ازدواجية المعايير الدولية في سوريا

ما بين المصالح السياسية وتجاهل العدالة

منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، برزت الازدواجية في سياسات القوى الدولية والإقليمية كأحد أهم العوامل المؤثّرة في تعقيد المشهد السوري وإطالة أمد الصراع؛ فبينما تُرفَع شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان على المستوى الخطابي، تأتي السياسات الفعلية على الأرض لتعكس تناقضات صارخة بين المُعلَن والمُمارَس، ويتجلّى هذا التناقض بوضوح في مرحلة ما بعد سقوط النظام السوري؛ حيث تتنافس الدول على النفوذ في سوريا الجديدة، بما يكرّس حالة من الازدواجية ويؤكّد غياب الإرادة الحقيقية لتحقيق سلام شامل وعادل.

تستمرّ معاناة الكرد في سوريا بين التهميش والتضحيات؛ فقد لعب الكرد دوراً محورياً في المشهد السوري منذ اندلاع الأزمة عام 2011، وخاصة عبر الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا التي شكّلت نموذجاً فريداً للإدارة المحلّية، وعلى الرغم من تضحياتهم الكبيرة، وخاصة في محاربة تنظيم “داعش”، إلاّ أنّ الكرد لا تزال حقوقهم مهدّدة بالتهميش في سوريا الجديدة، يُضاف إلى ذلك التهديد التركي المستمرّ لمكتسباتهم السياسية والاجتماعية؛ وهو ما يستدعي مقاربة دولية جديدة تضمن العدالة وتمنع تكرار الاستفراد بالسلطة.

لحقوق الكرد المسلوبة تاريخ من التهميش والإنكار؛ حيث عانى الكرد في سوريا من التهميش السياسي والثقافي والاقتصادي لعقود من الزمن، فمُنِعوا من ممارسة حقوقهم الأساسية مثل استخدام لغتهم والتعلّم بها أو الاحتفاظ بهويتهم القومية، ومع انطلاق الثورة السورية، برز الكرد كقوة سياسية واجتماعية فاعلة؛ من خلال تشكيل الإدارة الذاتية التي تمثّل تطلّعهم نحو الاعتراف بحقوقهم كمكوّن أصيل من مكوّنات المجتمع السوري.

ورغم ذلك، فإنّ غياب الاعتراف الدولي والإقليمي بالإدارة الذاتية يُبقي الكرد في حالة من عدم الوثوق، حيث لا يزال المجتمع الدولي ينظر إلى قضيتهم من منظور أمني بحت، متجاهلاً حقوقهم التاريخية والسياسية.

الدور التركي: رابح استراتيجي أم طرف انتهازي؟

مع سقوط النظام السوري، استطاعت تركيا أن تضع نفسها في مركز التأثير السياسي والدبلوماسي، مستفيدةً من علاقاتها القوية مع قوى المعارضة السورية وتقديمها كجسرِ تواصلٍ بين الحكومة الانتقالية الجديدة والمجتمع الدولي، ولكن هذا الدور التركي لا يخلو من الانتهازية، خاصة في ظلّ احتلالها مناطق واسعة من شمال سوريا تحت ذريعة محاربة الإرهاب، وكذلك مع تهديدها المستمرّ للإدارة الذاتية.

تركيا لم تكن مجرّد طرف داعم للمعارضة، بل استغلّت الأزمة لتحقيق مكاسب استراتيجية، بدءاً من توسيع نفوذها الإقليمي، مروراً بتحقيق أهدافها الأمنية المتعلّقة بالمكوّن الكردي، وانتهاءً بتعزيز مكانتها كقوّة مؤثّرة على طاولة المفاوضات الدولية.

إنّ الدعم غير المشروط الذي تلقاه أنقرة من حلفائها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، يكشف مدى الازدواجية في التعامل مع القضية السورية؛ حيث تغضّ القوى الكبرى الطرفَ عن انتهاكات تركيا مقابل الحفاظ على مصالحها معها.

الإدارة الذاتية ما بين التهميش الدولي وضغط التحالفات:

تُعتبَر الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا من أبرز الأطراف التي عانت من ازدواجية المعايير الدولية؛ ففي حين أشاد التحالف الدولي بدورها في الحرب ضدّ تنظيم “داعش”، نجد أنّ هذا الدعم لم يُترجَم إلى اعتراف سياسي أو ضمانات لحماية مكتسباتها؛ فالتصريحات السابقة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي غازل فيها تركيا، وتحدّث عن سحبه لبعض القوات الأمريكية من بعض المناطق الاستراتيجية، قد زادت من تعقيد موقف الإدارة الذاتية ووضعتها تحت ضغط مزدوَج؛ حيث تواجه تهديدات مباشرة من تركيا من جهة، وإهمالاً دولياً لمطالبها بالاعتراف السياسي من جهة أخرى.

هذا التناقض بين الإشادة بالدور الكردي في محاربة الإرهاب، وبين تجاهل حقوقهم السياسية والتاريخية، إنّما يعكس ازدواجية المنظومة الدولية التي تستثمر في التضحيات الكردية لتحقيق أهداف آنية دون الالتزام بمبادئ العدالة أو الاستقرار بعيد المدى.

على الرغم من التصريحات الدولية حول ضرورة تحقيق العدالة الانتقالية وبناء نظام سياسي يشمل جميع المكوّنات السورية، إلّا أنّ الواقع يُظهر عكس ذلك؛ فالدعم الغربي لتركيا خلال انتهاكاتها في شمال سوريا، وكذلك التجاهل شبه التام لقضايا تهجير السكان الكرد والعرب من مناطقهم، إنّما يكشف عن فجوة كبيرة بين الخطاب الحقوقي الدولي والممارسات السياسية.

كما أنّ التعامل الدولي مع هيئة تحرير الشام في إدلب يعكس ازدواجية أخرى؛ حيث يجري التسامح مع وجودها كأمر واقع على الأرض، في وقت تُعتبَر فيه الهيئة منظمة إرهابية دولياً؛ فهذا التناقض يشير إلى أنّ المصالح السياسية تتفوّق دائماً على القيم والمبادئ المُعلَنَة.

الانعكاسات على مستقبل سوريا

تؤدّي هذه السياسات المزدوجة إلى تكريس الانقسامات الداخلية في سوريا وتعزيز حالة عدم الثقة بين المكوّنات المختلفة، كما أنّ استمرار القوى الدولية في اتباع هذه المعايير المزدوَجة يجعل من الصعب تحقيق انتقال سياسي شامل، أو بناء نظام ديمقراطي يعكس تطلّعات الشعب السوري بمختلف مكوّناته؛ فالاستقرار في سوريا لا يمكن أن يتحقّق دون مقاربة دولية جدّية تقوم على احترام حقوق الإنسان، وضمان مشاركة حقيقية لجميع الأطراف السورية، بما في ذلك الكرد الذين لعبوا دوراً حاسماً في محاربة الإرهاب.

الإدارة الذاتية نموذج يُحتذى به رغم التحدّيات

تمثّل الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا نموذجاً ديمقراطياً يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين المكوّنات المختلفة؛ فقد نجحت في بناء هيكل سياسي يضمّ الكرد والعرب والسريان، وسَعَت لتحقيق توزيع عادل للموارد، لكن مع ذلك، فإنّ غياب الاعتراف الدولي بهذا النموذج يُضعِف موقف الإدارة الذاتية ويجعلها عرضة للتهديدات الداخلية والخارجية.

وعلى المستوى الداخلي، يبرز خطر عودة مركزية السلطة في دمشق، والتي تسعى لاستعادة السيطرة الكاملة على البلاد دون تقديم ضمانات حقيقية لمشاركة عادلة للكرد والمكوّنات الأخرى في صنع القرار السياسي.

الخطر التركي تهديد وجودي لمكتسبات الكرد

يشكّل التدخّل التركي أكبر تهديد للإدارة الذاتية ومكتسبات الكرد؛ فمنذ تدخّلها العسكري في سوريا، احتلّت تركيا مناطق واسعة مثل عفرين وسري كانييه/رأس العين وكري سبي/ تل أبيض، وارتكبت انتهاكات جسيمة بحق السكان هناك، بما في ذلك التهجير القسري وتغيير التركيبة السكانية.

تستغلّ تركيا الذرائع الأمنية لمحاربة الإدارة الذاتية، بينما تهدف في الواقع إلى القضاء على أي تجربة كردية ناجحة قد تشجّع الكرد داخل حدودها، فالتهديد المستمرّ بشنّ عمليات عسكرية جديدة، في ظلّ صمت المجتمع الدولي، يعكس ازدواجية المعايير الدولية ويُضعِف فرص تحقيق سلام مُستدام في سوريا.

أهمية الضمانات الدولية للكرد والإدارة الذاتية

لتحقيق العدالة وضمان حقوق الكرد في سوريا الجديدة، يجب أن تقدّم القوى الدولية ضمانات صريحة تضمن:

1- الاعتراف بالإدارة الذاتية: يشكّل الاعتراف جزءًا أساسيًا من الحلّ السياسي في سوريا، مع ضمان مشاركتها في صياغة الدستور الجديد.

2- تمثيل عادل للكرد وللمكوّنات الأخرى: تمثيلهم في الحكومة الانتقالية ومؤسسات الدولة؛ بما يضمن مشاركة حقيقية لجميع الأطراف.

3- توزيع عادل للثروة: لضمان حصول جميع المناطق السورية، بما فيها مناطق الإدارة الذاتية، على نصيبها العادل من الموارد الطبيعية مثل النفط والمياه.

4- منع التدخّلات التركية: عبر فرض عقوبات دولية على أيّة تحرّكات عسكرية جديدة ضدّ مناطق الإدارة الذاتية، وفتح تحقيق دولي في الانتهاكات التركية السابقة.

5- ضمانات حقوق الإنسان: عبر إشراف دولي على أي عملية انتقالية لضمان حماية حقوق الكرد والمكوّنات الأخرى ومنع تكرار الانتهاكات السابقة.

تجاوز خطر استفراد السلطة والتوجّه نحو سوريا ديمقراطية شاملة

إنّ بناء سوريا جديدة يتطلّب تجاوز أخطاء الماضي التي أدّت إلى استفراد النظام السوري بالسلطة على مدى عقود، ويجب أن تقوم الدولة الجديدة على مبادئ اللامركزية والديمقراطية، مع ضمان حقوق جميع المكوّنات السورية.

والإدارة الذاتية تمثل ركيزة أساسية لتحقيق هذا الهدف؛ إذ تقدّم نموذجاً لإدارة متعدّدة الثقافات والأديان يمكن أن تكون نواة لسوريا شاملة، ومع ذلك، فإنّ هذا النموذج مهدّد إذا لم يتم تقديم دعم دوليّ قويّ لحمايته من التهديدات الداخلية والخارجية.

 العدالة والاعتراف لضمان الاستقرار

إنّ حقوق الكرد ليست مجرّد قضية إنسانية، بل هي جزء لا يتجزّأ من مستقبل سوريا المستقرّة، فتحقيق العدالة يتطلّب الاعتراف بتضحيات الكرد ودورهم في بناء سوريا جديدة، مع تقديم ضمانات دولية لحمايتهم من التهديدات الخارجية، وضمان تمثيلهم العادل في النظام السياسي والاقتصادي؛ فالمجتمع الدولي أمام اختبار حقيقي: إمّا أن يتحمّل مسؤوليته الأخلاقية والقانونية في دعم حقوق الكرد والإدارة الذاتية، أو أن يستمرّ في سياسة التجاهل والازدواجية التي لن تؤدّي إلّا إلى تعميق الجراح السورية وتعزيز حالة الفوضى.

إنّ استمرار ازدواجية المعايير في التعامل مع الأزمة السورية لن يؤدّي إلّا إلى إطالة أمد الصراع وتعميق الجِراح الاجتماعية والسياسية؛ والمطلوب اليوم هو إرادة دولية حقيقية تتجاوز المصالح الضيّقة وتعمل على بناء سوريا جديدة تقوم على أسس العدالة والمساواة واحترام التنوّع، أمّا استمرار السياسات الحالية، فلن يؤدي إلّا إلى ترسيخ حالة الفوضى وزيادة معاناة الشعب السوري.

زر الذهاب إلى الأعلى