مستقبل سوريا في ظل النظام الجديد
عباس شيخموس

انتهى نظام الأسد على يد هيئة تحرير الشام بقيادة زعيمها أبو محمد الجولاني، وذلك بعد حكم دام لما يزيد عن نصف قرن من الديكتاتورية وكبت الحريات، وتهميش مكوّنات الشعب السوريّ، والجرائم والاعتقالات خلال تلك السنوات وبالأخصّ خلال الأزمة السورية، وذلك على الرغم من وجود استفهامات حول ما إذا كانت الهيئة قادرة على القضاء على النظام، أم أنّ تقدمها العسكري كان قد تمّ تحت الحماية الأمريكية بعد تهيئة الظروف العسكرية وحتى السياسية لهذه المرحلة لإنهاء نظام الأسد والسماح لهيئة تحرير الشام بالسيطرة على دمشق، ومن ثم تولّي أحمد الشرع (الملقّب سابقاً بأبي محمد الجولاني) منصبَ الرئيس السوري المؤقّت بعد حصوله على موافقة قادة هيئة تحرير الشام والفصائل العسكرية المنضوية تحت راية الهيئة.
فهل يمتلك الرئيس السوري المؤقّت القدرة على إدارة دفّة البلاد نحو سوريا ديمقراطية تعدّدية أم أنّه سيقودها نحو أزمة جديدة قائمة على التنظيمات الجهادية الراديكالية ونشر فكرها وارتكاب المزيد من الجرائم؟ وما هي سياسة الولايات المتحدة وإسرائيل تجاه سوريا خلال هذه المرحلة؟
لا يمكن إغفال الضغوط التي تمارسها الدول الإقليمية والدولية “تركيا وإسرائيل والدول العربية والولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي” على أحمد الشرع، هذا إلى جانب أنّ هيئة تحرير الشام ما تزال مصنّفة على قوائم الإرهاب، واستمرار العقوبات على سوريا؛ كل ذلك يشكّل تحدّيات أمام الشرع وحكومته، كما تشكّل عائقاً أمام بناء سوريا حديثة، إلّا أنّ هذا لا يعني تبرير الموقف وإيجاد الأعذار؛ فالسياسة التي انتهجها الشرع لم تكن بمستوى طموحات الشعب السوري نحو سوريا ديمقراطية بل تؤدّي بالبلاد نحو نفق مظلم.
سياسة اللون الواحد
منذ وصوله إلى القصر الجمهوري لا تتطابق تصريحات الشرع مع أفعاله، وكأنّ تصريحاته كانت موجّهة للخارج لا للداخل وذلك من أجل تبييض صورته؛ فالسياسة التي انتهجها أحمد الشرع ليست بأقلّ من السياسة التي انتهجها النظام البائد في بعض النواحي، خاصّة تلك التي تتعلّق بالسيطرة على الحكم من خلال تشكيل لجنة من لون واحد “من حاشيته” للتحضير للمؤتمر السوري الوطني، واللقاءات والاجتماعات التي قامت بها هذه اللجنة مع شخصيات هي على الأغلب مؤيّدة لها؛ حيث تم تحييد الأحزاب والكتل والقوى والشخصيات الوطنية التي تمثّل المكوّنات السورية وتؤمن بنظام ديمقراطي تعدّدي، ما جعل مصير هذا المؤتمر الفشل حتى قبل انعقاده نتيجة الانتقادات الكبيرة التي وجّهها إليه الشعب السوري الحرّ. أمّا بالنسبة للجيش السوري الجديد، فعلى الرغم من تصريحات الشرع بحلّ جميع الفصائل المسلّحة وانضمامها إلى الجيش السوري الجديد، إلّا أنّ تلك التصريحات لم تلقَ أي استجابة من قبل مرتزقة تركيا في الشمال السوري المحتلّ، وحتى تلك الفصائل التي أعلنت حلّ نفسها والانضمام إلى الجيش السوري الجديد لم يحدث فيها أي تغيير؛ حيث بقيت تلك الفصائل ككتلة واحدة مرتبطة بقادتها وتنفّذ أوامرهم وتعمل على تنفيذ الأجندة الخارجية. أمّا الدستور الذي وضعته لجنة تشبه لجنة التحضير للمؤتمر السوري فقد صاغت تلك اللجنة الدستور على مقاس الهيئة أو النظام الجديد، ومنحت الرئيس المؤقّت حصانة لا يملكها إلّا الملوك في العصور الوسطى؛ حيث رفضت غالبية الشعب السوري هذا الدستور.
فكيف لهكذا مؤتمر أن يحدّد مستقبل سوريا الجديدة؟ وكيف لهذا الجيش أن يحمي سوريا أرضاً وشعباً؟ بل إنّ هذا الجيش ليس بأقلّ عن جيش النظام الذي كان يعتقد أنّ مهمّته هي حماية الشعب السوري، أمّا في الحقيقة فقد كان لحماية النظام وارتكاب المجازر بحق كلّ مَن يعارضه؛ والأمر ذاته نجده لدى الفصائل المنضوية تحت راية الجيش السوري الجديد، فكيف لدستورٍ يُعتبَر نُسخة عن دستور البعث أن ينقل سوريا إلى نظام ديمقراطي تعدّدي؟
إذاً؛ ما يحدث في سوريا لا يبشّر بخير طالما بقيت هذه العقلية الراديكالية التي تغضّ الطرْف عن التنوّع الاجتماعي والثقافي والعرقي والديني الذي يتميّز به الشعب السوري.
التدخّلات الخارجية في سوريا
بعد سقوط نظام الأسد تكالبت الدول على سوريا، وجميعها تحاول الحصول على حصّة الأسد من الكعكة السورية، وخاصّة الدولة التركية التي تربطها بهيئة تحرير الشام (حالياً النظام السوري) علاقاتٍ قويةً؛ لذا تحاول تركيا مدّ نفوذها لتطال جميع مفاصل الدولة، وتقوم بإقامة قواعد عسكرية جديدة في غربي سوريا وفي العمق السوري “تدمر”؛ وهذا ما أدّى إلى بروز صراع غير مباشر مع إسرائيل التي تحاول هي أيضاً السيطرة على القرار السياسي في دمشق والبقاء في الجنوب السوري المحتلّ، فإسرائيل لا تسمح للجيش السوري الجديد بالدخول إلى الجنوب السوري، وتدعم – كما تدّعي – حماية المكوّن الدرزي في السويداء، لذا فإنّ سلطة النظام الجديد ستكون ضعيفة بل حتى معدومة في الجنوب السوري، أمّا الولايات المتحدة فتهدف – وبشكل غير مباشر- إلى تغيير شكل نظام الحكم في سوريا إلى نظام لا مركزي أو فيدرالي؛ وهو أحد المطالب الرئيسية للإدارة الذاتية والشعب الكردي الذي لاقى الويلات على يد النظام المركزي الذي أظهر فشله في تحقيق العدالة والحرية والمساواة في سوريا.
إنّ السياسة التي ينتهجها أحمد الشرع وحاشيته مرتبطة بأجندة خارجية؛ فالشرع وفصائله العسكرية لا يملكون القدرة على إنهاء التبعية لتلك الدول، خاصة دولة الاحتلال التركي، وكأنّ وجودهم مرتبط بتلك الدول، وهو نفس المنطق الذي سار عليه النظام البائد من خلال الارتباط بإيران ومحوره الشيعي، والابتعاد عن المحور العربي؛ ما أدّى إلى ضعفه سياسياً واقتصادياً وتسبّب بأزمة عصفت بالبلاد لمدة أربعة عشر عاماً، وكانت نتيجتها سقوط النظام وهروب رأس النظام إلى روسيا.
لا يمكن إنكار أنّ هذا النظام الجديد يتعرّض لضغوط خارجية كبيرة، لكن يترتّب عليه أن يستمدّ قوّته من محيطه العربي ومن الشعب السوري وليس من تركيا، وعليه أيضاً أن يأخذ بالحسبان التنوّع العِرقي والديني والثقافي الذي يميّز الشعب السوري، وأن يأخذ العِبَر من النظام البائد ومصيره.
إنّ الشرع ونظامه من خلال هذه السياسة التي ينتهجها لا يقود سوريا إلى برّ الأمان؛ فكل الخطوات التي اتّخذها أحمد الشرع منذ استلامه السلطة لم تكن على قدر تطلّعات الشعب السوري الذي عانى من استبداد النظام البائد وجرائمه وتهجيره للملايين من الشعب السوري إلى الخارج، بل إنّ سياسته تُعَدُّ امتداداً لسياسة النظام البائد نفسها.
سياسة الولايات المتحدة تجاه النظام الجديد
إنّ إبقاء الولايات المتّحدة الأمريكية لأحمد الشرع وهيئة تحرير الشام على قوائم الإرهاب قد تكون لغايات مرتبطة بالسياسة الأمريكية تجاه سوريا؛ فإبقاؤهم على قوائم الإرهاب يعني أنّهم معرّضون للاستهداف سواء من قبل الولايات المتحدة أو إسرائيل، وهو ما يعني أنّ أي تحرّك أو سياسة لا تخدم الولايات المتحدة، أو إن جاز التعبير، أي خروج عن المسار الذي تم رسمه للنظام الجديد سيقابله ردّ من قبل الولايات المتحدة أو إسرائيل، وبالتالي؛ فإنّ هذا النظام يسير بشكل مباشر أو غير مباشر وفق مخطّط معيّن مرسوم له؛ فرغم المجازر التي ارتكبها الجيش السوري الجديد، وبالتحديد مرتزقة تركيا “الحمزات والعمشات” وبعض الفصائل الأخرى، بحق المكوّن العلوي إلّا أنّه لا توجد أية إدانة دولية للنظام الجديد، وكأنّ الولايات المتّحدة قد غضّت الطرْف عن ممارسات النظام الجديد، وسمحت له بارتكاب المزيد من المجازر واتّباع سياسة اللون الواحد؛ كل ذلك للوصول إلى أهدافها المرجوّة في سوريا دون أن تمارس أي ضغط، سواء على القوى المحلّية “داخل سوريا” أو على الدول الإقليمية، للقبول بشكل النظام الجديد لسوريا؛ بمعنى إن كانت هناك خطوط حمراء في الوقت الحالي تجاه شكل النظام في سوريا، فإنّ تلك الخطوط الحمراء ستغدو خطوطاً خضراء وبموافقة جميع الأطراف والقوى الإقليمية المعارضة لتغيير شكل النظام القديم.
إذا؛ إنّ الصورة النهائية لمستقبل سوريا ما تزال ضبابية ولا يمكن التنبّؤ بها طالما أنّ هناك تدخّلات خارجية وطالما استمرّت سياسة اللون الواحد، لكن ما هو واضح الآن هو سقوط النظام البائد وعدم قدرة فلوله على تغيير الوضع السوري، كما أنّ مشروع الإدارة الذاتية “الأمّة الديمقراطية” وقوات سوريا الديمقراطية هي البارقة التي تشعّ في الفلك المظلِم، نحو سوريا لا مركزية ديمقراطية تعدّدية تُصان فيها حقوق كل المكوّنات والأعراق والأديان.