السيناريوهات المتوقّعة تجاه الإدارة الذاتية على المستوى الدولي والإقليمي

الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا:

باتت الإدارة الذاتية الديمقراطية معروفة لدى القاصي والداني، من حيث تأسيسها، ودورها في القضاء على تنظيم داعش في الباغوز (آخر معاقل التنظيم)، ودورها في تحرير دير الزور والرقة ومنبج وغيرها من المناطق؛ فقد قدّمت أكثر من 12ألف شهيد من خيرة أبنائها، عدا عن الجرحى والمصابين، وصمدت 58يوماً من المقاومة الأسطورية في وجه الآلة العسكرية التركية في عفرين، ورسّخت السلم الأهلي بين مكوّنات مناطق الإدارة الذاتية من العرب والكرد والسريان والأرمن، بما يضمن المساواة والحرية والديمقراطية للجميع، وتوّجت عملها بالمجالس التنفيذية والتشريعية والبلديات والكومينات على أساس من أخوة الشعوب والأمة الديمقراطية، وصاغت العقد الاجتماعي وأصدرته عن طريق المجالس التشريعية، بما يتوافق مع حقوق الجميع لتنظيم العلاقة بين جميع المكوّنات بما لا يتعارض مع التشريعات الدولية والأممية والدستور السوري، على أساس وحدة الأراضي السورية والانتماء للوطن الواحد؛ وذلك لقطع الطريق أمام الاتّهامات المغرضة التي تصفها بالانفصالية، وتقوم الإدارة بترسيخ المؤسسات الخدمية المختلفة عن طريق البلديات، من تعبيد الطرق وتأمين المستلزمات من المحروقات ومادة الخبز والمواد التموينية الضرورية اللازمة، كل ذلك يأتي رغم تعرّضها للهجمات التركية من المسيّرات والمدفعية التي تلحق الضرر من حين لأخر، لزعزعة الاستقرار في مناطق الإدارة الذاتية المتحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية وبقية دول التحالف الدولي لمحاربة داعش، وهذا ما يزعج أنظمة الدول الإقليمية، كالنظام السوري والنظام التركي والنظام الإيراني، لما لتلك الأنظمة من أطماع وأجندات في كامل التراب السوري الذي تمثل الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا جزءاً هاماً منه؛ لوجود معظم النفط في أراضيها، ناهيك عن الثروات الزراعية الأخرى.

الأجندات الدولية والإقليمية المتناقضة تؤجّل حل المسألة السورية، ومن ضمنها مناطق الإدارة الذاتية، خاصة أنّ المنطقة تعيش على صفيح ساخن؛ فحرب غزة لم تنتهِ، بل توسّع نطاق الحرب بسبب ضربات الحوثيين في البحر الأحمر ضدّ التجارة الدولية، ومؤخرًا أطلقوا صاروخًا باليستيًا على إسرائيل، وحرب حزب الله وهجماته على شمال إسرائيل، وردّ إسرائيل بتفجير أجهزة “بيجر” وأجهزة اللاسلكي لعناصر حزب الله في بيروت وجنوب لبنان وفي سوريا، وطالت حتى السفير الإيراني ومقاتلي الحزب في دير الزور، وقد أقرّ حسن نصرالله بالخسائر والضربات الموجعة، وردّ برشقات من كاتيوشا على ثكنات الجيش الإسرائيلي، والضربة الإسرائيلية الأخيرة كانت بأكثر من 100 غارة جوية طالت اجتماعات لقيادي من حزب الله مع فلسطينيي في الضاحية الجنوبية وطالت قائداً من قادة حزب الله المدعو (إبراهيم عقيل) البديل عن (فؤاد شكر)؛ ويبدو أنّ الحرب باتت مفتوحة بين حزب الله – ومن ورائها إيران- من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، رغم تصريحات الرئيس ماكرون الذي يدعو إلى الدبلوماسية وإنهاء حالة الحرب، هذه الحرب التي سوف تنتهي بنهاية المطاف بصفقة تنهي الوجود العسكري لحماس في غزة، وتقلّم أظافر حزب الله في جنوب لبنان، والعودة بحزب الله إلى القرار الأممي 1701 ويستعيد لبنان هويته وكيانه، وما يحدث حاليا ً في لبنان وفي شمال إسرائيل ما هو إلّا ردود أفعال إيرانية، ولن تغامر إيران بأكثر من ذلك خشية استهداف مواقعها النووية ومواقع تخصيب اليورانيوم، كما لا تريد خسارة الجانب الأمريكي أو “الأخوة الامريكيون” (كما وصفهم بزشكيان مؤخّراً)، والذي يطمح لرفع العقوبات الاقتصادية ورفع الحظر عن المليارات الإيرانية المجمّدة في البنوك العالمية، واتفاق غزة قادم لا محالة، وسوف تتوقّف رشقات حزب الله وهجمات الحوثي والحرس الثوري وفصائل الحشد، وبالتالي؛ سوف تتغيّر موازين القوى في المنطقة وسيتم تقليم أظافر الفصائل كلها، حتى فصائل الائتلاف الوطني التابع لتركيا مثل العمشات والنصرة والسلطان مراد ومن في شاكلتها، لتدخل الصفقة التركية – السورية القادمة – المزمع تحقيقها – حيّز التنفيذ، وبإرادة روسية وربما صينية وموافقة إيرانية، وربما عربية بعد عودة النظام إلى جامعة الدول العربية وإعادة العلاقات العربية معه وفتح السفارة الإماراتية والسعودية وغيرها، وتطبيق سياسة “خطوة مقابل خطوة” التي لم تأت ثمارها مع النظام السوري، وربما يتم تعويم النظام السوري وإعادة تأهيله مرة أخرى مادام ذلك يرضي دولة إسرائيل، لعدم مشاركة النظام السوري في جبهات الإسناد ضدّ إسرائيل في حرب غزة، بمثابة مكافأة له، رغم تعرّضه لعدد لا يحصى من الهجمات الإسرائيلية التي استهدفت المطارات السورية ومراكز أبحاثه التي تُستغلّ من قبل الحرس الثوري وإيران، وربما يتم تجاوز قرارات الأمم المتحدة 2254 ومسار اللجنة الدستورية والذهاب إلى صفقة شاملة تضمّ الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرقي سوريا بما لا يتناقض مع القرارات الأممية المذكورة، ولتتويج الصفقة بإعادة النظام السوري وتأهيله، ربّما تجري الإدارة الذاتية الحوار مع النظام السوري وتعرض مبادراتها التي لا تتناقض مع الدستور السوري، وما يروّج لا يخرج عن إطار التسريبات هنا وهناك، وربما يؤجّل النظام السوري انفتاحه على الإدارة الذاتية لأسباب تتعلّق ببنيته الداخلية وينتظر استكمال شروط تأهيله وقبوله في الوسط العربي والدولي، أو ربما يعوّل النظام على الأطراف الدولية مثل روسيا وحتى الولايات المتحدة، لأنّ النظام السوري على تواصل مع الإدارة الامريكية – ولو بشكل غير رسمي وغير معلن – عن طريق بعض الدول العربية للضغط على الإدارة الذاتية الديمقراطية، لأنّها قوة فعلية ومشاركة في التحالف ضد داعش عبر قواتها (قوات سوريا الديمقراطية) وهي قوة تمثّل شعبها ومكوّناتها بأسس انتخابية وديمقراطية، وشرعيتها نابعة من شعبها الذي تدافع عنه.

السيناريوهات الدولية:

روسيا:

روسيا موجودة في غرب سوريا ولديها قاعدة عسكرية في حميميم ولديها نفوذ في ميناء طرطوس البحري، ولديها دور أساسي في غرب سوريا أيضًا، وتعتبر وجودها في سوريا شرعياً؛ لأنّها دخلت بدعوة من النظام السوري، وتقف روسيا تجاه الضربات الإسرائيلية في سوريا موقف الحياد ولا تبدي أي اعتراض، كما تساهم في تحييد النظام السوري، وهذا يرضي إسرائيل والولايات المتحدة الامريكية والتحالف الدولي، وهي في الوقت ذاته على علاقة وثيقة مع تركيا وتلعب دوراً في التقارب بين النظام التركي والسوري وتعمل على تقريب وجهات النظر بين الجانبين، وتشكّل دوريات مع القوات التركية لمراقبة الحدود بين تركيا والإدارة الذاتية، كما تحاول التقريب بين الإدارة الذاتية والنظام السوري، ولا تخلُ روسيا من أجندات وأطماع في علاقاتها مع النظام السوري وحتى الإيراني والتركي، فهي التي لعبت أدوارًا في اجتماعات أستانة وسوتشي في اجتماعات ثلاثية ورباعية ضمّت الأنظمة المذكورة، خاصة بعد تورّطها في الحرب ضدّ أوكرانيا، وهي في تصاعد بعد تقدّم القوات الأوكرانية في أراضيها، فهي تحتاج لإيران لمدّها بالصواريخ والمسيّرات، وتحتاج لتركيا لذات الغرض، وتحتاج روسيا لدعم الدول العربية في حربها ضدّ أوكرانيا مثل دول الخليج؛ فقد حضر لافروف القمة العربية ساعياً لإقامة أفضل العلاقات معهما.

الولايات المتحدة الأمريكية:

يبدو أنّ هناك تحوّلًا في الموقف الأمريكي حيال الأزمة السورية، كما يبدو أنّ أمريكا قد رفعت الحظر عن النظام السوري؛ بدليل أنّ الدول العربية انفتحت في علاقاتها مع نظام بشار الأسد، وقام بشار الأسد بزيارات إلى دولة الامارات وسلطنة عمان، والمملكة العربية السعودية مؤخراً من أجل القمة العربية، والغالب أنّ كل ذلك بضوء أخضر أمريكي، واتباع سياسة “خطوة مقابل خطوة” ولا تريد أمريكا أن تكون سبباً في تعطيل المسار العربي مع النظام السوري، كما لا يستبعد أن تكون هناك قنوات اتصال بين الولايات المتحدة والنظام السوري، والغالب أنّ ذلك يتم برغبة من النظام السوري، والمرجّح أن تكون لسلطنة عمان دور في هذه اللقاءات بين ممثلي الإدارة الامريكية والنظام السوري، بمعنى أنّها رغبة أمريكية لبعث نوع من أسباب الحياة للنظام السوري بموجب الرضى والموافقة الإسرائيلية، وربما كان هذا من أسباب الاستدارة التركية التي لم يرقْ لها هذا الانفتاح، فأرادت التقارب مع النظام السوري بوساطة روسية وموافقة إيرانية؛ حتى لا تخرج من حصاد الأزمات في المنطقة دون حصة ونصيب، بل صارت تلوح من حين لآخر بتهديد شرق الفرات بالهجمات، للضغط على الولايات المتحدة الأمريكية، التي قد تدفع النظام السوري بالاعتراف بالإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا وبموافقة إسرائيلية، بل إنّ إسرائيل وايران وغزة ولبنان وحتى سوريا والإدارة الذاتية تنتظرعمّا ستسفر عنه الانتخابات الامريكية القادمة، (والتي سبق أن كتبنا عنها في مركز روج آفا للدراسات الاستراتيجية)، وقد يستمر هذا الموقف الأمريكي حيال سوريا وحيال شرقي الفرات في حال فوز كامالا هاريس، وقد تتغيّر السياسة الأمريكية حيال المذكورين في حال فوز دونالد ترامب (مرشح الحزب الجمهوري)، وهذا التوجّه الأمريكي الجديد حيال سوريا دفع بعض الدول الأوربية لإعادة علاقتها مع سوريا وفتح سفاراتها في دمشق.

 

السيناريوهات الإقليمية:

تركيا:

لا شكّ أنّ تركيا تنزعج من رفع الحظر على النظام السوري من قبل الولايات المتحدة، ولا يسرّها تعاطي أمريكا مع النظام السوري ولو استخباراتياً وبشكل غير معلن، وتعرف تركيا أنّ النظام السوري لم يشارك في إسناد الحرب في غزة، وهذا يرضي إسرائيل وأمريكا، وتخشى تركيا في نهاية المطاف أن يتم وقف الحرب وتعقد صفقة واتفاق في غزة مع إيران وأذرعها، ومن ضمنها النظام السوري، وتتغيّر الموازين ويتحقّق الاستقرار في المنطقة، وتنال الإدارة الذاتية حقّها في الوجود والاستمرار كحليف، من خلال اعتراف النظام السوري بكيانها ممثلا لمناطق شرقي الفرات ومكوّناتها، وهذا ما يفسّر التهديدات التركية من حين لآخر، خاصة أنّ تصريحات بشار الأسد الأخيرة حول انفتاحه على الإدارة الذاتية وأنّه سيتّفق خلال شهور، لا تتعارض مع تصريحات الرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية السيدة ألهام أحمد، التي قالت أنّه حالياً لا يوجد اتفاق، ولكنّها لم تقطع الأمل في غضون الأيام القادمة. ترتفع نبرة أردوغان ضدّ إسرائيل في هجماتها ضدّ حماس وضدّ لبنان، لكنّه في الوقت ذاته يقدّم الدعم لإسرائيل.

 تركيا تعاني من مشاكل  داخلية مزمنة؛ مثل التضخّم وتدهور قيمة الليرة التركية والبطالة وعبء اللاجئين البالغ عددهم 4مليون لاجئ سوري، حيث تريد تركيا ترحيلهم من خلال تحقيق تقارب مع النظام السوري، وبموافقة روسية، رغم صعوبات تحقيق ذلك؛ بسبب خلاف أردوغان مع المعارضة السورية والحكومة المؤقّتة في مناطق الاحتلال التركي في شمال غربي سوريا، ورفض الكثير من الفصائل الانصياع لأوامر الحكومة المؤقّتة وما يُسمّى بالجيش الوطني؛ لذلك يتبع سياسة زئبقية في التعاطي مع الأطراف الدولية كروسية وأمريكا، وكذلك مع الأطراف الإقليمية مثل إيران، والمرجّح أنّ أردوغان يرغب بفوز دونالد ترامب الذي أجاز له في السابق اجتياح سري كانيه /رأس العين/ وكري سبي/تل أبيض/ وله علاقات وثيقة مع عائلة ترامب، من حيث الاستثمارات والمصالح المتبادَلة بين الجانبين.

إيران:

تسيطر إيران على أغلب مفاصل الدولة السورية في كل مناطق سيطرة النظام السوري في غرب سوريا، وفي كل المطارات السورية، وفي كل المدن السورية – بما فيها دمشق وحلب- التي تحوي العديد من المزارات الشيعية، لقد استثمرت إيران آلاف الهكتارات وخاصة في مناطق المزارات، وهناك العشرات من الاتفاقيات الاقتصادية التي تشمل التجارة والسياحة، والعشرات من التفاهمات التي تتناول كل جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والعسكرية والأمنية مع النظام السوري، كما أنّ لإيران قوات موالية من الحرس الثوري وفصائل أخرى منتشرة في حمص وحماة ودير الزور والبوكمال وتسيطر على البادية السورية حيث مناجم الفوسفات، وهي متناغمة مع القوات الروسية في السيطرة على الأراضي السورية وتنسّق معها في مواجهة نفوذ الولايات المتحدة خاصة في مناطق البادية ودير الزور، وغالباً ما تتلاعب بالعشائر العربية في المناطق المذكورة وتحرّضها ضدّ مناطق الإدارة الذاتية في شرقي الفرات، وغالبا ما تتوافق مع تركيا وروسيا لتحقيق مصالحهما وأجنداتهما، وإيران هي الداعم الأساسي لحرب غزة، وتدعم حماس والجهاد الإسلامي، وكذلك تدعم حزب الله بعشرات الآلاف من الصواريخ، وتدعم الحوثيين والحشد الشعبي أيضًا، ولاتزال الحرب مستمرة في غزة، وكذلك في لبنان على خلفية الهجمات السبرانية الإسرائيلية بتفجير أجهزة “بيجر” وأجهزة اللاسلكي، التي خلّفت الآلاف من القتلى والجرحى، وقد اعترف حسن نصرالله بالضربات الموجعة التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ لبنان، وأخيراً مقتل إبراهيم عقيل الذي عُيّن خلفاً لفؤاد شكر، ورغم كل ذلك لم تقم إيران بالردّ العلني على مقتل إسماعيل هنية؛ فهي لازالت تسمع التطمينات الأمريكية والأوروبية التي تدعو للتهدئة وإنهاء الحرب، كما أنّها تخشى الضرابات الأمريكية والإسرائيلية التي سوف تطال مفاعلها النووي كما نوّهنا سابقا. إيران بدورها عملت استدارة في سياستها مع الغرب وأمريكا؛ وذلك حين عيّنت مسعود بزشكيان الإصلاحي الذي يظهر مرونة في خطابه، وقد وصف الأمريكيين بـ “الأخوة” لأنّه يأمل بإعادة المفاوضات حول الملف النووي الإيراني، ويريد رفع العقوبات المالية والاقتصادية عن إيران، وتحرير المليارات من الأموال الإيرانية المجمّدة في البنوك الأمريكية والأوربية.

  وتسعى إيران لتحسين علاقتها مع دول الجوار وخاصة العراق وتركيا وروسيا، وكذلك مع الصين التي لعبت دوراً في التقارب الإيراني – السعودي، ومن المرجّح أن تحصل إيران على العديد من المكاسب بعد أن تنتهي حرب غزة، ومنها بروز دورها الإقليمي الكبير، والاتفاق مع أمريكا وإسرائيل لضمان العودة إلى نشاطها النووي، وأن تستردّ على أموالها المجمّدة، كما حصل في عهد الرئيس أوباما، وتعزيز نفوذها في مياه الخليج والبحر الأحمر، والصفقة ستشمل النظام السوري الذي لم يتدخّل في هجمات حرب غزة ونال رضى الطرف الإسرائيلي، وسوف تكون الصفقة شاملة، لتشمل حتى الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا؛ كونها حليف ضمن التحالف الدولي ممثّلة بقواتها قوات سوريا الديمقراطية، لتستعيد إيران نشاطها التجاري مع الدول العربية بشكل أفضل من السابق.

زر الذهاب إلى الأعلى