ما بعد غزة ولبنان… سوريا في قلب العاصفة

نتيجةً لتفاهمات بين القوى الضامنة لخفض التصعيد في سوريا، لم تجرِ خلالها أحداث هامة تُذكَر منذ سنوات، وبخطوة واحدة حرّكت الجمود وفاجأت كلّ المراقبين؛ حيث شنّت صباح الأربعاء 27/11/2024 قوات مرتزقة هيئة تحرير الشام الإرهابية (جبهة النصرة سابقاً) وفصائل المعارضة الموالية لتركيا هجومًا واسعًا ضدّ غرب حلب، وشكّلوا تحالفاً جديداً باسم (قيادة العمليات العسكرية) للقيام بعملية عسكرية بقصد تحرير حلب من جيش النظام، سمّوها عملية (ردع العدوان)، وقالت أنّها تهدف إلى توجيه ضربة استباقية لقوات النظام السوري، وهو اختراق لاتفاق (تركي – روسي) لوقف إطلاق النار في آذار/2020/، وخلال يومَين من المعارك تم احتلال خان العسل والفوج /46/ وإخراجها من سيطرة النظام السوري، وتم الدخول الى حلب – ثاني أكبر مدينة في سوريا – واحتلالها باستغلال الفراغ دون تصدٍّ يُذكر من القوات الحكومية والرديفة من الروس والإيرانيين. ويُعتبَر ذلك ضربة كبيرة للنظام.
تعيش سوريا اليوم تداعيات كبيرة؛ فمنذ /2011/ بداية الحراك الشعبي فيها والمطالبة برحيل بشار الأسد وإسقاط النظام، قابل النظام ذلك الحراك بالعنف والحديد والنار، لتقابلها مجموعات مسلّحة ومنشقّون من الجيش بالعنف المضادّ في الكثير من الأماكن والمدن، ونتيجة للتدخّلات الخارجية للعديد من القوى، تشكّلت المئات من الفصائل المسلّحة التي تقاتل النظام أحياناً، وتتقاتل فيما بينها بسبب الحواجز والغنائم، وتصفّي بعضها بعضاً أحياناً أخرى.
من هي جبهة النصرة؟
بعد أن تأسّس فرع لـ”القاعدة” بالعراق عام /2006/ برز تنظيم إسلامي متشدّد سُمّي بالدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) ليسيطر فرعها السوري، الذي عُرف بـ(جبهة النصرة)، بزعامة “أبو محمد الجولاني” على محافظة إدلب وما حولها وعلى مناطق من النظام والجيش الحرّ، وبعد احتلال تنظيم “داعش” لكثير من المناطق في جنوب ووسط سوريا ومدن كـ (منبج، الرقة، ومحافظة دير الزور) والموصل في العراق، وبعد ممارسة إرهاب كبير فرّت من أمامه كلّ الفصائل وقوى الجيشَين السوريّ والعراقيّ- واغتنم هذا التنظيم العديد من الغنائم المادّية والعسكرية – توجّه إلى احتلال “كوباني” وبعد دحره فيها، تم تشكيل قوات تحالف دولي ضمّت قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، لتبدأ بتحرير باقي المناطق من سيطرة “داعش” في منبج والطبقة وعاصمتها المزعومة الرقة، وتم القضاء عليه في آخر معاقله في الباغوز في آذار/2019/.
عالمياً؛ تُعتبَر جبهة النصرة (الفرع السوري لتنظيم القاعدة) منذ عام /2011-2013/ تنظيماً إرهابياً، يقوده “أبو محمد الجولاني” الذي بايع “الظواهري” عام/2013/ كزعيم لجبهة النصرة، ثمّ أعلن في تموز /2016 / عن فكّ ارتباط النصرة بالقاعدة، ثم غيّرت اسمها إلى (جبهة فتح الشام)، و شكّلت مع فصائل أخرى (هيئة تحرير الشام) عام /2017/ بعد انطلاق مفاوضات أستانا ،التي اعتبرتْها جزءًا من المؤامرة على الثورة السورية، ثم شكّلت (غرفة عمليات الفتح المبين) في منتصف عام /2019/ بضمّ عدد من الفصائل المسلّحة؛ بهدف إدارة العمليات العسكرية وتنسيقها في مناطق سيطرتها.
التداعيات وردود الأفعال:
في البداية ظهر للعيان أنّه تم الهجوم بشكل مباغت، ودون مقاومة تُذكَر؛ حيث تمدّدت القوات من إدلب اتجاه حلب، وفي غياب تام للمقاومة ولعنصر الطيران لضرب القوى المهاجمة، تناقلت الأنباء عن زيارة الرئيس السوري إلى موسكو وسط صمت دولي إزاء ما يجري، وبدأ النظام بتبرير هذه الهزيمة وأنّ الانسحاب من حلب مؤقّت للتحضير لهجوم مضادّ، لتظهر تصريحات خجولة من روسيا وإيران التي تتّهم إسرائيل بنشر الفوضى في سوريا، فما بناه النظام والروس وإيران في عشر سنوات ينهار خلال يومَين في حلب، فما السبب لهذا الانهيار المروّع لقوات النظام وحلفائه؟
مَن يقف وراء هذا الهجوم؟
لا يمكن لـ “جبهة النصرة” التي سمّت تحرّكها بحملة “ردع العدوان” أن تقوم بهذا الهجوم من تلقاء نفسها دون الحصول على الضوء الأخضر من طرف رئيسيّ مُهيمِن على الوضع، ويرى بعض المحلّلين أنّ كلًّا من إسرائيل وتركيا وروسيا، وبمباركة أمريكية، هي التي تقف وراء دفع “النصرة” إلى هذا التحرّك الكبير، والمفارقة أنّ هجومها يأتي في اليوم التالي من اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على توافق دولي كبير، وكان بانتظار انتهاء الحرب في لبنان.
رسائل إسرائيلية وأمريكية للنظام:
منذ بداية حرب غزة، ومن ثمّ الحرب على حزب الله في لبنان، تعمل إسرائيل على ضرب أذرع إيران في لبنان وسوريا، وتقوم بعشرات الغارات على المستودعات وقيادات إيرانية في سوريا ووسط العاصمة دمشق، بل هدّدت بضرب جميع مواقعها، ووصلت إلى مسافة قريبة من مطار “حميميم”، وحتى مسكن “ماهر الأسد” قائد الفرقة الرابعة الموالي لإيران. وكان الوزراء الإسرائيلي (نتنياهو) قد صرّح رئيس بعد وقف إطلاق النار في لبنان أنّ “سوريا تلعب بالنار”. تقول وسائل الإعلام الإسرائيلية – حسب وكالة نورث برس – السبت30/11 إنّ ” تل أبيب تراقب التطوّرات المتسارعة في سوريا وتنسّق مع الولايات المتحدة تحسّباً من انهيار النظام”.
مطالب ورسائل تركيّة:
نتيجة للعديد من الرسائل التركيّة للقاء الأسد والتعاون معاً لحلّ الأزمة في سوريا، ولعدم تلقّي الردّ الإيجابي من الأخير، وقد جاء هذا الهجوم نتيجة لذلك وأنّه لا علاقة لتركيا به، كما يصرّح به الأتراك. ولكن على أرض الواقع يبدو أنّ تركيا هي التي دفعت بتلك المجموعات وضمّت بعض الفصائل التابعة لها مباشرة للانضمام لهذه الحملة، وحرّكت مرتزقتها باتجاه مناطق الإدارة الذاتية في الشهباء ومنبج بقصد تطويقها واحتلالها حتى حلب وضمّها لها حسب “الميثاق الملّي”، وما رفْعُ العَلَم التركيّ فوق قلعة حلب إلّا خير دليل على ذلك.
الوجود الإيراني في سوريا أحد أهداف الهجوم:
تشير جميع الدلائل إلى أنّه لا أحد من الدول المتدخّلة في الشأن السوري توافق على الوجود الإيراني فيه، لذا؛ تعمل كلّ دولة بشكل من الأشكال على قطع علاقة إيران بسوريا لمصالح خاصة؛ فروسيا رغم أنّها حليفتها في دعم نظام الحكم في سوريا وأحد رفاقها في اجتماعات أستانا وغيرها لدراسة الوضع في سوريا، تراها منافسة لها في الهيمنة على الاقتصاد وتراها مقلقة لإسرائيل، وكذلك الأتراك أيضاً يجدونها منافسة لهم للهيمنة على الإسلام السياسي في المنطقة، وأمريكا ترى أنّ وجود إيران في سوريا ودعمها للقوى الشيعية في المنطقة يهدّد أمن إسرائيل وأمريكا. لذا؛ فقد تم استهداف العديد من قياديّيها، وكان آخرهم قائد المستشارين الإيرانيين (بور هاشمي) في حلب، الخميس 28/11، بعد هجوم جبهة النصرة على غرب حلب.
تركيا تستغلّ الانسحاب والصمت الروسيّ، لتدفع بمرتزقته نحو مناطق الإدارة الذاتية:
تهدّد تركيا باحتلال شمال حلب (منطقة الشهباء) منذ سنوات، وتعتبرها مع حلب تابعة للميثاق الملِّي، لتقوم الفصائل التابعة لها بالهجوم عليها للسيطرة على تلك المناطق التي التجأ إليها نازحو عفرين ويسكن معظمهم في مخيمات منذ /2018/، وبالتالي؛ هدفها هو إنهاء الإدارة الذاتية هناك، بعد أن يئست من تقويضها في شرق الفرات من خلال قطع المياه وقصفها بالمسيّرات وضرب البنى التحتية فيها، وبعد أن كانت جبهة النصرة تتلافى التصادم مع قوات حماية حيَّي الشيخ مقصود والأشرفية، وذلك خلال بيان لجبهة النصرة طالبت فيه الوحدات المقاتلة بالخروج من مدينة حلب بسلاحهم بشكل آمن.
موقف الإدارة الذاتية الديمقراطية:
اتّهمت الإدارة الذاتية، خلال بيان لها، تركيا بأنّها تقف وراء الهجمات بهدف تقسيم البلاد، وأنّ العدوان التركي هو شكل جديد من الإرهاب الداعشي بأبعاد إقليمية ودولية، ويهدّد كلّ سوريا وليس منطقة محدّدة، وخلال هذا البيان أعلنت الإدارة النفير العام والتعبئة، ودَعت المؤسسات إلى العمل كخلية أزمة، وطالبت شباب وشابات شمال وشرق سوريا بالالتفاف حول “قسد” لمواجهة العدوان التركي.
ومن جانبها أصدرت قيادة (قسد) بياناً في 1/12 قالت فيه: “هناك مخطّط إبادة واسع ضدّ شعبنا في مناطق الشهباء وحلب… دون شكّ فإنّ قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مثلما أدّت واجبها ولعبت دورها في تحرير وحماية المنطقة، فإنّها ومن الآن فصاعداً ستقوم بمسؤولياتها التاريخية مهما كانت التكلفة، وستقف ضدّ هذه الهجمات، وستقوم بواجبها التاريخي في حماية المنطقة والشعب السوري”.
أين هو النظام السوري من كلّ ما يحدث؟
اتّضح جليّاً أنّ النظام في سوريا كان يستقوي بالدعم الإيراني والروسي، وعندما تنحّوا جانباً وجدنا كيف انهارت مواقعه بشكل دراماتيكي دون أي دفاع ومجابهة، وبعد أن سيطر المهاجمون على مدينة حلب دون أية مقاومة تُذكَر، بدأ النظام بالترويج بأنّه يستجمع القوات لحماية مدينة حماه، وظهر الرئيس السوري في اليوم التالي للحرب بشكل مفاجئ في موسكو، ليعود بعد يومين ليتّصل بحكومة العراق طالباً الدعم، ويستقبل وزير خارجية إيران في دمشق حيث قال بأنّهم “مستعدّون لتقديم كلّ أنواع الدعم لدمشق”. لكن كيف ومتى؟
إلى أين ستسير الأوضاع في سوريا؟
إنّ هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) مصنّفة دولياً على أنّها حركة إرهابية، فكيف يتم اليوم السكوت على تمدّدها في سوريا؟! ومن يقف وراء هذا التنظيم؟ وإلى أين ستسير الأمور؟ هناك عدّة تساؤلات واحتمالات ورؤى؛ منها:
- هل هو فخّ لجبهة النصرة تم دفعها لهذا التمدّد واحتلال بعض المناطق السورية، ومن ثمّ يتم القضاء عليها باعتبارها مصنّفة على لوائح الإرهاب، خصوصًا أنّ تنظيم القاعدة قد بارك انتصارها في حلب؟
- هل ستغيّر الجبهة من إيديولوجيتها فتتحوّل من التشدّد إلى الاعتدال لتصبح مقبولة داخلياً ودولياً؟
- هل سيتدخّل الروس ويوقفون انهيار النظام ليحافظ على ما تبقّى؟ وهذا ممكن من خلال القصف الجوّي لمقرّات وتجمّعات المهاجمين من الخلف، والسؤال هنا: مَن سيساعد النظام على الأرض؟ هل هم الإيرانيون الذين يصرّحون أنّهم سيقدّمون الدعم؟ ومن المعلوم أنّ حرب المدن صعبة.
- هل سوريا مقبِلة على التقسيم إلى أقاليم: إقليم الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا – منطقة سُنّية تسيطر عليها جبهة النصرة في الشمال الغربي وحلب وحتى أطراف حماه – ومنطقة درزية في السويداء، وباقي المناطق تسيطر عليها حكومة دمشق إلى حين؟
- تمهيداً لمرحلة انتقالية؛ هل ستتحوّل سوريا في المستقبل إلى دولة فدرالية لا مركزية تديرها كافّة الأقاليم الفدرالية ويقودها مؤقّتاً نفس النظام في دمشق؟
- هل ستبقى المناطق التي تسيطر عليها قوات المرتزقة المرتبطة بتركيا في الشمال (جرابلس، الباب، اعزاز، عفرين) إقليماً تابعاً لسوريا أم أنّها ستنضمّ لتركيا أم تُوحِّدُها مع جبهة النصرة لإيجاد مكان لهم في قيادة سوريا الجديدة؟
بعض ردود الأفعال:
ومن أبرز التعليقات الدولية هو تصريح أمريكا بأنّها لا علاقة لها بما يحدث في سوريا، وأنّ هذا هو نتيجة لعدم تعاون النظام السوري مع المجتمع الدولي حسب القرار الأممي /2254/.
في 1/11 صرّح موفَد الأمم المتحدة ” غير بيدرسون” أنّ: “النزاع في سوريا له عواقب وخيمة” ودعا كافّة الأطراف إلى محادثات جنيف والجلوس للبحث عن حلّ سلمي. فهل لديه القوة للضغط على كل الأطراف؟
أمّا الجامعة العربية وبعض الدول العربية فقد دعت إلى الحفاظ على وحدة سوريا.
بالمحصلة؛ كُشِف القناع عن وجه النظام التركي ومن يدور في فلكه، وأثبتت الأيام زيف نواياه وادّعاءاته، وهو الذي كان يلعب على عامل الوقت، حتى تمكّن من تعزيز وجوده واحتلال المزيد من الأراضي والمدن السورية بعد أن ربط الحلّ في سوريا بالتطبيع مع النظام السوري.
إلى ذلك الحين يبقى الشعب السوري الذي دمّرته الحروب يتذكّر أنّ الأزمة السورية هي أزمة إنسانية تتعلّق بحقوق الإنسان والعدالة، ولابدّ من السعي لتحقيق سلام دائم في هذه المنطقة المضطربة، والعمل من أجل مستقبل يتّسم بالسلام والعدالة للجميع.
كما ينبغي على المجتمع الدولي أن يعيد النظر في هذه الأزمة ويتّخذ إجراءاتٍ فورية وَفقًا للمواثيق الدولية.