أبعاد السّياسة الروسيّة في شمال سوريا

تتضارب الأراء والرؤى حول منطقة سري كانيه (رأس العين) وكري سبي (تل أبيض) وباقي المناطق الأخرى من منبج إلى كوباني، بعد الاتفاق الطرفين روسيا وتركيا في سوتشي في 22 من هذا الشهر، تزامن ذلك مع رفض إيران القاطع لأي تواجد تركي في هذه المنطقة، في حين بقي موقف الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا وأيضاً الولايات المتحدة الأمريكية رهين دراسة بنود هذا التوافق الروسي التركي في سوتشي، ومع مطالبة البرلمان الأوروبي تركيا بالخروج من المناطق التي غزتها في شمال سوريا مؤخراً، المنطقة التي أصبحت صاحبة أكثر المعادلات الدّولية تعقيداً نظراً لاحتلال تركيا لهذه المنطقة على طول 120 ك.م تقريباً، والمخاوف الأوروبية من عودة داعش ثانية إلى هذه المنطقة.
وتتسارع التطورات السياسية والتحركات العسكرية على الأرض متجهةً إلى خصخصة المنطقة الشمالية لصالح التقاطعات في المصالح التي تفرضها الظروف والملفات المشتركة والعالقة للصراع السوري ـ على حساب مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا ومدينة إدلب وأريافها التي تتواجد فيها المعارضة المتطرفة في هيئة الائتلاف وفصائلها المرتزقة التابعة لتركيا، طالما أن روسيا أصبحت وسيطة بين الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا والنظام في ظل التراخي والتراجع الأمريكي على الأرض في المنطقة الشمالية، دون نسيان أن روسيا تحاول بكل ما في وسعها لكسب تركيا وإخراجها من تحت عباءة الناتو، مع وجود مسار سياسي مشترك منذ سنوات حول سوريا (الأستانة) والتي نجمت عنها مقررات أفضت إلى مقايضات على الأرض، منطقة مقابل منطقة أخرى، بما يتماشى مع أهداف وأطماع كل منهما في سوريا، وحثت روسيا تركيا لاحتلال شمال سوريا كثيراً قبيل الاجتياح التركي في التاسع من هذا الشهر.
وفي هذا السياق يطفو على السطح تساؤل مفاده: ما هو مصير المنطقة الشمالية وتحديداً المناطق التي كانت موضوع النقاش بين روسيا وتركيا في سوتشي وهي سري كانيه (رأس العين)، كري سبي ( تل أبيض)، منبج، وتل رفعت.
هناك تداول وترويج على نطاق واسع من قبل مختلف الدول لمشروع المنطقة الأمنة وفي مقدمتها الدول الأوروبية وتركيا، وبينما روسيا التي دخلت إلى هذه المنطقة سياسياً وعسكرياً من خلال تواجدها العسكري في منبج وكوباني ومطار الطبقة العسكري، والوساطة التي تبنتها بين الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا والنظام، تحاول التسييد على الصراع السوري من خلال التحكم بمفاصل هذا الصراع بشكل كامل واستغلالها انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من المنطقة الشمالية، لذا فروسيا لديها أولويات بناء على الخارطة العسكرية للقوى على الأرض، عندما بدأت تركيا باحتلال مدينة سري كانيه وكري سبي قامت قوات النظام بقصف إدلب والريف الشمالي والشرقي لمدينة اللاذقية، فروسيا تحاول بعد احتلال تركيا لمدينة عفرين في آذار من عام 2018 تأمين الطريق الدولي من حلب إلى دمشق والتخلص من المجموعات الإرهابية المتطرفة في إدلب لتأمين قواعدها العسكرية والملاحية في الساحل السوري، وبالتالي من الممكن في الفترة القادمة أن تتمكن قوات النظام السوري قضم مناطق من الفصائل الإرهابية في إدلب مقابل أن تضغط روسيا على المجالس العسكرية في قوات سوريا الديمقراطية الانسحاب من الحدود وفق الرؤية التركية، وخاصة أن قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي أكد خلال اتصال مع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو على وجود بنود في الاتفاق الروسي والتركي بحاجة إلى دراسة، وهذا يعني أن قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا لن تقبل بالإملاءات الروسية مهما كانت الظروف السياسية والعسكرية تجاه قوات سوريا الديمقراطية.
لذلك السياسية الروسية التي سلكتها تجاه ما تسمى بالمعارضة السورية يجب أخذها بعين الاعتبار، عندما قامت من خلال مؤتمرات الأستانة تمزيق هذه الفصائل عن بعضها وفصل المسار العسكري عن المعارضة السياسية وعملت على إيجاد منصات تمكنت من خلالها إضعاف الائتلاف السوري وخلق معارضة قريبة من رؤيتها ومرنة تجاه رؤية النظام السوري التي تسمى بمعارضة الداخل، حيث صنفت روسيا قبل الإعداد لمسار الأستانة الفصائل التي تقاتل النظام السوري بين الإرهابية والمعتدلة وتغيير المعارضة السياسية من خلال إدخال منصات إليها منصة موسكو والقاهرة.
حيث نجحت روسيا من خلال تقليد الحل الذي انتهت به الحرب الشيشانية ضدها، وإذا نظرنا إلى السياسة الروسية في سوريا نرى بأنها قريبة جداً من السياسة التي تعاملت بها مع الفصائل الشيشانية المتمردة، حيث عملت روسيا من تحويل الصراع من شيشاني ـ روسي إلى صراع شيشاني داخلي من خلال كسب ود بعض زعماء الفصائل المتمردة ضد روسيا وإعطائهم المناصب والنفوذ داخل الشيشان شرط القبول بالنفوذ الروسية على الشيشان، ومن أبرز تلك الشخصيات أحمد حجي قديروف (المتمرد الموالي) حسب ما وصفته روسيا، الذي كان زعيماً دينياً يطالب بالجهاد ضد روسيا أثناء حرب الشيشان عام 1993 ـ 1996 وسرعان ما تغيرت مواقفه من روسيا بحلول عام 1999 وعينته روسيا رئيساً لشيشان في عام 2003. وعند النظر إلى التجربة الروسية حينها، نجد بأنها متطابقة تماماً لسياستها في سوريا مع الفصائل والكيانات السياسية التي كانت تعتبر نفسها تمثل المعارضة السورية، والهدف من هذه المقاربة بين السياسة الروسية في سوريا والشيشان معرفة خفايا السياسة الروسية في سوريا، وخاصة أنها أصبحت معنية بشمال وشرق سوريا بشكل مباشر.
ما نود قوله في النهاية بأن روسيا حاولت أن تتبع نفس المسار الذي أتبعته مع الفصائل المرتزقة في أتباع نفس النهج تجاه شمال وشرق سوريا، وخاصة بعد القضاء على تنظيم داعش الإرهابي، حاولت روسيا تأليب مكونات المنطقة على بعضهما وإحداث تفريق وتشرذم بين المكونات والعشائر في هذه المنطقة، ومعها دعوات التي أرسلتها إلى شخصيات العربية من زعماء العشائر وزعماء من الأحزاب الكردية، وفي الجانب السياسي تعاملت مع الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا على أنها إدارة كردية بحتة ولم تنظر إلى قوات سوريا الديمقراطية على أنها قوات جامعة من كافة أبناء المنطقة، بل تعاملت معها على أنها القوة الكردية المتمثل في وحدات حماية الشعب YPG، إذاً روسيا تحاول تحجيم أي جسم أو كيان سياسي وعسكري بغية إحكام قبضتها على زمام الأمور، ومن هنا قد تعمل مع تركيا على الحساسيات الداخلية الكردية من خلال استخدم المجلس الوطني الكردي كبيدق بأيديهم لتخريب مشروع الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا.

زر الذهاب إلى الأعلى