سُبات الانتخابات الأمريكية والصفيح الساخن في الشرق الأوسط
وليد الشيخ
يعيش العالم اليوم في لحظة حاسمة مليئة بالتوتّرات والنزاعات التي تعصف بالشرق الأوسط، وتمدّ تأثيراتها إلى مناطق أخرى من العالم.
في ظل هذا الواقع، تبرز أهمية السباق الانتخابي الأمريكي وما يُسمّى بـ “السُبات الانتخابي” الذي يترافق مع تقليص التفاعل الأمريكي في قضايا دولية حساسة، يتزامن هذا السُبات مع سلسلة من الأزمات، بدءاً من الصراع المستمرّ في أوكرانيا بين روسيا والغرب، إلى التصعيد بين إسرائيل وحماس في غزة، وحزب الله في لبنان، وصولاً إلى التوتّرات المستمرّة مع إيران، وتدخّلات تركيا في جنوب كردستان وفي سوريا، كلّ هذه الأزمات تتفاعل مع بعضها بعضًا؛ ما يزيد من درجة حرارة الصفيح الذي يقف عليه الشرق الأوسط، والذي يمرّ بواحدة من أكثر الفترات حساسية واضطراباً في تاريخه الحديث، حيث تتداخل الصراعات الجيوسياسية والدينية مع المصالح الإقليمية والدولية؛ ومن خلال الصراع المتصاعد نرى تداخلاً معقّدًا بين اللاعبين الأساسيين في المنطقة، بدءًا من إيران وحتى الولايات المتحدة التي تمرّ بفترة “سُبات انتخابي” تؤثّر في دورها التقليدي في دعم استقرار المنطقة.
مفهوم “السُبات الانتخابي” الأمريكي:
السُبات الانتخابي يشير إلى تلك الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، حيث تقلّ فاعلية التدخّلات الخارجية الأمريكية؛ نتيجة انشغال الإدارة الحالية بالتحضير للانتخابات والتركيز على القضايا الداخلية، هذه الفجوة الزمنية تمنح الأطراف الإقليمية فرصة للتحرّك بحرية أكبر، دون الخوف من تدخّل حازم وسريع من واشنطن.
تأثيرات “السُبات الانتخابي” على الشرق الأوسط:
تلعب الولايات المتحدة، كقوة دولية كبرى، دورًا محوريًا في توجيه بوصلة الصراعات في الشرق الأوسط، ومع دخول واشنطن فترة من الجمود السياسي بسبب الانتخابات الرئاسية المقبلة، يصبح تدخّلها في الأزمات الدولية أقل حدّة.
- إيران: قد تستغلّ هذا التردّد الأمريكي لتوسيع نفوذها في المنطقة، سواء في لبنان أو سوريا أو حتى اليمن.
- إسرائيل: رغم تحالفها الوثيق مع واشنطن، قد تجد نفسها مضطرّة لاتخاذ قرارات استراتيجية معقّدة دون الحصول على الدعم الأمريكي الكامل في الوقت المناسب.
- الأطراف المتصارعة: قد ترى في هذه الفترة فرصة لتعزيز مواقعها الميدانية قبل أن تتغيّر الحسابات مع دخول إدارة أمريكية جديدة أو تجدّد التفويض الحالي.
خلال هذه الفترة، نشهد تصعيداً في عدة مناطق ساخنة في الشرق الأوسط؛ حيث تقوم القوى الإقليمية باستغلال الفراغ المؤقّت في السياسة الأمريكية لتحقيق مكاسب استراتيجية.
1- الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني والتوتّر مع حزب الله:
“السُبات الانتخابي” الأمريكي ترك الباب مفتوحاً لتصعيد الصراع بين إسرائيل وحماس في غزة، وبين إسرائيل وحزب الله في لبنان، في ظل غياب الضغط الدولي القوي، تجد إسرائيل نفسها أمام خيارات محدودة للتعامل مع هاتين الجبهتين في آن واحد، وحزب الله من جهة أخرى قد يستغلّ هذه الفترة ليصعّد من عملياته على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، بدعم مباشر أو غير مباشر من إيران التي ترى في هذا التصعيد فرصة للضغط على إسرائيل وحلفائها.
2- التوتّر مع إيران:
إيران تدرك جيداً حجم التدخّل الأمريكي في هذه المرحلة، وتسعى لتعزيز نفوذها في المنطقة، سواء من خلال دعم حلفائها في لبنان وسوريا واليمن، أو عبر تطوير قدراتها النووية، في ظل غياب دبلوماسية أمريكية واضحة، تحاول طهران المناورة لتحقيق مكاسب جيوسياسية، دون خشية من تدخّل عسكري أمريكي وشيك.
3- تركيا وتوسّعها الإقليمي:
في سياق أكثر تعقيداً، تستغلّ تركيا هذه الفترة لتكثيف تدخّلاتها في شمال سوريا وجنوب كردستان؛ حيث تهدف إلى تقويض الإدارة الذاتية وقصف المدن والقرى الكردية في جنوب كردستان؛ بحجة ملاحقة أعضاء حزب العمال الكردستاني.
يستخدم أردوغان هذه الأزمات لتعزيز مكانته داخلياً، خاصة في ظل التوتّرات السياسية الداخلية في تركيا، كما أنّ تهديد تركيا باستهداف مناطق شمال وشرق سوريا في حال إجراء انتخابات جديدة يعكس رغبة أنقرة في إبقاء الوضع في حالة من عدم الاستقرار في تلك المناطق؛ ما يمنحها فرصة للتدخّل بشكل أكبر.
- التطبيع التركي – السوري:
رغم الجهود المبذولة للتوصّل إلى تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، إلّا أنّ هذه المحاولات تصطدم بعقبات كبيرة، مثل: الخلافات حول مشروع الإدارة الذاتية، واستمرار التدخّلات التركية التي تعرقل أي تقدّم حقيقي في هذا الملف، في ظل غياب الضغط الأمريكي والدولي، ويبدو أنّ تركيا غير مستعجلة لتحقيق اتّفاق نهائي؛ حيث تفضّل تعزيز مواقعها العسكرية والاقتصادية في سوريا.
رؤية في الأوضاع الحالية:
من كتابات المفكر عبد الله أوجلان، طرح رؤية نقدية عميقة للنظام العالمي وموقع الشرق الأوسط فيه، فهو يرى أنّ الأزمة الحالية ليست مجرّد صراع بين دول قومية أو حركات تحرّر، بل هي جزء من أزمة أعمق تتعلّق بالبنية الأساسية للنظام العالمي القائم على الاستبداد والهيمنة، ويرى أوجلان أنّ الحلّ يكمن في تبنّي نموذج ديمقراطي تشاركيّ يتجاوز الدولة القومية، ويفتح المجال أمام أنظمة تعاونية أكثر شمولية.
في سياق الصراعات الحالية؛ نجد أنّ رؤيته تقدّم تفسيراً مهمّاً للصراع الكردي مع تركيا وسوريا، التدخّلات التركية المستمرّة في جنوب كردستان وشمال شرق سوريا تستند إلى خوف من تصاعد الحركة الكردية التحرّرية، التي تسعى إلى بناء نموذج ديمقراطي قائم على المشاركة والمساواة، وهو ما يعتبره النظام التركي تهديداً مباشراً لمصالحه القومية.
السباق الانتخابي الأمريكي والفرص المتاحة:
بما أنّ الولايات المتحدة تمرّ بمرحلة “سُبات انتخابي”، فإنّ الأطراف الإقليمية تجد في هذا التوقيت فرصة ذهبية لإعادة ترتيب أوراقها (تركيا، إيران، وإسرائيل)، كلّها دول تتحرّك بنشاط لتعزيز مكاسبها أو تحصين مواقعها قبل عودة الولايات المتحدة إلى الانخراط الفعلي في الشرق الأوسط بعد انتهاء الانتخابات، ومن المتوقّع أن تستمرّ هذه الفوضى الإقليمية لفترة أطول ما لم يتم إيجاد حلول دبلوماسية مستدامة.
“السُبات الانتخابي” الأمريكي يمثّل لحظة تاريخية في السياسة العالمية؛ حيث يتيح للقوى الإقليمية فرصة لإعادة تشكيل توازنات القوى في الشرق الأوسط، هذه الفترة قد تكون مليئة بالمفاجآت، مع احتمالية تصعيد عسكري في غزة ولبنان، وزيادة التدخّلات التركية في سوريا والعراق، واستمرار التوتّر مع إيران.
وما لم تتدخّل القوى الدولية بعد الانتخابات الأمريكية بشكل حاسم لإعادة التوازن والاستقرار؛ فإنّ كل هذه الأزمات تدفع المنطقة نحو مزيد من الانفجار.
الشرق الأوسط يعيش حالياً على صفيح ساخن، حيث تتزايد احتمالات نشوب صراع إقليمي أو حتى حرب شاملة؛ فالصراعات المتداخلة، والطموحات الجيوسياسية للقوى الإقليمية، واستغلال فترة الهدوء النسبي في السياسة الأمريكية تجعل من المنطقة “برميل بارود” قابلًا للانفجار في أي لحظة.
الأيام والأسابيع القادمة ستحدّد ما إذا كانت القوى الكبرى ستتدخل لتهدئة الأمور، أم أنّ اللاعبين المحلّيين سيستمرّون في دفع المنطقة نحو حافة الهاوية.