هل تركيا جاهزة ذهنياً وعمليا لرياح التغيير؟
وليد بكر
في كلمة له أمام نواب حزبه في البرلمان التركي يوم الأربعاء 23/10/ 2024 فاجأ دولت بهجلي رئيس حزب الحركة القومية (MHP) جميع المراقبين؛ حيث طرح مبادرة سلام؟ لحلّ القضية الكردية في تركيا، حيث قال أنّه يمكن أن يأتي أوجلان ويلقي كلمة أمام نواب حزب المساواة والشعوب الديمقراطيDEM PARTî)) في البرلمان التركي، ويدعو أعضاء حزب العمال الكردستاني إلى الاستسلام وقضاء عقوبتهم في السجن، وقال:” إذا سُمح له بالخروج من السجن فليأتِ ويتحدّث.. ودعوه يعلن أنّ الإرهاب قد انتهى تماماً وأنّ الجماعة قد تفكّكت، وحينها يمكن منحه حق الأمل”. وبعدها يمكن إطلاق سراحه.
كيف حدث هذا التحوّل المفاجئ من زعيم القوميين الفاشيين، والذي يهدّد ويصرخ صباح مساء بإنهاء الكرد وزعيمهم (كما يدّعي)؟ فما الذي تغيّر وماهي المستجدّات التي ظهرت ليأتي هذا الإعلان المفاجئ؟
وهل حزبَا (MHP, AKP)”تحالف الشعب” جادّان في هذا التصريح؟ ما هو موقف الطرف الكردي منها؟ هل هذا التصريح وما ورد فيه كافٍ للعودة والاستسلام مقابل إطلاق سراح قائدهم؟ أليس الموضوع بحاجة إلى تغيير في الدستور وبوادر حُسن نيّة برفع العزلة المشدّدة أولاً إذا كانت النوايا صادقة؟ وأخيراً سنطرح رأينا في عملية أنقرة” الفدائية” – المثيرة للجدل – وهل هي ردّ على المبادرة التركية ورفضها أم أنّ توقيتها قد جاء صدفة أم أنّها رسالة للجميع مفادها أنّ حزب العمال قادر على الوصول إلى نقاط حسّاسة في الدولة وضرب العمق التركي، وأنّه (العمال الكردستاني) ليس بضعيف ليتقبّل شروط الإذعان والاستسلام التركية التي جاءت على لسان بهجلي؟
أولاً – نبذة تاريخية:
أ– تحالف الكُرد والعثمانيين: بعد تحالف القبائل والعشائر الكردية مع السلاجقة وانتصارهم في معركة “ملاذكرد” عام /1071/م. ضدّ بيزنطة وأسر إمبراطورها “رومانوس”، فُتِح المجال لخلافة العثمانيين للسلاجقة بتشكيل سلطتهم في الأناضول، لتتابع الانتصارات في صراعها مع الصفويين والانتصار عليهم في معركة “جالديران 1514″م.، وليتابع العثمانيون توسّعهم في الشرق الأوسط، وفي الحرب العالمية الأولى ساهم الكرد مجدّداً مع الأتراك في معركة “جناقلعة – الدردنيل” عام /1915/م. ضدّ قوّات التحالف البرّية والبحرية والحؤول دون سقوط إسطنبول، وكذلك ساهموا في “معارك التحرير الوطنية “/1919-1922/ التي قادها مصطفى كمال، ودحر خلالها اليونانيين من إزمير وغرب تركيا، ثم ضدّ السلطنة نفسها والمساهمة في بناء تركيا الحديثة عام /1923/م؛ وهذا يعني أنّه عندما تحالف الكرد والترك تقدّمت وانتصرت تركيا، أمّا عندما يعادي الأتراكُ الكردَ، كما اليوم، فإنّهم (الأتراك) يخسرون الكثير.
ب – الصراع الكُردي – التُركي: يعود تاريخ الصراع الكُردي – التُركي الحديث إلى أكثر من قرن، وكما ذكرنا أعلاه، فإنّ الكرد قد ساهموا بشكل كبير وواضح في بناء تركيا الحديثة، وكانوا يتأمّلون أن يُنصَفوا من خلال منحهم حقوقهم العادلة في اتفاقية “سيفر1920” حين اعتمد الحلفاء والدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى على منح الكرد الحكم الذاتي ومن ثم الاستقلال، فصدّقوا (الكرد) التعهّداتِ التي قدّمها مصطفى كمال بأنّ الدولة الحديثة هي للكرد والترك. لكن بعد معاهدة “لوزان1923″ تم طيّ صفحة اتفاقية سيفر وبالتالي لم تُذكَر الحقوق الكردية سوى أنّها ستُحَلّ ضمن الجمهورية التركية؛ وإثر ذلك قامت عدّة انتفاضات كردية لنيل الحقوق، ومنها: انتفاضة الشيخ سعيد عام/1925/ في بالو وآمد وكينج، وانتفاضة آكري /1927-1930/ وانتفاضة ديرسم/1937-1939/، وجوبهت جميعها بالحديد والنار وارتكاب المجازر وممارسة الاضطهاد والتهجير بحقّ الكرد؛ وأعلن الزعماء الأتراك أنّهم قد دفنوا الكرد وقضيتهم وسكبوا عليها الإسمنت. في سبعينات القرن الماضي ظهر جيل من الشباب المثقّفين الكرد والترك في جامعات تركيا، وناضلوا للتغيير الديمقراطي في تركيا والاعتراف بالحقوق القومية للكرد، وأسّسوا حزب العمال الكردستاني (PKK) في 27/11/ 1978، ولكن بعد الانقلاب العسكري في تركيا في 12/9/1980جوبه هذا الحزب وهذه الحركات اليسارية الثورية الأخرى بالقتل والاعتقال والتعذيب في السجون، لذا؛ فقد اضطرّ الحزب إلى إعلان الكفاح المسلّح في /15/8/1984 ومنذ /40/ عامًا مازال يناضل ويقدّم آلاف الشهداء في سبيل تحرير كردستان و”دمقرطة” تركيا.
ثانياً – خطف واعتقال “أوجلان” لم ينهِ الصراع:
طيلة سنوات الحرب لم تترك الحكومات التركية المتعاقبة أسلوباً من أساليب الحروب إلّا واستخدمته، من خلال أحدث التقنيات العسكرية وبدعم مفتوح من حلف الناتو وإسرائيل؛ فارتكبت العديد من الجرائم واستخدمت الأسلحة المُحرَّمة دولياً، واستخدمت كذلك جميع أساليب الحرب الخاصة، وارتأت أنّه لو تم تفتيت الحركة من الداخل أو اغتيال قائدها “عبد الله أوجلان” فسوف ينتهي “التمرّد” (كما تدّعي) وخاصة محاولة الاغتيال التي حصلت في 6/5/1996بدمشق، هذا وقد كان “أوجلان” قد طرح عدّة مبادرات سلام ووقف لإطلاق النار من جانب واحد، منذ/ 1993- 1998/ وقد جوبهت كلّها بتصعيد الحرب والقيام بحملات وتمشيطات عسكرية كبيرة بقصد إنهاء الحركة، إلّا أنّ جميعها قد فشل، وتقوى الحركة يوماً بعد آخر، إلى أن تم التخطيط لمؤامرة اختطافه في قرصنة دولية – شاركت فيها بشكل رئيسي كلّ من أمريكا وبريطانيا، وإسرائيل، من نيروبي (عاصمة كينيا) في 15/2/1999 بعد /126/ يوماً من خروجه من دمشق باحثاً عن اللجوء السياسي في إحدى الدول الأوربية وطرح القضية الكردية في المحافل الدولية وحلّها بالطرق السلمية؛ وبعد محاكمة صورية تم الحكم عليه بالإعدام وحُوّل إلى سجن مدى الحياة عام/2002/، وكان قد قال لأحد الضباط في السجن أنّ المؤامرة تستهدف الشعبَين الكردي والتركي كي تستمرّ الحرب بضراوة وتستفيد منها القوى العالمية المهيمنة. في السجن طرح أيضاً عدّة مبادرات سلام و”خارطة طريق” لحلّ القضية الكردية في تركيا، وطرح نظرية “الأمّة الديمقراطية” وأخوة الشعوب لحلّ القضية الكردية وجميع القضايا المشابهة بأسلوب ديمقراطي عصري، وتمّت مفاوضات سلام أيضاً خلال أعوام /2006-2015/، لكن الدولة التركية كانت تتقرّب من القضية بشكل تكتيكي وتتقرّب من الكرد لأجل الانتخابات أو الاظهار بأنّها دولة ديمقراطية، وقامت منذ أكثر من أربع سنوات بالضغط الشديد والعزلة ضمن العزلة على “أوجلان” للضغط عليه ليعلن الاستسلام مع أعضاء حزبه مقابل رفع العزلة أو إطلاق سراحه.
ثالثاً – لماذا طرح بخجلي هذه المبادرة في هذا التوقيت؟
أ – خلفيات وأسباب مبادرة “بهجلي”: بعد أن يئس التحالف الحاكم في تركيا بين حزب العدالة والتنمية (AKP) وحزب الحركة القومية (MHP) من القضاء على حزب العمال الكردستاني، وبعد قيامه (التحالف) باستخدام كافة الطرق وأساليب الحرب اللاشرعية؛ لتعاني تركيا بذلك من عزلة دولية، وتقع في أزمات داخلية وخارجية لاستهلاكها كافة قواها في تلك الحرب، بقيامها بتحالفات دبلوماسية واقتصادية متناقضة، كي تجعل من نفسها قوة إقليمية في منافسة إيران في المنطقة، وتأثير الحرب في غزة ولبنان على المنطقة، وتناقضاتها من خلال إعلان دعمها للفلسطينيين في غزة، وفي نفس الوقت لا تقطع علاقاتها بإسرائيل. لكن بسبب فشلها في القضاء على قوات حزب العمال الكردستاني، وتقويض وإنهاء تجربة “الإدارة الذاتية الديمقراطية” في إقليم شمال وشرق سوريا رغم المحاولات العديدة، وكذلك بسبب تطوّرات الحرب بين إسرائيل وإيران، وإمكانية تغيير خارطة المنطقة كما أعلنها “نتنياهو” رئيس الوزراء الإسرائيلي، والعودة للمشروع الأمريكي “الشرق الأوسط الكبير أو الجديد”، تسارع تركيا إلى إقامة التحالفات في المنطقة للحؤول دون أن تعصف بها رياح التغيير، وتفعل المستحيل وتستنجد بالرئيس الروسي والمصري ورئيس الوزراء العراقي، ومنذ سنتين يحاول أردوغان اللقاء بالرئيس السوري بشار الأسد – حيث تخطّى جميع الأعراف الدبلوماسية – للتعاون معاً على حماية وإنقاذ حكومته المتضعضعة، ولم يبقَ اليوم أمامه سوى العودة للورقة الكردية لإنقاذ نفسه.
ب – فحوى المبادرة: بدأت المبادرة في البرلمان التركي بمصافحة “دولت بهجلي” (الحليف المتشدّد لحكومة أردوغان) أعضاء حزب “المساواة والشعوب الديمقراطي” (DEM) في سابقة غير متوقّعة، ثم تلتها كلمة له في 22/10/2024 أمام نوّاب حزبه في البرلمان جاء فيها ما معناه: يمكن أن يأتي زعيم الإرهابيين أوجلان – كما وصفه – إذا سُمح له بالخروج من السجن ودعوه يعلن أمام نوّاب حزب (DEM) أنّ الإرهاب قد انتهى تماماً وأنّ الجماعة “التنظيم” قد تفكّكت، ويدعو قواته للاستسلام ويقضوا حكمهم في السجن، حينها يمكن أن يستفيد من قانون “حق الأمل” وإمكانية إطلاق سراحه بعدها.
ج – الغاية والهدف من المبادرة: للوهلة الأولى وعند سماع كلمة المبادرة، يبدو أنّ الحكومة التركية تُبدي حُسن النية لإنهاء الصراع وحلّ القضية الكردية بالطرق السلمية، وها هي وبالتزامن مع تصريح بهجلي تسمح بلقاء العائلة مع القائد “أوجلان” في السجن، لكن ومن خلال تحليل الخطاب وأسلوب طرحه في انتقاء الكلمات المثيرة، يبدو أنّه لا يوجد تغيير في العقلية التركية؛ فهو يصف القائد أوجلان بزعيم الإرهابيين، ويدعو إلى بيان الندم والاستسلام للعدالة التركية، وإنهاء الحرب – بعد استشهاد ومقتل أكثر من مئة ألف شخص – مقابل إمكانية إطلاق سراح قائدهم، الذي أمضى أكثر من ربع قرن في سجن انفرادي منعزل وسط بحر مرمرة، وقبول الحكومة التركية كأمر واقع، دون أي تغيير يمسّ الدستور الذي أعدّته الطغمة العسكرية في انقلاب 12/9/1980/م؛ ومن هنا يتّضح أنّ الغاية من هذه المبادرة:
- الإظهار للعالم وخاصة الاتحاد الأوربي – الذي تدقّ تركيا أبوابه منذ عقود – أنّها تريد وتسعى إلى حلّ القضية الكردية بالطرق السلمية، لكن الارهابيين لا يستسلمون.
- العمل على تقسيم الأحزاب والشارع الكردي بين مؤيّد للسلام الهشّ وإنهاء الصراع من جهة، ومَن يريد الاستمرار في النضال حتى نيل جميع الحقوق المشروعة من جهة أخرى، وذلك كشكل من أشكال الحرب النفسية.
- قطع الطريق أمام التدخّل الغربي – الإسرائيلي في المنطقة، واستخدام القضية الكردية على حدود تركيا وإعادة تشكيل المنطقة من جديد.
رابعاً – تركيا في مواجهة الغرب وإسرائيل:
يبدو أنّ تركيا لديها تخوّف شديد من الخارطة التي حملها رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في الأمم المتحدة، حيث تقع تركيا ضمن دول اللعنة، وقال بعدها أنّ المنطقة مُقبلة على تشكيل شرق أوسط جديد: ” تل أبيب ستغيّر الواقع الاستراتيجي في الشرق الأوسط”؛ فقد قال الرئيس التركي “أردوغان” في فعالية لجمعية المدارس الإسلامية بالقرب من إسطنبول: “يتعيّن على الدول الإسلامية أن تشكّل تحالفاً ضدّ ما وصفه بالتهديد التوسّعي المتزايد من جانب إسرائيل… الخطوة الوحيدة التي ستوقف الغطرسة والبلطجة الإسرائيلية والإرهاب الحكومي الإسرائيلي هي تحالف الدول الإسلامية”، ويقول السيد محمد غورماز (الرئيس السابق لرئاسة الشؤون الدينية) لموقع (Tr99media): ” تعلّمنا هذا العام الدروس تلو الدروس… تعلّمنا من جديد أنّ أطماع الصهاينة ليست في أرض فلسطين الحبيبة فقط، بل إنّ بلادنا أيضاً تقف على الدور في المشروع الصهيوني الكبير”. والأمر الذي يدعو للتعجّب أنّ أردوغان عندما لم يجد أذناً صاغية، توجّه مجدّداً إلى الرئيس السوري بخطاب أنّ “إسرائيل ستجتاح المنطقة وستصل إلى حدودنا، لذا؛ علينا التعاون معاً لمنع ذلك”. وفي قمة دول “البريكس” المنعقدة في قازان جمهورية تاتارستان في 24/10/2024 يقول أردوغان في خطابه: طلبنا من بوتين اتخاذ الإجراءات اللازمة للسير في عملية التطبيع مع سوريا… إنّ إسرائيل – بدعم غربي – تريد إشعال حرب إقليمية… طالبنا قادة “بريكس” بدعم جهودنا للجم إسرائيل. (حسب موقع RTArabic)؛ فهل سيستطيع أردوغان مجابهة التطوّرات المتسارعة في المنطقة؟ فالاتحاد الأوربي وأمريكا تعطي المهلة تلو الأخرى للتحوّل الديمقراطي في تركيا، والأخيرة تطلب الانتظار منذ عشرات السنين للتخلّص من الإرهاب، كما تدّعي. يبدو أنّه قد نفذ صبر الغرب الذي يلحّ على تركيا قائلاً لها “إمّا أن تتغيّري أو سنقوم نحن بالتغيير، فالدولة التركية تتحوّل إلى عصابات وتدعم الإرهاب الداعشي على الملأ وكذلك إرهاب حركة “حماس”(حسب مفهومهم)، فلم نعد نستطيع حمايتك، تتعامل مع أعدائنا- إشارة إلى روسيا والصين والاجتماع الأخير في قمة بريكس- وتعمل على إفشال خططنا في المنطقة.
في النتيجة : لم تعد سياسة الصهر و الانكار للحقوق الكردية ومجابهتها بالعنف تجدي نفعاً من قبل الحكومات التركية المتعاقبة ، ولم يعد بالإمكان عيش الحياة البشرية إلا بنحو مجتمعي حر وديمقراطي ومفعم بالمساواة ضمن الاختلاف بعد أن أدرك الجميع أن الدول القومية التي بنيت على إنكار المجتمع الديمقراطي تعيق اليوم تطور المجتمعِ المدنيِ والديمقراطي، وأصبحت هي ذاتها قضية اجتماعية لابد من حلها وقد آن الأوان لتغييرها.
إن النظام التركي الآن في مفترق طرق فأما أن يسير ويتابع مسيرته عن طريق العسكرة أو ينصاع لمتطلبات الحل الديمقراطي وبالتالي السلام الدائم، وواضح أن المساعي التي تتجه نحو الاتجاه الثاني لا تحتمل التأجيل وأن الأيام ينبغي أن تمر على أرضية مرصوفة بالتكامل والتآخي فهل النظام التركي جاهز لذلك ذهنياً وعملياً؟
يبدو أن هناك انقطاع حاد بين المجتمع التركي والدولة التركية بهذا الخصوص فبالرغم من ازدياد فرصة السلام والحل الديمقراطي إلا أن نزعة التآمر لم تتخل بعد عن أساليب الحرب الخاصة لذا فكل شيء سوف يحدده دبلوماسية الكرد على درب السلام وعبر السياسة الديمقراطية وليس امام الدولة التركية طريق آخر للنفاذ، سوى الاستمرار بشكل جدي وفتح آفاق الحوار والسلام.
المقالة تعبر عن رأي الكاتب