دوافع و أبعاد التدخل التركي في ليبيا

تشكل منطقة الشرق الأوسط البقعة المحورية الأكثر اضطراباً وتوتراً وسخونة في العالم، بسبب الأهمية التي تتمتع بها هذه المنطقة من حيث الممرات المائية التي تربط شرق العالم بغربه، والثروات الغنية من الطاقة والمعادن الموجودة في هذه المنطقة، والتنوع الأثني والثقافي كونها تشكل منبع الحضارات أو (أم الحضارات)، مجموعة عوامل جعلت المنطقة محطة الاهتمام والجذب العالمي، لذلك تتصارع عليها جميع القوى، الأمر الذي جعل من رقعة هذا الصراع  تتسع وتتعمق حتى تصل إلى ليبيا الدولة المتاخمة لشرق الأوسط، التي سبق وأن كانت تعيش أزمة سياسية ولكن نظراً لأهمية موقعها البحرية وثرواتها تأثرت بالصراع الشرق الأوسطي بشكل أكثر وتتجه نحو التعقيد في مسارات الحل، وعليه شهد الشهران الماضيان تحولاً في الأحداث على مسرح الأزمة الليبية عسكرياً وسياسياً على خلفية تهريب تركيا الأسلحة للمليشيات التي تقاتل مع حكومة السراج، بداية من إعلان حكومة السراج عن الاتفاقية التي وقعتها مع حكومة أردوغان للتعاون الأمني والعسكري في المتوسط ومروراً بالتصعيد العسكري بين قوات حفتر ومليشيات السراج، حيث أعلن حفتر بدء تحرير مدينة طرابلس من هذه المليشيات الراديكالية المتطرفة وتزامن مع هذا الإعلان الدعم العسكري التركي لمليشيات الوفاق بقيادة السراج بعد ترسيم الحدود الاقتصادية الخالصة في المتوسط والتي كانت من أبرز مفرزات الاتفاقية التي وقعت بين الطرفين في أنقرة أواخر شهر تشرين الثاني وعلى وقع هذه الاتفاقية برز المزيد من التصعيد والانخراط التركي في الصراع الليبي، ويعود ذلك إلى عدة أسباب جعلت تركيا تعطي الأولوية القصوى في هذه الفترة للوضع الليبي بعد احتلالها لسري كانيه وكري سبي، حيث زادت من سقف الدعم العسكري واللوجستي لحكومة الوفاق ووصلت إلى حد إرسال قوات عسكرية خاصة من الجيش التركي، ويمكن تناول أبرز الدوافع التركية على نحو التالي:

ـ الدافع الأول: السعي التركي إلى الاستفادة من الشرعية الدولية لحكومة السراج في طرابلس، وإنقاذها من التهديد الوجودي من قبل الجيش الوطني الليبي بقيادة الجنرال حفتر، وتحت غطاء الشرعية الممنوحة للسراج تهدف تركيا إلى تثبيت قدمها في ليبيا على الصعيد السياسي والسيطرة على الثروات الليبية في البر والبحر على الصعيد الاقتصادي.

ـ الدافع الثاني: هو تصدير الأزمات, حيث تحاول تركيا فرض تجربتها في سوريا على ليبيا أيضاً، من أجل نقل الأزمات من حدودها المتمثل في سوريا إلى جوار خصومها  الاقليميين وخاصة مصر، ويتجلى ذلك بشكل واضح من خلال إرسال كميات متتالية من المرتزقة والقوات الخاصة من الجيش التركي، وتزايد مستوى ونوعية التسليح، وهذا ما دفع بروسيا إلى إبداء موقف معارض لسياسة تركيا حيال ليبيا، وهو موقف له دلالات مهمة يتمثل بشكل أساسي في رفض روسيا استمرار تدفق الإرهابين من إدلب إلى طرابلس، ورفض الرؤية التركية ومقاربتها السياسية القائمة على التنازل في ملفات عالقة بشكل جزئي في سوريا مقابل خلق الأزمات وتعميقها في ليبيا.

ـ الدافع الثالث: هو محاولة لكسب قاعدته الشعبية ثانيةً بعد تراجعها بشكل كبير في العام الماضي ولذلك نجد بأن أردوغان خلال خطاباته أمام الجمهور كرر كثيراً التعابير التي تدل على أمجاد الامبراطورية العثمانية وإرثها، صحيح أنه يحاول تحقيق ذلك إن تسنى له الأمر ولكنه بهذا الأسلوب يحقق هدفاً آخر، ألا وهو تدوير أنظار القواعد الاجتماعية من الداخل إلى الخارج، وإيهام الشعب التركي على أنه يحارب الإرهاب ووجوب حماية التركمان خارج الحدود.

 وأمام هذا التدخل التركي المتصاعد في ليبيا عسكرياً، هناك تقاعس أوربي وأمريكي حيال الملف الليبي قياًسا بالدور الروسي المتصاعد في ليبيا من نشر قوات سرية روسية ضمن الجيش الوطني بقيادة حفتر والمعروفة باسم شركة أو مجموعة فاغنر الروسية، وسياسياً روسيا هي الدولة الوحيدة التي تملك عدداً كافياً من القوات البرية التي لعبت دوراً كبيراً ضمن قوات حفتر، مما قد يُتيح لها قلب المعادلات على نحوٍ حاسم فيما يتعلق بالنتائج المترتبة عن هجوم حفتر, هذا بالرغم من وجود قوات تركية خاصة ضمن مرتزقة حكومة السراج، وافتقار روسيا إلى فاعلين ليبين بشكل كاف لإطلاق عملية سياسية شبيهة بمسار أستانة المتعلق بسوريا، لأن الموقف الدولي الضعيف إزاء ليبيا جعلت من روسيا أن تنفرد لوحدها بالوضع الليبي، لذلك من المحتمل أن ترفض روسيا أي دور سياسي لتركيا من أجل حلحلة الوضع هناك, إلا في حال انحياز تركيا إلى المحور الروسي و ابتعدها عن الناتو.

وبالتالي تشكل الاتفاقية الموقعة بين تركيا أردوغان وحكومة الوفاق الليبية نفطة تحول إلى نزاع مباشر بين القوى التي تدعم الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر وتركيا التي تدعم حكومة السراج، لما لها أبعاد تؤثر بشكل سلبي على مصالح وأمن الدول المتوسطية  كاليونان وقبرص ومصر وأبعاد أخرى متعلقة بالشأن الليبي، حيث لم تهدأ الدول المتوسطية المعارضة لمحاولات تركيا لاحتلال ليبيا  والتوغل في المتوسط وكسب المناطق المائية لأنها باتت تشكل خطراً وانتهاكاً للسيادة المائية لقبرص واليونان ولوجود حدودٍ بحرية لكل مٌن مصر واليونان وقبرص. إن التواجد التركي من خلال محاولاتها في خلق نفوذ مستدام في ليبيا, يشكل خطراً على أمن ومصالح هذه الدول كون تركيا الأردوغانية والإخوانية أصبحت مركزاً لتصدير الإرهاب إلى العالم، أما بالنسبة للبعد الداخلي الليبي على النزاع المباشر, فبعد فشل حفتر من التوغل نحو طرابلس سابقاً، وهذا ما جعل من روسيا تتحكم في قواعد المعركة لتحرير طرابلس واللعبة السياسية في المستقبل، ومن المحتمل أن يشتعل فتيل النزاع بين الدول المعنية بالملف الليبي حيث الطاقة الكامنة من الثروات في السواحل والأراضي الليبية والتضارب الأيديولوجي وهذا ما جعل النزاع أكثر حدة وبوتيرة أعلى.

 

زر الذهاب إلى الأعلى