مستقبل العلاقة بين قسد والحكومة الانتقالية الجديدة في دمشق

الحكومة الانتقالية الجديدة في دمشق، ورغم الظروف السياسية والاقتصادية والأمنية المعقّدة، من المتوقّع أن تسعى لتحقيق نوع من الاستقرار الداخلي وإعادة توحيد البلاد، والتوجّه نحو إعادة ترتيب العلاقة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومع الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا.
والسؤال هنا: لِمَ تحتاج الحكومة الجديدة إلى قسد؟
لا شكّ أنّ القوة العسكرية لقسد لاعب أساسي لا يمكن تجاوزه؛ وهي قوة قتالية مؤثّرة منذ معاركها ضدّ داعش، وقد أثبتت قدرتها على إدارة الحرب في بيئات معقّدة؛ ممّا يجعلها قوة لا يمكن تجاهلها عند البحث عن ترتيبات أمنية جديدة في سوريا؛ فقوات سوريا الديمقراطية (قسد) تسيطر على مساحة واسعة من الحسكة ودير الزور إلى الرقة بما يعادل 30% من مساحة سوريا، أي أنّ دمشق لن تتمكّن من بسط سيطرتها على هذه المناطق دون تفاهم مع تلك القوات.
كما أنّ امتلاك قسد شبكة علاقات دولية قوية مدعومة من التحالف الدولي بقيادة واشنطن يُعَدُّ عامل قوة قد يساعد الحكومة الجديدة في تحسين علاقاتها مع الغرب، خاصة إذا ما قدّمت قسد نفسها كوسيط بين الحكومة الجديدة وأمريكا والغرب.
بالإضافة إلى أنّ قسماً كبيرا من الموارد الاقتصادية بيد الإدارة الذاتية، بما فيها النفط والغاز وأهم الحقول النفطية في سوريا، مثل حقل العمر وحقل التنك والرميلان؛ وهو ما يجعل دمشق بحاجة إلى تفاهم اقتصادي مع قسد لضمان تدفّق الموارد (سدّ تشرين وسدّ الفرات اللذَين يُعَدّان من أهم مصادر الكهرباء والمياه لمناطق واسعة من سوريا)؛ وهذا ما يجعل أية حكومة في دمشق بحاجة إلى تنسيق مع الإدارة الذاتية، كما أنّ مناطق شمال وشرق سوريا تمثّل السلّة الغذائية لسوريا، ودمشق تعاني من أزمة خبز حادّة بسبب نقص إمدادات القمح؛ ما يجعل التفاهم مع الإدارة الذاتية أمراً ضروريًا لضمان تدفّق الحبوب.
وضمن هذه السياقات؛ فإنّ دمشق لا تستطيع تجاهل العامل الجيوسياسي والوجود الأمريكي في مناطق الإدارة الذاتية، ولا تستطيع دمشق إغضاب أمريكا وأوربا، خاصة فرنسا وألمانيا، اللتَين تسعيان لإحداث توازن بين جميع الأطراف السورية.
ولربّما يكون من مصلحة دمشق التفاهم مع قسد لمنع أي توسّع جديد لتركيا، خاصة أنّ أنقرة تستغلّ حالة عدم الاستقرار لتعزيز وجودها العسكري في شمال سوريا.
ولكن؛ ماهي السيناريوهات المتوقّعة لمستقبل العلاقة بين الحكومة الجديدة وقسد:
– اتّفاق أمني يتضمّن الدمج الجزئي لقوات قسد في الجيش السوري؛ وذلك بدمج بعض وحدات قسد في الجيش السوري مع الحفاظ على قدر من الاستقلالية لقسد في شمال وشرق سوريا.
– إبقاء الأمن الداخلي تحت سيطرة قسد؛ على أن يُسمَح للأسايش (قوى الأمن الداخلي في الإدارة الذاتية) بالعمل ضمن إطار أمني مشترَك مع الدولة السورية.
– الاتفاق بين قسد وحكومة دمشق على انتشار الجيش السوري الجديد في بعض مناطق الإدارة الذاتية، وخاصة مناطق الحدود مع تركيا، شرط ألّا يكون هناك تفكيك كامل لقوات قسد.
لا شكّ أنّ هناك تحدّياتٍ؛ فهل ستقبل قسد بفقدان استقلالها العسكري الكامل لصالح الجيش السوري؟ وهل ستقبل دمشق بإعطاء قسد سلطاتٍ عسكريةً وإداريةً دون عودة السيطرة الكاملة للدولة؟
-وهناك سيناريو آخر؛ ألا وهو الاتفاق على توزيع عائدات النفط وفق آلية لتوزيع إيرادات النفط بين دمشق والإدارة الذاتية، بما يضمن تمويل الحكومة المركزية، مقابل استمرار الإدارة الذاتية في إدارة مناطقها؛ فدمشق بحاجة إلى نفط وغاز ومواد غذائية، ويمكن أن يتم التوصّل إلى تفاهم يسمح بتوزيع العائدات النفطية والزراعية.
فهل ستقبل دمشق بالسيناريو الأخير وذلك بتقاسم الموارد مع كيان شبه مستقلّ؟ وهل يمكن للإدارة الذاتية الاعتماد على السيناريوهات المحتمَلة دون ضمانات دولية؟
وهناك ترتيب سياسيّ جديد على أساس الحكم الذاتي الموسّع أو الإدارة الذاتية، وإدخال ممثّلين عن الإدارة الذاتية في الحكومة الجديدة ضمن نظام محاصصة، يمكن أن يتم من خلالها منح قسد والإدارة الذاتية مقعداً في إحدى الرئاسات الثلاث؛ كرئاسة البرلمان في الحكومة كجزء من اتّفاق سياسيّ، بما يضمن بقاء دمشق المرجعية السيادية. وبالتالي؛ صياغة دستور جديد يعترف رسميًا بالإدارة الذاتية من الناحية القانونية والسياسية والثقافية.
ولكن؛ هل ستقبل دمشق بالتخلّي عن نموذج الدولة المركزية لصالح نظام حكم لامركزي؟ وهل ستقبل تركيا بأيّة صيغة تمنح الكرد حكمًا ذاتيًا باعتراف رسميّ؟
أعتقد أنّ الموقف التركي هو من أبرز التحدّياتِ الرئيسيةَ التي يمكن أن تواجه الاتفاقات المفترَضة بين الحكومة السورية وقسد، فتركيا ستعارض أي اتفاق يمنح قسد اعترافًا رسميًا؛ وذلك خوفًا من أن يؤدّي ذلك إلى تقوية الحركات الكردية -حسب الزعم التركي – داخل حدودها، لذا؛ قد تستخدم تركيا ورقة الفصائل التي تدعمها تركيا (الجيش الوطني السوري) لمنع تنفيذ أي تفاهم بين دمشق وقسد.
لكن في المقابل؛ قد تدفع واشنطن باتجاه اتفاق لا يعيد لدمشق السيطرة الكاملة على شمال وشرق سوريا، بل يضمن بقاء النفوذ الأمريكي في شرق الفرات، وأنّ أيّ اتفاق يجب أن يراعي وجود القوات الأمريكية وموقفها من التفاهمات مع دمشق.
ولو وافقت الحكومة الجديدة في دمشق على التفاهم مع قسد، فإنّها قد تواجه معارَضة من بعض الدوائر العسكرية والسياسية (القوموية والإسلاموية) التي ترفض أيّ نموذج غير مركزيّ للحكم في سوريا.
والسؤال الأخير هو:
إلى أين تتجه العلاقة بين قسد والحكومة الجديدة في دمشق؟
ممّا لا شكّ فيه أنّ الطرفَين سيواجهان تحدّيًا كبيرًا، وخاصة قسد؛ فالتعامل مع الحكومة في دمشق لن يكون سهلًا، لأنّ الحكومة مُلزَمة بتأمين التوازن في علاقاتها الخارجية مع تركيا، وكذلك التوازن في علاقاتها الداخلية مع قسد التي باتت قوة عسكرية وسياسية واقتصادية لا يُستَهان بها ولا يمكن تجاوزها.
والسيناريو الأقرب إلى الواقعية هو:
الاستعجال بالاتفاق لأنّ الوضع السوري لا يحتمل التأخير؛ ولكن إذا ما رفضت دمشق تقديم التنازلات التي تُرضي قسد، فإنّ المواجهة أيضاً مُحتمَلة؛ وهو مّا قد يدفع قسد نحو تحالف أقوى مع واشنطن وقوىً أخرى في المنطقة.