التحول الجديد في السياسة التركية وانعكاساتها

تتمتع تركيا بوزن جيوسياسي كبير في المعادلة الدولية خاصة في الأزمات الدولية كالأزمة الأوكرانية والصراع الغربي الروسي، إلى جانب الأزمة السورية، ولا يمكن لأحد وبالأخص الدول العظمى تجاهل ذلك. وعلى هذا الأساس يقوم أردوغان باستغلال الدول للحصول على أكبر قدر من المكاسب من الغرب ومن روسيا في آنٍ واحد. فروسيا لحاجتها إلى تركيا في صراعها مع الغرب تقدم التنازلات وتغض الطرف عن السياسة التركية ضدها وتقدم المبررات لها وآخرها بأن روسيا تتفهم الضغوط الغربية على تركيا بعد نقلها لخمسة من قادة تنظيم آزورف الإرهابية “النازيين الجدد” إلى كييف، وذلك في سبيل كسب تركيا إلى صفها أو على أقل تقدير حيادها في الصراع الغربي الروسي. أما الغرب فهي تضغط على تركيا لاتباع سياستها تجاه فرض عقوبات على موسكو كونها عضو في حلف الناتو ويجب عليها الالتزام بقرارات الحلف، إلا أن الغرب وعلى الرغم من الضغوط التي تمارسها على تركيا إلا أنها لا ترتقي لحد إجبار تركيا على اتباع سياستها فهي تخشى من التجاء تركيا إلى روسيا وقيام الاخيرة باستغلال تلك الضغوطات لربط تركيا أكثر بفلكها، لكن في نفس الوقت تعول على الوضع الاقتصادي المتدهور لتركيا، بحيث تصبح تركيا مجبرة على تنفيذ القرارات الغربية في المستقبل القريب، وهو ما يبدو إن جاز التعبير التنازل عن شروطها لانضمام السويد إلى الحلف من خلال مطالبتها بانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فتركيا بحجة إلى الغرب لتحسين وضعها الاقتصادي.

على الرغم من حصول أردوغان على مكاسب كثيرة من الصراع الغربي الروسي في أوكرانيا ومن الأزمة السورية، إلا أن أردوغان وبعد فوزه في الانتخابات الرئاسية التركية بات في مأزق كبير خاصة بعد فشله في كبح تدهور الليرة التركية أمام الدولار والتي وصلت إلى مستويات قياسية غير مسبوقة وفشله في الحصول على الضوء الأخضر لشن عدوانه على مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، وعدم حدوث أي تغيير في اتفاقية لوزان بعد مرور مئة عام عليها حيث كان أردوغان يعوّل عليها لإنهائها أو إجراء تعديلات على بنودها بما يتوافق والأطماع العثمانية الجديدة، وبما أن ولايته هذه هي الأخيرة كرئيس لتركيا ولضمان أمن عائلته من أي محاكمة بعد انتهاء ولايته أو خشيته من حدوث ربيع تركي ضد نظامه، يحاول أردوغان إن يخطب ود الغرب من جديد بعد تدهور العلاقات التركية الغربية نتيجة سياسته الخارجية وأطماعه التي تشكل تهديداً على المصالح الغربية في الشرق الأوسط وعلى النظام العالمي. هذا التودد التركي نحو الغرب قد يجلب معه تنازلات سيقدمها أردوغان للغرب وبالأخص ما يتعلق بالصراع الغربي الروسي وسيكون أردوغان مضطر لاتباع سياسة الغرب بفرض عقوبات على روسيا في المستقبل القريب. ومقابل ذلك ستتدهور العلاقة التركية الروسية وحينها لن تستطيع روسيا تقديم المبررات لتركيا كون تركيا ستكون في المحور الغربي ضدها. وبالتالي ستكون روسيا قد فشلت في كسب تركيا وفي نفس الوقت وصول أردوغان لنهاية سياسته في ابتزاز الطرفين للحصول على المكاسب.

كيف ستكون علاقة أردوغان بالغرب وروسيا في المستقبل القريب

على المستوى الغربي

إنَّ سياسة أردوغان أدت إلى تدهور العلاقات مع الغرب بعد توجهه نحو الشرق “روسيا والصين” يحاول اليوم إعادة تصحيح علاقته مع الغرب. حيث بدأ في الآونة الأخيرة يتودّد للغرب من البوابة الأوكرانية عندما سمح بنقل خمسة من قادة كتيبة آزورف النازيين الجدد إلى أوكرانيا التي تعمل روسيا على محاربتهم “تطهير أوكرانيا من النازيين الجدد”، والموافقة على عضوية السويد في الناتو ورغبته في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي كأحد مطالبه لانضمام السويد إلى الناتو، ويبدو أن أردوغان لديه حسابات جديدة بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة قد تتعلق بالوضع الاقتصادي والداخلي “كالربيع التركي” والوضع الأمني لعائلته.

كما يبدو أن الغرب لم يعد يثق بأردوغان، فتدهور العلاقات التركية مع الغرب بدأت منذ وصول أردوغان إلى السلطة حين رفض البرلمان التركي السماح للقوات الأمريكية باستخدام الأراضي التركية لضرب نظام صدام حسين، ومن ثم شراء منظومة S400 الروسية وتنامي العلاقات التركية الروسية والتنسيق الكبير بينهما في الأزمتين السورية والأوكرانية  والأطماع التركية باحتلال أجزاء من سوريا والعراق “الميثاق الملي” والتي لم تخدم الغرب، حيث يحاول أردوغان من خلال أطماعه التوسعية إلى إبراز تركيا كقوة عظمى. إلا أن الغرب لن يسمح لتركيا في البروز كقوة عالمية “عودة العثمانية بشكلها الجديد” وبالتالي فالغرب لن يقدم الكثير لتركيا حتى وإن عادت إلى حاضنتها، فالمساعدات الغربية لن تصل إلى حد إخراج تركيا من أزمتها الاقتصادية كونها ستكون إسعافيه أو مقابل شروط وسيستمر التدهور الاقتصادي وانهيار الليرة التركية. على الرغم من معرفة أردوغان بالتوجهات الغربية إلا أن حساباته الجديدة تجعله مضطر للتودد نحو الغرب، كما أنه لا يزال يمتلك أوراق في صالح الغرب يمكن له الحصول على بعض المكاسب وخاصة الشخصية بمنع حدوث الربيع التركي وأمن عائلته، وهوما قد يضع تركيا في أزمة مع روسيا في المستقبل القريب.

على المستوى الروسي

على الرغم من نجاح السياسة الروسية حتى الآن في تحييد تركيا في الأزمة الأوكرانية حتى الآن وربطها بفلكها في أكثر من ملف والاستفادة منها في الأزمة السورية، إلا أن نهاية السياسة الروسية هي الفشل، فتركيا هي صنيعة الغرب ولها تأثير كبير على تركيا اقتصادياً وعسكرياً ومعظم الانقلابات العسكرية كانت تتم عن طريق شبكة الغلاديو اليد الطولى فيها، مقارنة بالنفوذ الروسي الذي يكاد يكون شبه معدوماً.

بالرغم من تنامي العلاقات معها في السنوات الأخيرة إلا أن ذلك لا يعني أن روسيا قادرة في التأثير على السياسة التركية فروسيا ليست لديها القدرة على مساعدة تركيا في الخروج من أزمتها الاقتصادية وهي في حالة حرب مع أوكرانيا والغرب، إلا من خلال إنشاء مشاريع اقتصادية مشتركة وهذه تحتاج إلى فترة زمنية قد تكون طويلة حتى تستطيع تركيا من جني ثمارها وهو ما لا يخدم أردوغان في الوقت الحالي فهو بحاجة إلى حلول سريعة وهذه الحلول تكمن بيد الغرب.

عودة تركيا إلى الحاضنة الغربية يعني تدهور العلاقات مع روسيا، فالأعذار أو المبررات التي تقدمها موسكو لأنقرة تجاه أي قرار ضدها لن تدوم، وقد تصل إلى مرحلة القطيعة عندما يصبح أردوغان خاضعاً للإرادة الغربية أملاً في تحسين الوضع الاقتصادي التركي. هذه القطيعة قد تنعكس على الأزمة السورية والتي ستتأزم أكثر عندما تقوم روسيا نتيجة تحول أردوغان نحو الغرب في البدء “وبالتعاون مع قوات النظام والميليشيات الإيرانية” بمعركة إدلب والشمال السوري لتحريرها من الاحتلال التركي ومن التنظيمات الإرهابية، ولا يستبعد أن يحصل تعاون بين روسيا وقوات سوريا الديمقراطية لمحاربة التنظيمات الإرهابية كرد فعل لتوجهه نحو الغرب.

إلا أن روسيا تحاول قدر المستطاع ألّا تصل الأمور إلى هذا الحد فصراعها مع الغرب في أوكرانيا هو صراع طويل الأمد وفتح جبهة جديدة لن تخدمها بأي شكلٍ كان وستكون نتائجها كارثية على روسيا، لذا تعمل على ربط تركيا أكثر بفلكها من خلال إعادة التطبيع بين أنقرة ودمشق.

تركيا في هذه الحالة لن تكون بأفضل حال من روسيا فالغرب قد يحاول استدراج تركيا لحرب وإن كانت غير مباشرة مع روسيا في سبيل الحفاظ على نظامها العالمي. فمن جهة ستهدف لاستنزاف القدرات العسكرية والاقتصادية الروسية وتحييدها كدولة عظمى مؤثرة تريد تغيير النظام العالمي الحالي، ومن جهة أخرى منع تركيا من تحولها إلى قوة كبيرة وفي نفس الوقت ضرب العلاقة التركية الروسية وإعادة الخلافات التاريخية مع روسيا والتي خدمت الغرب على مر التاريخ.

وفي هذا السياق وبالرغم من السياسة البراغماتية التي ينتهجها أردوغان، إلا أن تودده نحو الغرب في هذا التوقيت هو مؤشر على تخبطه وعدم قدرته في إيجاد نوع من التوازن بين علاقاته الدولية بين الشرق والغرب نتيجة سياسته البراغماتية وأطماعه التوسعية التي هي أكبر منه وبين أزمته الاقتصادية حيث لم يعد قادر على إيجاد الحلول لها والتي قد تؤثر على الوضع الداخلي. وفي سبيل تجنب أي أزمات جديدة عمل على إحداث تغييرات جذرية بتعيين شخصيات جديدة في الوزارات السيادية أملاً منه في إيقاف عجلة التدهور الاقتصادي وتجنب حدوث أزمة داخلية وإعادة العلاقات مع الغرب. قد تستمر سياسة أردوغان البراغماتية خلال هذه الفترة بابتزاز الأطراف المتصارعة، إلا ان هذه السياسة لن تدوم طويلاً حتى تنعكس وبشكل سلبي على تركيا في المرحلة المقبلة.

زر الذهاب إلى الأعلى