيا، ويعني كذلك ارتفاع احتمالات لجوء روسيا لرسائل أكثر جدية في الشمال السوري تجاه تركيا، بما في ذلك تهديد النظام بعملية واسعة في إدلب، وبالتالي فإن تركيا ستكون في مأزق كبير لحاجتها إلى موقف غربي ودولي داعم لها، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.

إن العلاقات المثمرة تُعد ضرورية لتعزيز مصالح البلدين، فأنقرة تحتاج إلى الدعم الأميركي في مواجهة اقتصادها المتعثر، واستمرار وجودها العسكري في سوريا. ومن هنا يمكن لتركيا أن تكون شريكاً إقليمياً رئيسياً، في حال رضخت للسياسة الأمريكية. وفي نهاية المطاف، لا تزال العلاقات الاستراتيجية الأميركية التركية حيوية، ومن المؤكد أنها ستزداد قوة بعد انتهاء حكم أردوغان، أو ما سيسفر عن لقاء أر دوغان ببايدن على هامش قمة العشرين في العاصمة الإيطالية روما، يومي 30 و31 تشرين الأول 2021 في حال حدوثه. أو أن تركيا لن تغير سياستها الحالية وستبقي علاقاتها مع روسيا مع تحملها للقصف الروسي لمناطق إدلب والتي ستنتهي بتقديم تنازلات وتسليم بعض المناطق لروسيا وقد ينتهي بها المطاف الخروج من سوريا وتسليم كامل المناطق المحتلة لروسيا في حال أصرت على سياستها ولم تقم بردم فجوة الخلافات مع الولايات المتحدة، وفي حال ساءت العلاقات مع الولايات المتحدة فقد تدفع بأردوغان إلى تعزيز علاقته مع روسيا من خلال شراء طائرات حربيةروسية  من نوع SU35-SU57  المتطورة كرد فعل على رفض واشنطن تسليمها دفعة من طائرات F35 وهو ما يصبو إليه بوتين. فالسياسة التي انتهجها أردوغان باتت تنعكس على تركيا بشكل سلبي، فتركيا التي كانت بالأمس تصول      وتجول في سوريا وتحتل منطقة تلو الأخرى، باتت اليوم في موقف صعب قد يجرعليها ويلات كثيرة خاصة أنها تعاني من أزمة اقتصادية وتراجع في  قيمة الليرة التركية ووصولها إلى مستويات غير معهودة، إلى جانب القصف الروسي على إدلب والحشود العسكرية لقوات النظام والتي تنذر بعملية عسكرية على المنطقة، وهي هنا بحاجة لدعم الولايات المتحدة وهو ما يتطلب منها التنازل عن منظومة S400 وتفكيكها، الأمر الذي سيغضب روسيا التي لن تقف مكتوفة اليدين وتركيا ماتزال تحتل أجزاء من سوريا.

زر الذهاب إلى الأعلى