إسرائيل في مجابهة حزب الله والتصعيد الاستباقي

يعيش الشرق الاوسط على وقع صراعات ما تلبث أن تشتعل في جبهات مختلفة، إلّا أنّ الجبهة الموجودة دائما هي” إسرائيل”، ويعود هذا السياق من المواجهة في جذوره إلى فترات سابقة وعقود من سنوات الصراع المستمر بين العرب وإسرائيل، لم تخلُ الفترات السابقة أبدًا من التوتّر والإعداد المستمر للحرب، ودائمًا ما كانت التصريحات والخطابات من الطرفين تحمل العداوة للأخر.

وفي 7 أكتوبر 2023 ومع إعلان كتائب “القسّام” القيام بعملية “طوفان الأقصى” والتي نتج عنها أسر مئات الإسرائيليين بين مدنيين وعسكريين، كان هناك إجماع على ردّ كبير من إسرائيل، وهو ما حدث بالفعل، حرب مفتوحة على غزة، وتدمير كامل للبنية التحتية والتجمعات السكنية، وعدد الضحايا تجاوز 45 ألفًا، في المقابل مازال لدى حماس أسرى إسرائيليون وآلة الحرب مازالت مستمرة.

 حزب الله اللبناني، الذي يُعدُّ واحدًا من الأسلحة البارزة وأحد أذرع إيران في المنطقة، تستمر إسرائيل بالتعامل معه على أنّه خطر حقيقي على إسرائيل، ويمكن نشوب حرب مفتوحة بين الطرفين ببساطة، بالمقابل حزب الله لم يتوقّف عن التحضيرات لمواجهة إسرائيل في أي مرحلة من المراحل، وهذا ما أبقى باب الحرب مفتوحًا بين إسرائيل وحزب الله في جميع المراحل.

معركة 2006 التي خاضها حزب الله ضدّ إسرائيل جعلت إسرائيل تتعامل مع حزب الله على أنّه الخطر الذي يوازي إيران.

 حرب غزة (طوفان الأقصى) وتأثيرها على معادلة الصراع:

بغضّ النظر عمّا يحصل في الجبهة الجنوبية لإسرائيل وحيثياتها ونتائجها على مستوى مقاومة حماس وضرباتها وتكتيكها العسكري الذي تستخدمه، وبالنظر إلى الجهة الشمالية، والمقصود بها حزب الله، نجد أنّ حرب غزة قد لعبت دورًا رئيسيا ومحوريًا في إعادة شكل ملامح الحرب والصراع بين حزب الله وإسرائيل.

في بداية هذه الحرب وجّهت إسرائيل ضربات مكثّفة مدمّرة على البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، في حين أنّ حزب الله بقي يلتزم الترقّب عمليًا مع استهدافات خجولة لبعض النقاط مدّعيًا الإسناد، وهذا ما أثار تساؤلات حول استراتيجيته، إلّا أنّه من الواضح أنّه يتحاشى المواجهة المباشرة المفتوحة مع إسرائيل.

مع مرور الوقت على الحرب في غزة وعمليًا خسارة إسرائيل الرهان على قدراتها في مواجهة كتائب “القسّام” وسقوط قتلى من الجنود والضباط في الجيش الإسرائيلي مع استمرار أسر المئات، فُتح الباب على مصراعيه أمام أطروحة “ماهي الاستعدادات التي وصل إليها حزب الله في تحضيراته للحرب مع إسرائيل” خاصة أنه قبل 7 أكتوبر 2023 إذا ما قارن جميع المراقبين والمهتمين بين استعدادات حزب الله وحماس، فبالتأكيد سوف يرجّح حزب الله  من ناحية التحضيرات الأكثر صمودًا وتكتيكًا وسلاحًا وتكنلوجيا بأشواط عن حماس، وما ظهر للعيان حتى ما بعد مرور عدة أشهر من أكتوبر “طوفان الأقصى” نجد حربًا شرسة تخوضها حماس، واستطاعت أن تكون الندّ للندّ في الميدان، وهذه المعادلة ترعب إسرائيل، خاصة أنّ إسرائيل كانت تعتبر “القسّام” الخطر الثالث ما بعد إيران وحزب الله، إذًا؛ كيف هي الحرب التي قد تخوضها مع الخطر الأول والثاني؟ هذه النتائج التي توصّلت إليها إسرائيل تبقي منطقة الشرق الأوسط منطقة صراع مفتوح مع إسرائيل، ويمكن تلخيص الأسباب الرئيسية لذلك بالتالي:

  •  اكتساب الثقة لدى محور المعاداة لإسرائيل (محور المقاومة) في خوض حرب مؤذية لإسرائيل وزعزعة شعبية جيشها وحكومتها.
  • صمت المجتمع الدولي.
  • عدم البحث عن حل وإنهاء للصراع بشكل عادل، والبحث عن عقد الهدن ووقف إطلاق النار دون البحث في تفاصيل ومسبّبات الصراع وعلاجها.

وبالتالي؛ حرب غزة فتحت خطوطًا جديدة من الاشتباك والحرب بين حزب الله وإسرائيل، وسلكت طرقًا جديدة لا يمكن فيها العودة إلى الوراء.

من خلال مجموعة العمليات التي قامت بها إسرائيل، وعلى رأسها اغتيال القيادي في حزب الله” فؤاد شكر” في بيروت، متوازيًا مع اغتيال” إسماعيل هنية” في إيران، وفي الأثناء التي يتوعّد فيها حزب الله بالانتقام والردّ، وجزم إيران بأنّها ستردّ بالطريقة التي تراها مناسبة؛ فالعالم يترقّب الردّ المزعوم، وما كان من إسرائيل إلّا التصعيد؛ حيث فجّرت ما يقارب 3000 جهاز تواصل من التي يحملها عناصر حزب الله، وفي محاولة حزب الله للملمة أثر هذه العملية النوعية والخطيرة على وجوده، ومع إعلان الأمين العام للحزب نية عقد اجتماع ضيّق، في إشارة لتجاوز حالة الاختراق التي يبدو عليها حزب الله، قامت إسرائيل بالعملية النوعية التالية واستهدفت الاجتماع الضيّق تركت فيه إبراهيم عقيل وقيادي في فرقة الرضوان من إيران من بين القتلى الـ13 وبالتالي؛ أي حجم من الاختراق يعيشه حزب الله؟

إسرائيل عسكريا أنجزت مهامّ نوعية في مواجهة حزب الله، خاصة أنّها مارست الضربات الاستباقية التصاعدية، ولم تنتظر التصعيد من حزب الله للرد، بل وجّهت ضربات مؤلمة ومستمرة ضدّ حزب الله.

قد يكون الغرض من هذه الضربات توجيه رسائل للخطر الأول على إسرائيل (إيران)، وتحذيرها من مغبّة الرد على إسرائيل، وأنّ أي ردّ سيواجَه بتصعيد أكبر بمراحل، والحقيقة التي تبدو هي أنّ إسرائيل تسعى لنشوب حرب إقليمية لسببين رئيسين:

  • توحيد الجبهة الداخلية في إسرائيل، وانهاء حالة الاشمئزاز لدى الإسرائيليين من طريقة إدارة الحرب وملف الأسرى.
  • استغلال التحالف الأمريكي والأوربي المستمر وتغطيتهم على العمليات الإسرائيلية، واستهداف عمق إيران واجتياح لبنان واستكمال تدمير غزة، باستخدام أسلحة أكثر دمارًا، وإنهاء الحرب عسكريًا عن طريق سياسة الأرض المحروقة.

والسؤال الذي يُطرح هو: هل تحتفظ إيران بالفعل بحق الرد وسترد فعلاً؟ هل لازال لدى حزب الله ما يستخدمه ضدّ إسرائيل بعد كل تلك العمليات ضدّه؟

التوازن العسكري

منذ انتهاء حرب 2006 استمر حزب الله في تعزيز قدراته العسكرية واللوجستية، لا سيّما فيما يتعلّق بتطوير وإعداد ترسانة الصواريخ بعيدة المدى والطائرات بدون طيّار، هذا التحوّل في القدرات العسكرية والتمكين العسكري والاستمرار في إعداد العدّة للحرب يضع إسرائيل أمام التحدّي، حيث أنّ حزب الله يمتلك الآن أدوات وأسلحة قادرة على استهداف وتوجيه ضربات عميقة ودقيقة لأهداف في داخل كيان إسرائيل، بما في ذلك البنية التحتية الحيوية مثل” المطارات والموانئ ومحطات الطاقة”.

على الجانب المقابل نجد أنّ إسرائيل تعتمد وتتفاخر بقدراتها الدفاعية المتطوّرة، المتمثّلة بمنظومة “القبّة الحديدية” و”مقلاع داوود”، وهي أنظمة أسلحة أثبتت فعاليتها وقدراتها إلى حدّ كبير في اعتراض وتدمير الصواريخ القادمة من قطاع غزة.

كما أنّ الاستخبارات الإسرائيلية من أكثر الأجهزة الأمنية المتطوّرة تكنلوجيًا، وتوظف هذا التطوّر في جمع معلومات الاستهدافات وتنفيذ العمليات النوعية ضدّ الجهات المعادية لها، وكانت تجربتها الأولى في هذا الصدد ذات نجاح مرعب؛ حين قامت بتفجير أجهزة “البيجر” اللاسلكية المحمولة لدى عناصر حزب الله.

لكن لا يُستبعد أمام الكمّ الهائل من الصواريخ الدقيقة التي يمتلكها حزب الله، والتي قد يفاجئ إسرائيل بامتلاكه لها، ثم بخطط وطريقة الاستهداف وإدارة معركة الصواريخ قد تجد إسرائيل نفسها في وضع غير مسبوق، ثم أنّ الإسرائيليين ليسوا بالشعب المقاوم؛ فقد نشهد موجات هجرة ونزوح جماعي تترك إسرائيل دون شعب.

المعركة القادمة، على ما يبدو، مصيرية وهي قاب قوسين أو أدنى، خاصة عندما يعتبرها كل طرف بأنّها معركة وجودية، وقد تصل إلى مرحلة استخدام كل الأسلحة الممكنة، وهذه أخطر المراحل على المنطقة، وتفتح الباب أمام أزمات إنسانية كارثية في الشرق الأوسط.

دور إيران والتوتّرات الإقليمية:

تُعتبَر إيران الداعم الرئيسي لحزب الله عسكريًا وسياسيًا، ويأتي ذلك في إطار مشروع إيران وتطبيق ” الهلال الشيعي” وأحد أهم قوامه هو” حزب الله”؛ لإبقاء بيروت (عاصمة لبنان) تحت النفوذ الإيراني من خلال قبضة حزب الله، وتتعامل إيران مع المحافظة على وجود حزب الله وتسليحه بمثابة السلاح الاستراتيجي والخط الأول في مواجهة إسرائيل، كما أنّ حزب الله قد أثبت ولاءه المطلَق من خلال تنفيذ أجندة إيران في سوريا، وقد تكون الحرب السورية، في مرحلة من المراحل، قد أفقدت التركيز الكلّي على الجبهة الإسرائيلية، ولكن مع كمّ الغارات التي كانت تنفّذها إسرائيل في الداخل السوري، وفي كل مرة يتم استهداف مراكز البحوث العلمية أو شحنة أسلحة، يقطع الشك باليقين أنّ إيران استخدمت الحرب في سوريا لاستكمال مشروعها في تعزيز النفوذ، والإعداد لضرب إسرائيل، وتسليح حزب الله بما يكفي لمواجهة طويلة الأمد مع إسرائيل، هذه النتيجة توضّح أنّ الحرب شاملة قادمة لا محالة في ظلّ كل هذا الإعداد، وهذا ما تفطّنت له إسرائيل وتحاول إجهاض القدرات والامكانيات التي أسّسها حزب الله، بإشعال حرب إقليمية تقوم خلالها بضربات مدمّرة، إلّا أنّ إزالة النفوذ الإيراني من سوريا والمنطقة لن يكون مجانيًا؛ والمقابل قد تكون حربًا شاملة ودمارًا واسعًا.

 السيناريوهات المحتملة لمواجهة شاملة:

في ضوء التصعيد المتزايد، تبدو سيناريوهات المواجهة المفتوحة بين إسرائيل وحزب الله أكثر احتمالًا من ذي قبل، ويمكن لهذه المواجهة أن تتّخذ عدّة أشكال:

  • استمرار موجات من الضربات الجوية: حيث قد يوسّع حزب الله من دائرة استهدافه كمّاً ونوعاً، ويمكن أن تبدأ المواجهة بضربات محدودة، تتوسّع لاحقًا إلى قصف صاروخي متبادل بين الجانبين، وتنحصر الحرب على ضربات جوية دون اجتياح برّي، وقد تفضل إسرائيل عدم الذهاب إلى هجوم برّي؛ خشية خطط وإمكانيات غير معروفه لدى حزب الله.
  • حرب متعدّدة الجبهات: قد يمتدّ الصراع ليشمل الجبهتين الشمالية (لبنان) والجنوبية (غزة)، وربما يمتدّ إلى الجولان السوري؛ وهو ما يزيد من تعقيد المعركة، وقد تنخرط موجات سخط شعبية وانضمام أفراد ومجموعات إلى الحرب من الضفة الفلسطينية ولبنان والأردن ومصر والعراق واليمن والجزائر وليبيا.
  • التورّط الدولي في الحرب: يمكن أن تنجرّ قوىً دولية وإقليمية إلى الصراع، سواء بدور مباشر أو من خلال الدعم اللوجستي والعسكري للطرفين، وقد تكون تركيا وإيران وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية من الدول التي يمكن أن تتصدّر المشهد.

 دور المجتمع الدولي وإمكانيات التهدئة ووقف الحرب:

في ظل التوتّرات والتصعيد المستمر، هناك محاولات خجولة من المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة وقطر ومصر، للعب دور الوسيط لتهدئة الأوضاع ووقف الحرب، منعًا للتصعيد وحدوث حرب شاملة، لكنّ التوتّرات بين إيران وإسرائيل من جهة، والولايات المتحدة وإيران من جهة، وبين إسرائيل وحزب الله من جهة أخرى، تجعل من مسار التهدئة محفوفًا بالعقبات، خاصة أنّ أذرع إيران في المنطقة قد أكّدت أنّهم يشكّلون تهديدًا مباشرًا على المصالح الأمريكية وأمن إسرائيل، منهم الحوثيون في اليمن وحزب الله العراقي.

الدعوى التي رفعتها دولة جنوب إفريقيا ضدّ إسرائيل، رغم الصدى الإيجابي الذي لاقته، لم تسهم بشكل فعّال في إيقاف إسرائيل أو الدفع إلى التهدئة لتثبت مرة أخرى ضعف القانون الدولي أمام الرغبة الأمريكية.

نظرياً؛ هناك إمكانية لإجراء مفاوضات غير مباشرة عبر وسطاء دوليين أو إقليميين مثل فرنسا أو قطر أو مصر، وهذا ما يحدث فعليًا، ولكن دون نتائج على مستوى إيقاف الحرب، لكن نجاح هذه المفاوضات يعتمد بشكل كبير على استعداد الطرفين لتقديم تنازلات، وهو أمر يبدو بعيد المنال في ظل التصعيد الراهن.

خاصة أنّ حكومة نتنياهو في موقف حرج أمام المعارضة الإسرائيلية والشعب الإسرائيلي في طريقة الحفاظ على الأسرى وتحريرهم، إنّ إيقاف الحرب على هذا الشكل يعتبر خسارة كبيرة لإسرائيل على مستوى الحرب، وحتمًا الإطاحة بنتنياهو ومسؤولين أخرين قد يؤدّي بهم الأمر للمثول أمام المحكمة، وإنّ الاستمرار في حرب ليست واضحة تبعاتها ونتائجها أيضا مقلق، ويجعل القرارات محض تكهّنات مختلفة.

زر الذهاب إلى الأعلى